وقفات مع آية الكرسي – طريق الإسلام

1- فَضَائِلُ وَمَنزِلَةُ آية الكُرسِي. 2- مَعَانِي وَهِدَايَاتِ هَذِهِ الآيَة. 3- الأَوْقَاتُ التِي يُستَحَبُّ قِرَاءَتُهَا فِيهَا.

من فضائل ومنزلة هذه الآية: أنها أعظم آية في كتاب الله تعالى.

كما في صحيح مسلم عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:  «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ» ؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:  «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ» ؟ قَالَ: قُلْتُ: {اللَّهُ ‌لَا ‌إِلَهَ ‌إِلَّا ‌هُوَ ‌الْحَيُّ ‌الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي، وَقَالَ:  «لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ».

 

يعني: هنيئًا لك هذا العلم.

 

ولاحظ أنه سأله: عن أعظم آية من بين أكثر من 6200 آية.

 

وفي رواية:  «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ لَهَا لِسَانًا وَشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ الْمَلِكَ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ»؛ (رواه أحمد، وصححه الألباني في الصحيحة).

 

وهذا دليل: على أن سور القرآن الكريم وآياته تتفاضل لا باعتبار من تكلم بها؛ ولكنها متفاضلة باعتبار الألفاظ والمعاني، فإن أكثر أهل العلم قالوا: القرآن كله كلام الله سبحانه وتعالى، وهو أفضل الكلام وأعظمه؛ ولكن بعضه أفضل من بعض؛ وذلك عملًا بالأحاديث التي وردت في فضل سورة الفاتحة والإخلاص، وآية الكرسي.

 

ومعنى كلمة الآية: هي الطائفة من القرآن مميزة بفصل؛ لأن القرآن الكريم فيه 114 سورة، وكل سورة تتكون من آيات كما هو معلوم.

 

ولماذا أعظم آية؟

قَالَ الْعُلَمَاءُ: لِأَنَّهُ يتكَرَّرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى ما بَيْنَ مُضْمَرٍ وَظَاهِرٍ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ مَرَّةً، وقد اشتملت هذه الآية المباركة على خمسة أسماء مِن أسماء الله الحسنى؛ وهي: (اللهُ، الْحَيُّ، الْقَيُّومُ، الْعَلِيُّ، الْعَظِيمُ)، وتشتمل أيضًا عَلَى عَشْرِ جُمَلٍ مُسْتَقِلَّةٍ، كُلُّ جملة لها معنى عظيم في تقرير التوحيد، وذكر البراهين والدلائل على ذلك.

 

قال السعدي رحمه الله: “هذه الآية الكريمة أعظمُ آيات القرآنِ وأفضلُها وأجلها؛ وذلك لما اشتملت عليه من الأمور العظيمة والصفات الكريمة؛ فلهذا كثرت الأحاديث في الترغيب في قراءتها، وجعلها وردًا للإنسان في أوقاته صباحًا ومساءً، وعند نومه، وأدبار الصلوات المكتوبات”.

 

• يقول الله عز وجل، بعد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {اللَّهُ ‌لَا ‌إِلَهَ ‌إِلَّا ‌هُوَ ‌الْحَيُّ ‌الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255].

 

بدأت الآية بهذا الاسم الحسن: {اللَّهُ}، وهو الاسم الأعظم، والذي تعود له جميع الأسماء الحسنى، وهو دال ومتضمن لمعاني جميع الأسماء الحسنى، ‏وهذا الاسم اقترنت به عامة الأذكار المشروعة: التهليل، والتكبير، والتسبيح، والتحميد، والحوقلة، والحسبلة، والاسترجاع، والتسمية، والبسملة، والاستعاذة، وغيرها.

 

وهو أكثر الأسماء ورودًا وذِكْرًا في القرآن الكريم؛ فقد ورد أكثر من 2300 مرة، وافتتح الله تعالى به 33 آية.

 

‏وهو عَلَمٌ على ذات الربِّ جل جلاله؛ ولذلك لم يُسمَّ به سِوَاه سبحانه وتعالى؛ كما قال تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ‌وَمَا ‌بَيْنَهُمَا ‌فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65].

 

ومعناه: المألوه؛ أي: المعبود أو المستحق للعبادة لما اتصف به من صفات الألوهية التي هي صفات الكمال.

