امتزجت همم المسلمين الموحدين بالإسلام فأخذها إلي أرقى درجات السمو والرفعة، وأدى الأولين دورهم في حضارة «لا اله إلا الله» بكل إخلاص وصدق، فبقى علينا نحن أن نسير على دربهم، ومن سار على الدرب وصل.
أصحاب الهمم العالية أعمدة أي حضارة ظهرت في سماء التاريخ، بهم تقوم وعليهم يعول استمرارها وازدهارها. ولقد سجل التاريخ لنا في كل حضارة أفذاذا من العلماء والمفكرين لا يمل القارئ من مطالعة سيرتهم، وجهادهم في الوصول إلي القمم الشاهقة من جبال المجد.
ولقد قامت الحضارة الإسلامية على أمثال هؤلاء العباقرة، ولكن تفرد الحضارة الإسلامية بخصائصها وسماتها جعلت لهم رونقا متميزا، فصار الحديث عنهم ضربا من ضروب الأعاجيب، تنبهر به العقول والأفئدة، وصارت سيرتهم وقودا يشحذ همم المسلمين الراكدة في مبارك الكسل تنادي بسر تقدمهم وسر تقهقرنا.
من أبرز سمات الحضارة الإسلامية ( الإخلاص ) الذي أوجبه الله تعالى على الموحدين، قال تعالى: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} [الكهف:110]، فهذا شرط أبدي لكل من عمل عملا، أن يكون لله تعالى، لا لمدح مادح، ولا لشكر شاكر، ولا لنيل عرض من الدنيا، فالرياء ليس له مكانة ولا ثواب في الإسلام لأن حبله مقطوع ومدده ممنوع، ولذلك لعن -صلى الله عليه وسلم- حركات الدنيا إذا كانت لغير الله، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ما ابتغي به وجه الله» (رواه الطبراني).
وكفي أن يمتزج أي كفاح بالإخلاص، فهو أعظم دافع نحو الصدق والنقاء والتفاني في بلوغ أكرم غاياته، وكفي بالإخلاص غارسا للبركة في العمل، ولذلك لما شاب إخلاصنا اليوم الشوائب عقمت الأمة أن يكون فيها مثل صلاح الدين، بل مثل أحد من جنوده.
كما اتسمت الحضارة الإسلامية بـ ( النقاء والطهارة ) من كل صور وصنوف الرجس، حتى بات وجدان المسلم ينفر من الرجس، فلا تجد في تاريخ الحضارة الإسلامية مثلا مفكرين يفسرون سلوكيات البشر على أساس من الدوافع الجنسية، أو تجد صناع كان لهم الفضل في تطوير صناعة الخمور، بل إن الفن الإسلامي كان على أروع ما يكون من الزخارف والبناء بتنزه الفنان المسلم عن تصوير أو تجسيم الصور المبتذلة والعارية.
واتسمت الحضارة الإسلامية بـ ( الجد والنشاط ) فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( إ «ن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها» ) (رواه الطبراني).. وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: ( «وأسألك العزيمة على الرشد» ) (رواه أحمد). ولقد كان من أوصاف صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم ( كانوا يتبادحون بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال )
وجاء الإسلام بدعامة «تصحيح المفاهيم» ومن أهم المفاهيم التي صححها الإسلام أن ثروة الأمة في النابغين من أهلها، فالإسلام أهتم برعاية بالنابغين، ونفي فكرة «جنون العباقرة» التي كانت سائدة في كثير من المجتمعات البشرية.
فهذا الإمام أبو حيان محمد بن يوسف الغرناطي، قال فيه الصفدي: “لم أره قط إلا يسمع أو يكتب أو ينظر في كتاب، ولم أره على غير ذلك، وكان له إقبال على أذكياء الطلبة يعظمهم وينوه بقدرهم”.
وقد كان ابن شهاب -رحمه الله- يشجع الأولاد الصغار ويقول لهم: “لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم فإن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان إذا نزل به الأمر المعضل دعى الفتيان فاستشارهم يتبع حدة عقولهم”.
وفي القرن السادس عشر قامت محاولة ناجحة في عهد الخلافة العثمانية لتجميع النابغين من جميع الأمصار والقرى وتوفير الرعاية التي جعلت كل نابغة يعطى ما عنده من فن وعلم مما ساعد على ازدهار الدولة العثمانية حضاريا وعسكريا حتى باتت تهدد بغزو أوروبا.
ومن الجدير بالذكر أن رعاية النابغين أهملت في أوروبا وأمريكا حتى بداية القرن العشرين بسبب سوء فهم هذه المجتمعات لأهمية هذه القضية، ولعل سبب ذلك كان كتاب ( Man of Genius) أي ( الرجل العبقري ) لمؤلفه (Lambroso) وكتاب (Insanity Of Genius) أي (جنون العبقرية ) لمؤلفه (Nisbet) وقد نشر الكتابان في لندن ونيويورك في أواخر القرن التاسع عشر، واثبتا فيهما العلاقة الوثيقة بين العبقرية والجنون، وقدما البراهين على أن النابغين مجانين.
ثم بدأت فكرة الغربيين عن النابغين تتحسن بعد أن نشر Terman)) كتابه The Gifted Children Grow Up أي (الطفل النابغة يرشد) سنة 1974م وقدم فيه البراهين على أن الأطفال الأذكياء أصحاء نفسيا وجسميا واجتماعيا مما ساعد على تكوين رأي عام مع النابغين، وحتى منتصف القرن العشرين كان الأمريكيون يعتبرون رعاية النابغين ترفا تربويا ولم يبذلوا جهودا جادة في الكشف عنهم إلا بعد أن أطلق الروس أول مركبة فضائية سنة 1957 وشعروا بالخطر من تفوق الروس عليهم فاتجهوا إلى رعاية النابغين واعتبروها مسألة حياة أو موت.
وهكذا تجاورت الدعامات وحملت عليها أنقى حضارة «حضارة الإسلام» شهد بذلك العدو قبل الصديق، فيقول أوجست كونت: “لا يمكن لدين أن يفعل ما فعله الإسلام إلا أن يكون دينا يستحق أن يدرس بعمق”.. فلقد شمل الإسلام بنوره كل مجالات الحياة، وعلم المؤمنين علو الهمة حق تعليم، فظهروا في سماء البشرية نجوم لا تطفئها الأيام.
علو الهمة في العبادة:
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك قدوتهم، فلقد كان عليه الصلاة والسلام يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، وعن حذيفة -رضي الله عنه- أنه رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي من الليل فقال: الله أكبر (ثلاثا) ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة ثم افتتح فقرأ البقرة ثم ركع، فكان ركوعه نحوا من قيامه، وكان يقول في ركوعه: (سبحان ربي العظيم) ثم رفع رأسه من الركوع، فكان قيامه نحوا من ركوعه، يقول: (لربي الحمد) ثم سجد، فكان سجوده نحوا من قيامه، يقول: (سبحان ربي الأعلى) ثم رفع رأسه من السجود، وكان يقعد فيما بين الجدتين نحوا من سجوده، ويقول: (رب اغفر لي) فصلى أربع ركعات، قرأ فيهن البقرة وآل عمران والنساء. (رواه أبو داود).
وكان أبو بكر -رضي الله عنه- شجي النشيج كثير البكاء، وكان في خد عمر -رضي الله عنه- خطان من آثار الدموع، وكان عثمان -رضي الله عنه- يختم القرآن في ركعة، وكان علي بن أبى طالب -رضي الله عنه- يبكى بالليل في محرابه حتى تخضل لحيته بالدموع، ويقول: يا دنيا غري غيري.
قالت بنت الربيع ابن خيثم له: مالي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام؟ فقال: إن أباك يخاف عذاب البيات.
وكان أبو مسلم الخولاني يعلق سوطا في المسجد يخوف به نفسه، ويقول لنفسه: “قومي، فو الله لأزحفن بك زحفا حتى يكون الكلل منك لا منى” فإذا دخلت عليه الفترة، تناول سوطه وضرب به ساقه، يقول: “أنت أولى بالضرب من دابتي” وكان يقول أيضا: “أيظن أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يستأثروا به دوننا؟ كلا والله لنـزاحمهم عليه زحاما حتى يعلموا أنهم خلفوا وراءهم رجالا”.
وقال سعيد بن المسيب إمام التابعين: “ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة، وما نظرت في قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة” ويؤثر عنه أنه حج أربعين حجة، وما ترك الدعاء والقيام منذ عرف الإسلام حتى لقب براهب قريش، وكان إذا دخل الليل يخاط نفسه: “قومي يا مأوى كل شر والله، لأدعنك تزحفين زحف البعير” فكان إذا أصبح وقدماه منتفختان يقول لنفسه: “بذا أمرت ولذا خلقت”.
ويقول ابن الجوزي عن نفسه: كنت في بداية الصبوة قد ألهمت سلوك طريق الزهاد بإدامة الصوم والصلاة، وحببت إلي الخلوة، فكنت أجد قلبا طيبا، وكان عين بصيرتي قوية الحدة، تتأسف على لحظة تمضي في غير طاعة، وتبادر الوقت في اغتنام الطاعات، ولي نوع أنس وحلاوة مناجاة.
وعن مسلمة بن منصور قال: اشترى أبى غلاما، وكان للأحنف بن قيس فأعتقه، فأدركته شيخا، وكان يحدث أن عامة صلاة الأحنف بالليل الدعاء، وكان يضع المصباح قريبا منه فيضع إصبعه عليه فيقول: “حس يا أحنف، ما حملك على ما صنعت يوم كذا وكذا، يعنى كذا وكذا”.
وعن سعيد بن زيد قال: سمعت أبي يقول: قيل للأحنف بن قيس: إنك شيخ كبير، وإن الصيام يضعفك. قال: أعده لشر طويل.
وكان إبراهيم التيمي إذا سجد تجيء العصافير تنقر على ظهره كأنه جذم حائط.
وقال عون بن عبد الله لأبي إسحاق: ما بقي منك يا أبا إسحاق؟ قال: بقي مني أن أقرأ البقرة في ركعة. قال: بقي خيرك، وذهب شرك.
وكان عطاء بعدما كبر وضعف يقوم إلى الصلاة فيقرأ مائتي آية من البقرة، وهو قائم، ما يزول منه شيء ولا يتحرك.
لقد أحبوا الله حق المحبة، فصدقوا الله في العبادة، وتبارت هممهم للقرب من رب العالمين، وضربوا للبشرية أروع مثال في عبادة الرحيم الرحمن.
همة العلم والتعليم والتأليف:
يقول سارتون: حقق المسلمون -عباقرة الشرق- أعظم المآثر في القرون الوسطى، فكتبت معظم المؤلفات قيمة وأكثرها أصالة وأغزرها مادة باللغة العربية، وكانت من منتصف القرن الثامن حتى نهاية القرن الحادي عشر لغة العلم الارتقائية للجنس البشري، حتى لقد كان ينبغي لأي كائن إذا أراد أن يلم بثقافة عصره وبأحدث صورها أن يتعلم اللغة العربية، ولقد فعل ذلك كثيرون من غير المتكلمين بها، وأعتقد أننا لسنا في حاجة أن نبين منجزات المسلمين العلمية في الرياضيات والفيزياء وعلم الفلك والكيمياء والنبات والطب والجغرافيا.
يقول عبد الرحمن ابن الإمام أبى حاتم الرازي: ربما كان يأكل وأقرا عليه، ويمشى وأقرا عليه، ويدخل الخلاء وأقرا عليه، ويدخل البيت في طلب الشيء وأقرا عليه.
فكان ثمرة ذلك كتاب (الجرح والتعديل) في تسعة مجلدات، وكتاب (التفسير) في عدة مجلدات، وكتاب (المسند) في ألف جزء.
وهذا جابر بن حيان، شيخ الكيمائيين في الإسلام، توفي وعمره 93 سنة، ونبغ أيضا في الطب والفلسفة والطبيعة، وألف مائتي كتاب منها ثمانون كتابا في الكيمياء، ومن عباقرة الكيمياء أيضا عز الدين الجدكي الذي ألف في علم الكيمياء كتابا قيمة منها (نهاية الطلب) و (التقريب في أسرار التركيب)، كل منهما في ألف صفحة.
أما القاضي ابن سيار الأسواري، فقد كان عجيبة العجائب حقا، يقول عنه الجاحظ: إن فصاحته بالفارسية كانت تعدل فصاحته بالعربية، وكان يجلس في مجلس وعظه، فيقعد العرب عن يمينه والفرس عن شماله، فيقرأ الآية من كتاب الله ويفسرها للعرب بالعربية وللفرس بالفارسية، فلا يدري العالم بالغتين معا بأي لسان هو أبين.
وهذا هو الخليل بن أحمد الذي قيل فيه: لو اختير عبقريان من علماء الإسلام لكان أحدهما الخليل بن أحمد، ولقد كافح رحمه الله تعالى في طلب العلم بالبصرة ثم تركها إلى بوادي الأعراب، وجمع ما استطاع جمعه من ألفاظ الأعراب ومواد اللغة، وكان السابق إلى تدوين أول معجم لغوي عرفته العربية، وقد جعل يقابل فصحاء اللغة بمكة عدة سنوات ليقارن ما جمعه بما عندهم ثم رسم الخطة لوضع معجم يشمل المهمل والمستعمل معا، فاحتوى على نحو من 12,305,412كلمة عربية، بعضها مستعمل، وأكثرها مهمل، وهو أول من ابتكر تشكيل الحروف على نمطها المتعارف الآن، وقد كانت وفاته رحمه الله بمسجد البصرة إذ أنه دخل المسجد وهو يفكر في اختراع نوع من الحساب تذهب به الجارية إلى التاجر فلا يظلمها، فصدمته سارية من سواري المسجد فشجت رأسه، وسقط مغشيا عليه، وكانت سبب وفاته رحمه الله تعالى.
أما الإمام العلامة الحافظ عالم العراق وواعظ الآفاق ابن الجوزي الذي يقول فيه الذهبي: ما علمت أحدا من العلماء صنف ما صنف هذا الرجل. وقال سبطه أبو المظفر: أقل ما كان يحضر مجلسه (عشرة آلاف). وكان رحمه الله لا يضيع من زمانه شيئا، يكتب في اليوم أربعة كراريس، ويرتفع له كل سنه من كتابته ما بين خمسين مجلدا إلى ستين مجلدا.
والإمام جلال الدين السيوطي الذي ولد بالقاهرة، وعاش يتيما، ولم يقف اليتم عقبة في طريق طموحه العلمي، فرحل إلى جميع مظانه، ولم يترك عاصمة عربية دون أن يحط رحاله فيها، مستفيدا من علمائها، بل رحل إلي الهند حينما بدا له أن فيها علماء أجلاء يمكن أن يستفيد منهم، وتفرغ للتأليف حينما بلغ الأربعين من عمره، وقد زادت مؤلفاته على خمسمائة كتاب بين التاريخ والفقه والتفسير والحديث واللغة.
وأخيرا ابن حزم، الإمام الجليل الذي ترك منصب الوزارة وزخارف الدنيا، واشتغل بالعلم، ولقد وصفة ابن العماد في كتابه (شذرات الذهب) فقال: كان إليه المنتهى في الذكاء وحدة الذهن وسعه العلم بالكتاب والسنة والمذاهب والملل والنحل والعربية والآداب والمنطق والشعر، مع الصدق والديانة والحشمة والسؤدد والثروة وكثرة الكتب.
وكان رحمه الله له علم في كل فن حتى قيل إن مجلداته تشتمل على أربعمائة مجلد في ثمانين ألف ورقة.
في الكسب والعمل وشتى مناحي الحياة:
فلا يوجد في المجتمع المسلم الصادق عاطل يستمرئ البطالة ويكره الحرفة، وهذا شأن الولاء لله في الحث على الاحتراف وإتقان المهن.
وكان عمر بن الخطاب إذا نظر إلى رجل ذي سيما [هيئة حسنة] يقول: أله حرفة؟ فإن قيل: لا. سقط من عينه.
وكيف لا وأطهر يد، يد الحبيب -صلى الله عليه وسلم- هي التي صنعت القدوم وبنت المسجد وحفرت الخندق مع الصحب الكرام، ولقد كان بيت النبوة مصنعا للغزل حقق الكثير من رغائب المجاهدين، وضرب المثل الأعلى لأصحاب الدين.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت زينب بنت جحش تغزل الغزل وتعطيه سرايا النبي -صلى الله عليه وسلم- يخيطون به ويستعينون به في مغازيهم. (رواه الطبراني).
أما عروه بن مسعود وغيلان بن سلمه فلم يحضرا حصار الطائف لأنهما كانا مسافرين إلى جرش (بلد بالأردن أو اليمن) يتعلمان صناعة العراوات والمجانيق والدبابات.
وعندما فتح المسلمون الأندلس عام 92هجريا اخترع موسى بن نصير دبابة من نحاس وحديد وخشب وجلود، تحصن بها الفاتحون، ونقبوا حصون مدينة حصينة اقتحموها ولم يمسسهم سوء بين دهشة أهلها واستسلامهم.
قال كوندي الأسباني: وعرب الأندلس أول من صنعوا المدافع، ولا تزال مدافعهم التي دافعوا بها عن غرناطة محفوظة في أحد متاحف أسبانيا إلي اليوم.
وقال أيضا: أول من استعمل البارود هم العرب عام 906ميلاديه، وهم الذين نقلوه إلي الأندلس، وعنهم أخذه الإفرنج.
والمسلمون هم الذين اخترعوا أول مطبعة في عهد الناصر بالأندلس، وبذلك سبقوا جوتنبرج الألماني ببضعة قرون، كما ابتكروا الحرف البارزة، ولما كف بصر على بن يوسف بن الخضر الشهير بزين الدين الآمدي وضع ورقة بحروف بارزة في كل كتاب اشتراه للاهتداء إلى اسمه، وبهذا كان أسبق من برايل الفرنسي بردح من الزمن.
والمسلمون هم مخترعو الساعة، فلقد ابتكر ابن يونس المنجم المصري رقاص الساعة قبل جاليليو بستة قرون، كما كانوا أول من صنع الساعة الدقاقة التي أهداها هارون الرشيد إلى شارلمان ملك فرنسا، وكان يخرج منها فوارس يدقون الجرس ثم يعودون بعدد الساعات إلى أربعة وعشرين فارسا، وكان من يشاهدها من الفرنسيين يظنون أنهم عفاريت فيهربون خوفا ورعبا.
وكان المدفع الهاون اختراعا عثمانيا، عرفه العالم لأول مرة في حصار العثمانيين للقسطنطينية، كما كان المدفع الضخم -خاصة مع الهاون- أكبر عامل في فتح المدينة، وقد كان المدفع ضخما جدا تسمع طلقاته من مسافة 25 ميلا، وقذيفته من الحجر والبارود تبلغ زنة القذيفة الواحدة 1500كجم، تصل مداها إلي مسافة ميل، وعندما كان المدفع ينقل من أدرنة العاصمة إلى القسطنطينية ليستقر أمام أسوارها كان لزاما على العثمانيين توسعة طريق أدرنه –القسطنطينية، وقام بهذه العملية 50 مهندسا ومائتا عامل، وكان يجر المدفع 60 جاموسة، ويسند المدفع من على جانبيه 400 رجل قوي.
كما سجل لنا التاريخ مهارة المسلمين في الكسب، وقد كان منهم أصحاب ثروات، ولكن كانت ثرواتهم لشراء الآخرة لا لشراء الدنيا.
فهذا الإمام الليث بن سعد، إمام أهل مصر في الفقه والحديث، وكان في سعة من العيش وثراء عريض، وكان من الكرماء الأجواد، يقال أن دخله في كل عام كان خمسة آلاف دينار، ولم تجب عليه زكاة لأنه كان ينفقها كلها في الصلات.
وقال منصور بن عمار: أتيت الليث فأعطاني ألف دينار، وزار المدينة فأرسل إليه الإمام مالك صينية فيها تمر فأعادها إليه مملوءة ذهبا.
وقد كان الزبير العوام -رضي الله عنه- ذا مال جزيل وصدقات كثيرة جدا، فلما قتل يوم الجمل وجدوا عليه من الدين ألفي ألف ومائتي ألف، فوفوها عنه وأخرجوا بعد ذلك ثلث ماله الذي أوصى به ثم قسمت التركة بعد ذلك فأصاب كل واحدة من الزوجات الأربع من ربع الثمن ألف ألف ومائتا ألف درهم، فعلى هذا يكون جميع ما تركه من الدين والوصية والميراث تسعة وخمسين ألف ألف وثمانمائة ألف.
ومعنى هذا أن تركه الزبير رحمه الله ورضي الله عنه كانت كآلاتي:
مجموع الديون مليونان و200 ألف ونصيب الزوجات الأربع أربعة ملايين و800 ألف ومن المعلوم أن نصيب الزوجة ثمن التركة فتكون التركة المقسمة على الورثة 38 مليون و400 ألف وهذا يعادل الثلثين حيث أوصي بالثلث ومقداره 19 مليون و200 ألف وبهذا تكون التركة بعد الديون 57 مليون و600 ألف درهم.
وهكذا امتزجت همم المسلمين الموحدين بالإسلام فأخذها إلي أرقى درجات السمو والرفعة، وأدى الأولين دورهم في حضارة «لا اله إلا الله» بكل إخلاص وصدق، فبقى علينا نحن أن نسير على دربهم، ومن سار على الدرب وصل.
________________________________________________
المصادر
رياض الصالحين، النووي
صيد الخاطر، ابن الجوزي
علو الهمة، محمد بن إسماعيل
العثمانيون في التاريخ والحضارة، د. محمد حرب
البداية والنهاية، ابن كثير
Source link