منذ حوالي ساعة
من آداب الدائن والمُقْرِض التي علمها لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون حَسَن الطلب إذا جاء وقت سداد دَيْنِه، فيطلب ماله وحقه بأدب، وبأحسن طريقة، وألطف عبارة، وهنيئاً لمن رزقه الله حُسْن التقاضي…
ما أظلت الخضراء وما أقلت الغبراء أحسن خُلُقَاً مِنْ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.. ومن عظيم أخلاقه وجميل صفاته المعروف والمشهور بها: حلمه مع من جهل عليه، وعفوه عمن ظلمه، وإحسانه لمن أساء إليه، قال الله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} [المائدة:13] )، قال السعدي: “أي: لا تؤاخذهم بما يصدر منهم من الأذى، واصفح، فإن ذلك من الإحسان”.
والسيرة النبوية فيها الكثير من الأمثلة والمواقف الدالة على حلمه وعفوه صلى الله عليه وسلم الذي شمل المسلم والكافر، والصديق والعدو، ومن هذه الأمثلة حلمه على ذلك الرجل الذي أساء إليه وأغلظ له حين جاء يريد دَيْنَه الذي كان له عنده صلى الله عليه وسلم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان لرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حق فأغلظ له، فهَمَّ به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لصاحب الحق مقالاً» ، فقال لهم: «اشتروا له سِنَّاً (جملاً) فأعطوه إياه» ، فقالوا: إنا لا نجد إلا سِنّاً هو خير من سِنِّه، قال: «فاشتروه فأعطوه إياه فإن من خيركم ـ أو خيركم ـ أحسنكم قضاء» (رواه مسلم). ولفظ البخاري: «دعوه، فإن لصاحب الحقِّ مقالًا».
قال المباركفوري: “(فهمَّ به أصحابه) أي: أراد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذوه بالقول أو الفعل، لكن لم يفعلوا أدبا مع النبي صلى الله عليه وسلم، (دعوه) أي: اتركوه ولا تزجروه”.
وقال ابن حجر: “وفي الحديث جوازُ المطالبة بالدين إذا حلَّ أجلُه، وفيه حسنُ خلقِ النبي صلى الله عليه وسلم وعِظَم حِلمه، وتواضعه وإنصافه، وأن مَنْ عليه دَيْن لا ينبغي له مجافاة صاحب الحق.. وفيه: جواز وفاء ما هو أفضل من المِثل المقترَض إذا لم تقع شرطية ذلك في العقد، فيحرم حينئذ اتفاقاً وبه قال الجمهور”.
وقال المناوي: “(إن لصاحب الحق) أي الدَيْن (مقالا) أي صولة الطلب وقوة الحجة”.
وقال النووي: “(إن لصاحب الحق مقالا) فيه: أنه يُحْتمَل من صاحب الدَيْن الكلام المعتاد في المطالبة، وهذا الإغلاظ المذكور محمول على تشدد في المطالبة ونحو ذلك من غير كلام فيه قدح أو غيره مما يقتضي الكفر، ويُحْتمَل أن القائل الذي له الدين كان كافراً من اليهود أو غيرهم، والله أعلم”.
وقال القرطبي في “المُفْهِم لما أَشْكَلَ من تلخيص كتاب مسلم“: “و(قوله: كان لرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم دَيْن، فأغلظ له) هذا الرجل كان من اليهود، فإنهم كانوا أكثر من يعامل بالدَّين. وحُكِي: أن القول الذي قاله، إنما هو: إنكم يا بني عبد المطلب مُطل. وكذب اليهودي، لم يكن هذا معروفاً من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم ولا أعمامه، بل المعروف منهم: الكرم، والوفاء، والسَّخاء، وبعيد أن يكون هذا القائل مسلماً، إذ مقابلة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أذى للنبي صلى الله عليه وسلم وأذاه كفر. وقوله: (فهمَّ به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) أي: بأخذه لِيُقام عليه الحُكم. وقوله لأصحابه: (دعوه) دليل: على حُسْنِ خُلُقِه، وحلمه، وقوة صبره على الجفاء مع القدرة على الانتقام.. وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن لصاحب الحق مقالا» يعني به: صولة الطلب، وقوَّة الحجة، لكن على من يُمطل، أو يسيء المعاملة، وأما من أنصف من نفسه: فبذل ما عنده، واعتذر عما ليس عنده، فيُقبل عذره، ولا تجوز الاستطالة عليه، ولا كَهْره (استقباله بوجهٍ عابسٍ).. وفيه دليل: على صحة الوكالة في القضاء. وفيه: جواز الزيادة فيه”.
وقال صاحب “فتح المنعم شرح صحيح مسلم“: “ويؤخذ من الحديث: “جواز المطالبة بالدين، إذا حلَّ أجله. وفيه: حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، وعظم حلمه وتواضعه وإنصافه. وأن من عليه دَيْن لا ينبغي له مجافاة صاحب الحق والإساءة إليه لمطالبته، فإن له مقالاً، لكن بالآداب الشرعية.. وفيه أن الاقتراض في الأمور المباحة لا يعاب، فكيف في البر والطاعة؟.. وفيه حسن القضاء، وأنه يستحب لمن عليه الدين، من قرض وغيره أن يرد أجود من الذي عليه، وهذا من السنة ومكارم الأخلاق، وليس هو من قرض جر منفعة فهو منهي عنه”.
فائدة:
من هَدْي نبينا صلى الله عليه وسلم في الدَيْن: السماحة من الدائن والمُقْرِض، والمسارعة في القضاء والسداد من المَدين والمُقْتَرِض. فمن آداب الدائن والمُقْرِض التي علمها لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون حَسَن الطلب إذا جاء وقت سداد دَيْنِه، فيطلب ماله وحقه بأدب، وبأحسن طريقة، وألطف عبارة، وهنيئاً لمن رزقه الله حُسْن التقاضي، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم له بالرحمة، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله عبدًا سمحاً (سهلا) إذا باع, سمْحاً إذا اشترى, سمحاً إذا قضى, سمحاً إذا اقتضى (طلب حقه)) (رواه البخاري).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من طلب حقاً، فليطلبه في عفاف وافياً أو غير واف» (رواه ابن ماجه وصححه الألباني). أي عفَّ في أخذه بسوء المطالبة والقول السئ، سواء وفَّى لك حقك أو أعطاك بعضه، لا تفحش عليه في القول، قال ابن المنذر: “وفى هذا الحديث الأمر بحسن المطالبة وإن قبض هذا الطالب دون حقه”.
أما المَدِين والمُقترِض فعليه استحضار نية الأداء عند الأخذ، والعزم على ذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله» (رواه البخاري). وعليه كذلك المسارعة بتسديد الدَين، وعدم تأخير السداد عند القدرة على القضاء، فهذا أقل ما يُقابل به معروف الدائن، والتأخر في السداد مع القدرة عليه من الظلم المحرم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَطْلُ (التسويف وعدم القضاء) الْغَنِيِّ ظُلْم» (رواه البخاري). قال القاضي عياض: “المطل منع قضاء ما استحق اداؤه، فمطل الغني ظلم وحرام”.
وإذا حان وقت السداد، ولم يجد المَدينُ والمقترض ما يسد به دَيْنه، فينبغي عليه أن يجتهدَ في الوفاء ولوْ أن يستدين من إنسان آخر ليرد للأول دَيْنه الذي حان وقت سداده، وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن فوائد هذا الموقف النبوي مع هذا الرجل الذي أغلظ له القول في طلبه لدينه: حُسْنُ خُلُق نبينا صلى الله عليه وسلم، وحلمه الذي اتسع حتى جاوز العدل إلى الفضل مع من جهل عليه، وعفوه عمن أساء إليه، وإحسانه إليه، قال الله تعالى: وقال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصِّلت:34]، قال السعدي: “أي: فإذا أساء إليك مسيء من الخَلق، خصوصاً من له حق كبير عليك، كالأقارب والأصحاب ونحوهم، إساءة بالقول أو بالفعل، فقابله بالإحسان إليه، فإن قطعك فَصِلْهُ، وإن ظلمك، فاعف عنه، وإن تكلم فيك، غائباً أو حاضراً، فلا تقابله، بل اعف عنه، وعامله بالقول اللين. وإن هجرك، وترك خطابك، فَطيِّبْ له الكلام، وابذل له السلام، فإذا قابلت الإساءة بالإحسان، حصل فائدة عظيمة”.
Source link