 

{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}:

هي كلمة الإخلاص، وهي كلمة التقوى والعروة الوثقى، وهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، ‏ومعناها: أي: لا معبود بحق إلا الله؛ كما قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ ‌إِلَهٌ ‌وَاحِدٌ ‌لَا ‌إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163].

 

{لَا إِلَهَ}:

نافيًا جميعَ ما يُعبَدُ مِن دونِ اللهِ، ‏ {إِلَّا هُوَ} مُثبِتًا العِبادةَ للهِ وَحْدَه لا شَريكَ له في عبادتِه، كما أنَّه ليس له شَريكٌ في مُلْكِه.

 

يقول الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد: [باب تفسيرِ التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا الله]، وذكر قَوله تعالى:  {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ‌إِنَّنِي ‌بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 26-28].

 

وهي أعلى شُعب الإيمان؛ ففي الحديث الصحيح:  «الإيمانُ بِضعٌ وسَبعونَ -أو بِضعٌ وسِتُّونَ- شُعبةً، فأفضَلُها قَولُ لا إلهَ إلَّا اللهُ».

 

وهذه الكلمة هي المنجية من النَّار لمن قالها بصدق وإخلاص؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:  «فإن الله قد حرَّم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله».

 

ومن كانت آخر كلامه من الدنيا دخل الجنة؛ عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  «من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة»؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمِّه أبي طالب حين حضرته الوفاة:  «يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أُحاجُّ لك بها عند الله»، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله.

 

وهي أفضل الذكر، وأفضل ما يُقال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله»، وفي الحديث:  «وخير ما قلتُ أنا والنبيُّون مِنْ قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير».

 

وهي أثقل شيء في ميزان العبد يوم القيامة، ‏وهذه الكلمة هي التي من أجلها أرسل الله الرسل والأنبياء، وقامت الأرض والسماء؛ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ ‌لَا ‌إِلَهَ ‌إِلَّا ‌أَنَا ‌فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وقال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ‌أَنْ ‌أَنْذِرُوا ‌أَنَّهُ ‌لَا ‌إِلَهَ ‌إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل: 2].

 

{الْحَيُّ}:

وهذا اسم من أسماء الله تعالى، ومتضمن لصفة الحياة، ومتضمن أيضًا لجميع صفاته الذَّاتية سبحانه وتعالى، وحياة الله تعالى غير حياة المخلوق؛ فحياة المخلوق يسبقها عدم، ويلحقها ويعقبها الفناء والموت؛ وأما حياة الله تعالى فلم تُسبق بعدم، ولا يلحقُها فناءٌ، ولا يعتريها نقصٌ؛ فقد قال تعالى عنها: {هُوَ ‌الْأَوَّلُ ‌وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم كما في دعائه:  «اللهمّ أنتَ الأوَّلُ الذي ليسَ قبلكَ شيء، وأنتَ الآخرُ الذي ليسَ بعدكَ شيء، وأنتَ الظاهرُ فليسَ فوقكَ شيء، وأنت الباطنُ فليسَ دونكَ شيء، اقْضِ عنَّا الديْنَ، وأغنِنا من الفقرِ».

 

فمن كان هذا شأنُه، فهو المستحِقُّ لأن يُفردَ بالعبادة، أما الحي الذي يموت، أو الحي الذي قد مات، أو الجمادُ الذي لا حياةَ له، فكلُّ هؤلاء ليس لهم في العبادة أيُّ حق؛ ولذلك آيات كثيرة في هذا المعنى؛ ولذلك قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مقولته الشهيرة: “فمَن كانَ مِنكُم يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإنَّ مُحَمَّدًا قدْ مَاتَ، ومَن كانَ مِنكُم يَعْبُدُ اللَّهَ فإنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ”.

 

قال ابنُ جريرٍ الطبري رحمه الله: “وأما قولُه: {الْحَيُّ} فإنَّهُ يعني: الذي له الحياةُ الدائمةُ والبقاءُ، الذي لا أولَ له بحدٍّ، ولا آخِرَ له بأَمد؛ إذ كَانَ كلُّ ما سِوَاه، فإنه وإن كان حيًّا فلحياتِهِ أولٌ محدودٌ، وآخرٌ ممدودٌ، ينقطع بانقطاعِ أمدِها، وينقضي بانقضاءِ غايتِها”.

 

{الْقَيُّومُ}:

والقيوم: اسم من أسماء الله تعالى؛ ومعناه: القائم بنفسه، والقائم بِشُؤون خلقه، ولا يحتاج إلى مساعدة غيره.

 

فقيامه بنفسه يدل على كمال غناه، وقيامه بشؤون خلقه يدل على افتقار كل الخلائق إليه سبحانه وتعالى.

 

رَوَى الترمذيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ، قَالَ:  «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ».

 

{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}:

هذا من براهين وكمال حياة الله تعالى، وكمال قيومته؛ فالقائم بمصالح العباد يتنزَّه عن أن ينام، ‏وليس النوم؛ بل السِّنة؛ أي: لحظة يسيرة، وهي مقدمة النوم، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال:  «إِنَّ اللَّهَ تعالى لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِه».

 

{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}:

فهو الذي خلق سبحانه وتعالى، وهو الذي يملك؛ وهو المستحق للعبادة.

 

قال العلماء: ومن أنفع ما يكون في تقرير إبطال الشرك بحجة وبرهان، أن الله تعالى وحده هو الذي له ما في السموات وما في الأرض، فالكل عبيده، وكل ما في السموات والأرض تحت ملكه وقهره وسلطانه؛ فكل شيء في السماء، أو في الأرض هو له سبحانه وتعالى؛ كما قال الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ ‌عَبْدًا} [مريم: 93]؛ ‏ولذلك ذم الله تعالى الذين يتوجهون إلى غيره بالدعاء والعبادة، وأنهم لا يملكون شيئًا: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ ‌زَعَمْتُمْ ‌مِنْ ‌دُونِ ‌اللَّهِ ‌لَا ‌يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22].

 

قال العلماء: هذه الآية تقطع عروق شجرة الشرك من القلب لمن عقلها.

 

فالله عز وجل له الملك التام، وهو المستحق للعبادة؛ أما المخلوق فلا يملك شيئًا؛ وحتى لو ملك شيئًا في هذه الدنيا، ومهما كان كثيرًا فمصيره إلى أمرين:

1- إما أن يفارق هو ما يملك بالموت.

2- وإما أن يفارقه ما يملك بجائحة، أو تلف، أو ضياع، أو نحو ذلك؛ كما قال الشاعر:

أموالُنا لذوي الميراثِ نجمعُها   ***   ودُورُنا لخراب الدهر نبنيها 

 

{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}:

أي: لا يستطيع أحد أن يشفع لأحد إلا بإذن الله تعالى، وأن يرضى عن المشفوع؛ كما قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ ‌لَا ‌تُغْنِي ‌شَفَاعَتُهُمْ ‌شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]؛ فكل الوجهاء والشفعاء عبيد له مماليك، لا يقدمون على شفاعة لأحد حتى يأذن لهم سبحانه وتعالى.

 

{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}:

أي: يعلم كل شيء، ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، ويعلم ما أمامهم وما خلفهم، فعلمه سبحانه وتعالى محيط بكل شيء؛ كما قال تعالى: {لِتَعْلَمُوا ‌أَنَّ ‌اللَّهَ ‌عَلَى ‌كُلِّ ‌شَيْءٍ ‌قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].

 

{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}:

أي: لا يحيطون بشيء قليل من العلم إلا بإذن الله تعالى؛ فلا يطَّلع أحدٌ من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عز وجل وأطلعه عليه؛ كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ ‌فَلَا ‌يُظْهِرُ ‌عَلَى ‌غَيْبِهِ ‌أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26-27].

 

وتأمل: في قصة سيدنا موسى عليه السلام مع الخضر: ((وجَاءَ عُصْفُورٌ، فَوَقَعَ علَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ في البَحْرِ نَقْرَةً، فَقالَ له الخَضِرُ: ما عِلْمِي وعِلْمُكَ مِن عِلْمِ اللَّهِ إلَّا مِثْلُ ما نَقَصَ هذا العُصْفُورُ مِن هذا البَحْرِ))؛ فكل هذه العلوم والدروس والخطب والمحاضرات والمواعظ لا تساوي نقطة من علم الله تعالى.

 

{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}:

الْكُرْسِيُّ: هو مكان وضع القدمين؛ قال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: “الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ، وَالْعَرْشُ لَا يَقْدِرُ قَدْرَهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ”.

 

وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم فقال:  «ما السموات السَّبعُ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ تِلْكَ الْفَلَاةِ عَلَى تِلْكَ الْحَلْقَةِ»؛ فسبحان الله رب العرش العظيم.

 

{وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا}:

أي: لا يُعجزه ولا يثقله، ولا يشتد عليه حفظ السموات والأرض وما فيهما؛ بل ذلك سهلٌ عليه يسيرٌ لديه؛ لأن الذي أوجدها، والقائم على كل شيء فيها، ولا يغيب عنه شيء منها: لا يعجز عن حفظها!

 

كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ ‌تَزُولَا ‌وَلَئِنْ ‌زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41].

 

{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}:

أي: العالي فوق خلقه، الذي له علو الذات، وعلو المنزلة، وعلو القهر والسلطان سبحانه وتعالى.

 

وهذه من الآيات التي يستدل بها أهل السنة والجماعة على أن الله تعالى من صفاته صفة العلو، فهو مستوٍ على عرشه، مطلع على خلقه؛ خلافًا لِفِرَق الضلالة: الذين يقولون: إن الله في كل مكان، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.

 

‏والعظيم؛ أي: الكبير المتعال، الذي له العظمة؛ فلا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، وهذا الاسم دال على صفة العظمة لله تعالى؛ فهو عظيم في ذاته، وفي أسمائه وصفاته، وأفعاله، وفي شرعه وأوامره ونواهيه.

 

 

الأَوْقَاتُ التِي يُستَحَبُّ قِرَاءَتُهَا فِيهَا

1- عند النوم:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ، فأخذته وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج، وعلي عيال، ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:  «يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة» ؟ قال قلت: يا رسول الله، شكا حاجةً شديدةً وعيالًا؛ فرحمته وخليت سبيله. قال:  «أما إنه قد كذبك وسيعود»، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود.

 

(وتكرر في المرة الثانية)

وفي المرة الثالثة قال: قَالَ دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا، قُلْتُ: مَا هُوَ؟ قَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ‌الْحَيُّ ‌الْقَيُّومُ} حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:  «مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ» ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ:  «مَا هِيَ» ؟ قُلْتُ: قَالَ لِي: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ، وَقَالَ لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ [وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الْخَيْرِ]، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:  «أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ» ؟ قَالَ: لَا، قَالَ:  «ذَاكَ شَيْطَانٌ».

 

قَالَ عَلِيُّ بن أبي طالب، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “مَا أَرَى أَحَدًا يَعْقِلُ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ”.

 

2- في الصباح والمساء:

لحديث أُبَيِّ بن كعب، وفيه قال: فما ينجينا منكم؟ قال: هذه الآية التي في سورة البقرة: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ‌الْحَيُّ ‌الْقَيُّومُ} من قالها حين يمسي أجير منا حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح أجير منا حتى يمسي. فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له فقال:  «صدق الخبيث»؛ (رواه النسائي، والطبراني، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب).

 

وهذا فيه فضل التوحيد؛ وأن أهل التوحيد لا تقربهم الشياطين؛ بل مجرد قراءة هذا الآية المتضمنة للتوحيد تطردهم، وكذلك لا يستطيع السحرة والمشعوذون أن يتعرضوا لهم بأذى.

 

3- دبر الصلوات المكتوبة:

عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ».

 

وهذا الحديث فيه دليل على أن الجنة قريبة من المؤمن؛ فليس بينه وبينها إلا أن يموت؛ كما في الحديث:  «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نَعْله».

 

وهذا باب عظيم من أبواب الخير ينبغي للمسلم أن يحافظ عليها؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ما تركتها عُقَيب كلِّ صلاة”.

 

نسأل الله العظيم أن يجعلنا من أهل القرآن، وأن يحفظنا بحفظه.

____________________________________________________
الكاتب: رمضان صالح العجرمي


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

تفسير: (ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم..)

تفسير: (ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) [الأحزاب (48)] …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *