التقوى – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة

قال بعض السلف: “التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله”

فإذا تأمل المسلم كم انصرم من عمره؟ وكم ذهب من وقته؟ وهو مع ذلك لا يدري كم بقِيَ من أجَلِهِ؟ مات أناس وهم أصِحَّاء ليس بهم بأسٌ، ومات أطفال لم تكتمل لهم طفولتهم، ومات شباب في قوتهم ورَيعانِ شبابهم، وأنت ما زلت على قيد هذه الحياة، يتذكر المسلم حينئذٍ ما الغاية التي من أجلها وُجِدَ؟ وما الهدف الذي من أجله خُلِق؟ يحمله هذا التذكر على الاستعداد ليوم الرحيل، وعلى تحقيق تقوى الله عز وجل؛ ليتزود منه لرحلة طويلة تنتهي بالمسلم إلى لقاء الله وإلى رضوانه وجنته، وليس ذلك إلا للفائزين يوم العـرض الأكبر.

 

تقوى الله عز وجل ألَّا يجدَك حيث نهاك، ولا يفتقدك حيث أمرك؛ قال بعض السلف: “التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله”، وهي وصية الله للأولين؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131]، أنبياء الله نوح وهود وصالح ولوط وشعيب قالوا لأقوامهم جميعًا: {أَلَا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 106]، ونصحوا فقالوا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 108]؛ ولهذا كان السلف يتواصَون بالحقِّ ويتناصحون فيما بينهم؛ فقد كتب عمر بن عبدالعزيز رحمه الله إلى رجل فقال: “أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يُثيب إلا عليها؛ فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإياك من المتقين”.

 

المؤمن التَّقِيُّ لا يتأخر عن أوامر الله ولا يتردد؛ تأملوا لما أمر الله إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه، وفِلْذَةِ كبده، فاستجاب وأناب، وأمر الله بني إسرائيل بذبح بقرة وهم قبل ذلك يذبحون الأنعام ويأكلونها، لكن لما كان هذا أمر الله ترددوا؛ ليعلم أن السبب ليس في عِظَمِ الأمر على النفس، بل في عظم الآمِر في النفس، والآمر هو الله سبحانه، نعم، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91]؛ ولذلك كان العلم بالله أعظم سبب يُنال به تقوى الله تعالى، وكلما كان الإنسان بالله أعلمَ، كان منه أخوف؛ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، بل إن الأمر يزداد عند الخائفين الوَجِلين من خشية الله أنهم يعملون الصالحات، ويخافون عدمَ قبولها؛ كما قالت عائشة رضي الله عنها: ((يا رسول الله، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]، أهو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر؟ قال: «لا يا بنت الصِّدِّيق، ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي، وهو يخاف ألَّا يُتقبَّلَ منه»؛ (أحمد والترمذي وابن ماجه، وحسنه الألباني

تذكر أنك إذا رُزِقت التقوى، فإنك قد رُزِقت أعظم النعم، وإلا فما الذي أتى بك إلى المسجد لتستمع إلى ذكر الله، وحرم غيرك من ملايين الناس لا يعرفون عبادة الله ولا يرجون ثوابًا؟ وما الذي جعلك تصوم في رمضان خمس عشرة ساعةً في حرٍّ وقَيظ، وغيرك يتمتع بنعمة الله، ويأكل كما تأكل الأنعام، والنار مثوىً لهم؟ وما الذي يجعلك تسافر إلى بيت الله الحرام في بقعة صغيرة مزدحمة لتؤدي مناسك العمرة، وتراها نزهة الروح وسياحة القلب، والكافر يرى المشهد، وأنه إلحاق المشقة بالنفس وإتعاب لها؟ كل ذلك وغيره من توفيق الله لك، فهو سبحانه أهل التقوى، وأهل للشكر والثناء، جل وعلا، فإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، فكُنْ من أهل محبة الله؛ الذين قال فيهم: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4]، فهل هناك أعظم من أن يحبك الله؟ وهل أعظم من أن يحبك خالقك؟ ولهذا يفرح المؤمن بلقاء الله؛ لأنه أعَدَّ العُدَّة، وأخذ بأسباب المحبة، فمن لم يفرح بلقاء الله غدًا، فوالله لن يفرح بعدها أبدًا، ولن يرى سرورًا أبدًا؛ لأنه قد غيَّر الطريق الذي كان يسلكه إلى الله.

 

فيا أخي المسلم، ما عليك إلا أن تُحْسِنَ عملك، وتحافظ على صلاتك، وتحسن الظن بربِّك، فإذا استحييتَ من الله في خَلْوَتِك ووحدتك، سَتَرَك الله يوم القيامة، فكلٌّ ينجو بقدرِ تقواه لربِّه، فإذا علِم الإنسان بهذا، فإنه سيراقب الله في جوارحه وحركاته وسكناته؛ لأن المسلم يعلم أن لذة المعصية زائلة، ويبقى الحساب عنها غدًا، ويبقى همُّها غدًا، وتبقى حسرتها وندامتها.

تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها   ***   من الحرام ويبقى الإثم والعارُ 

تبقى عواقبُ سوءٍ في مَغبَّتِها   ***   لا خيرَ في لذة من بعدها النـارُ 

 

تقوى الله – إخوة الإيمان – تكون حتى في أقل الأشياء؛ يقول مالك بن دينار: “لأن يترك الرجل درهمًا حرامًا خير له من أن يتصدق بمائة ألف درهم، والأشد من ذلك ما كان في حقوق الخَلْقِ؛ لأن الأصل في حقوق الخلق المشاحَّة؛ كما في حديث الْمُفْلِس الذي تحمَّل من مظالم العباد ما تحمَّل، فبَاءَ بإثمِ ذلك، فإن استطعت أن تخرج من الدنيا وليس بينك وبين إنسان مظلمة ولا حق، فافعل؛ فإن الخطأ والذنب في حقه جل وعلا إذا تاب منه العبد وأناب، تاب الله عليه؛ يقول سفيان بن حسين: “ذكرت رجلًا بسوء عند إياس بن معاوية، فنظر في وجهي وقال: أغزوتَ الروم؟ قلت: لا، قال: فالسندَ والهندَ والتركَ؟ قلت: لا، قال: أفتسلَم منك الروم والسند والهند والترك، ولم يسلم منك أخوك المسلم، قال: فلم أعُدْ بعدها”.

 

إذًا فلن ينجيَك من هذه المظالم ومن هذه الذنوب إلا تقواه ومراقبته عز وجل؛ وقد سُئِلَ النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يُدْخِل الناس الجنة قال: «تقوى الله وحسن الخُلُق»؛ (أحمد والترمذي وابن ماجه، وحسنه الألباني)، وقال: «اتقوا النار ولو بشق تمرة»؛ (البخاري ومسلم)، إن الإنسان بتقواه لله تعالى وخاصةً بعد توبته من معصية أو ذنب، تجده في أول الأمر يحِنُّ للمعصية إذا تذكَّرها، ويجد صعوبةً في هجرها، وهذا لا يكون إلا في بادئ الأمر، والشيطان يحرص على هذا الضعف في التائب؛ ليرجعه إلى سابق عهده، فلا بد حينئذٍ من الاستعانة بالله، ومجاهدة النفس، والصبر والمصابرة على ذلك، حتى تألَفَ النفس تركَ المعصية، كما تألف النفسُ الطاعةَ، بل إذا وفقه الله لهذا الطريق، فإن طاعة الله تصبح أنيسَه، ولا يذكر المعصية إلا اعتصم بالله وكرِه ذكرها، بعد أن كان يمارسها ويألفها، وقد شرع الله عبادةً تعين على تحقيق التقوى؛ ألا وهي الصيام؛ فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

 

عباد الله، من ثمار التقوى أن ينوِّرَ الله قلبك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 29]، فترى الحق واضحًا وتتبعه، وترى الباطل بيِّنًا فتجتنبه، ويرزق الله الورع لبعض عباده فيجتنبون المشتبهات، ولا يُسرِفون في المباحات؛ كي لا تقسو قلوبهم، ومن كان هذا شأنه، فإنه يوفَّق للإخلاص والقَبول، وهي ثمرة من ثمار التقوى؛ فالمولى جل وعلا يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]؛ قال أبو الدرداء: “لأن أستيقن أن الله تقبَّل مني صلاةً واحدةً أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها؛ لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]”، فهل أهمَّنا يومًا من الأيام قبولُ أعمالنا، وشُكرُ الله لسعينا؟

 

إخوة الإيمان، الأبواب مغلقة، وبالتقوى يفتحها الله لك، الهموم تُخيِّم على العبد، وبتقوى الله يفرجها عنه، الغموم والمصائب تجتمع على العبد فيبدلها الله له بتقواه فرحًا ونِعَمًا، يضيق الرزق على العبد، وبتقواه لله يرزقه من حيث لا يحتسب، فالتقوى أصلح للعبد، وأجمع للخير.

 

التقوى وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأُمَّتِه؛ فعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: ((صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فوعظنا موعظةً بليغةً ذرَفت منها العيون، ووجِلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأنها موعظةُ مُودِّعٍ، فماذا تعهَد إلينا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن كان عبدًا حبشيًّا»؛ (صحيح أبي داود).

 

وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليها ومولاها»؛ (مسلم).

 

عباد الله، ماذا نفهم من وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه؛ حينما قال له: «اتَّقِ الله حيثما كنت»؟ إننا نفهم أن المرء محتاج للتقوى، ولو كان أعلمَ العلماء؛ لأن الإنسان تمر به حالات يضعف فيها إيمانه وينقص، فيحتاج إلى التقوى لثبات إيمانه.

 

إن التقوى هي أجمل لباسٍ يتزين به العبد؛ قال تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26].

إذا المرء لم يلبَس ثيابًا من التُّقى   ***   تقلَّب عُريانًا وإن كان كاسيا 

 

إن تقوى الله أعظم جُنَّة يحتمي بها العبد يوم القيامة؛ قال تعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر: 61]، والتقوى سبب للإكرام عند الله تعالى؛ قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

 

فاتَّقِ الله حيثما كنت، في السر والعلن، وفي الشدة والرخاء، وفي الخَلْوة والجَلْوَة.

فتأملوا الحديث الذي رواه البخاري فيما يرويه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه: «… وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه»، فأصبح هذا العبد مُسدَّدًا في جوارحه، حافظًا لها من الزَّلَّات، ينأى في طريقه عن المزالق، فهنيئًا لمن تقرب إلى مولاه، فمن اتقى الله وخافه في الدنيا، أمَّنه يوم القيامة، وأزاح عنه كل خوف ومرهوب؛ {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف: 35]، وقال عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، فيا لفرحة التَّقِيِّ إذا تجاوز الصراط وثقُل له الميزان! يا لفرحة التقي إذا دخل النعيم والجِنان! يا لفرحة التَّقِيِّ إذا نظر إلى الرحيم الرحمن! يا لسعادة التقي إذا التقى بالرسل الكرام! يا لسعادة التقي إذا لقِيَ في سوق الجنة الإخوان والجيران! يا لبهاء منظرهم! ويا لحسن مشهدهم!

 

فاسأل ربك الثباتَ؛ كما كان هو أكثر دعائه عليه الصلاة والسلام بقوله: «يا مقلب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك»؛ (صحيح الترمذي)، فاللهم يا مقلب القلوب، ثبِّت قلوبنا على دينك.

______________________________________________________

الكاتب: وليد مرعي الشهري


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

خطر الإلحاد (2) – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة السفر إلى بلاد الكفار للدراسة أو غيرها دون التقيد بالضوابط الشرعية -القراءة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *