منذ حوالي ساعة
قد جاءت هذه الآية بعد نداء الله للذين آمنوا، في الآيات السابقة أن ينتهوا عن موالاة اليهود والنصارى، وأن يحذروا أن يصيروا منهم بالولاء لهم، وأن يرتدوا بذلك عن الإسلام – وهم لا يشعرون أو لا يقصدون –
لقد جاوز الظالمون المدى أيها المسلمون، واغتصبوا أرض الإسلام، واستباحوا الديار، وقتلوا الشيوخ والنساء والأطفال، ولم يعد للمسلمين من يتولَّى أمرهم أو ينصر قضيَّتهم، بل انشغلوا بحياتهم وشهواتهم، وحاشيتهم وذراريهم، ينشِّئونهم في ديار الكفر يعدونهم لأدوارٍ يتوارثونها.
فلم يعد لدعوة الحق، من ينصرها ويقوم بها، فكان وعد الله في سننه الكونية أن تمضي في طريقها الذي خطه الله في عباده.
أيها المسلمون؛ إن تعرضوا عن الله، وعن طاعة الله، يستبدل اللهُ بكم قومًا آخرين، وتصيب الأمة التي امتنعت والشعب الذي امتنع بالبلاء والمحن، ثم يستبدل قومًا غيرهم يحملون راية الدعوة وأمانتها بحق.
فأين الشعوب التي كانت من قبل؟!!
أين عاد وثمود؟!!
إن سنة الاستبدال تقع ضمن منظومة سننيةٍ أعلى وهي سنة ” التغيير “، فالثابت في حركة التاريخ والأمم والإنسان أن التغيير هو المبدأ الذي يحكم حركة الكون والأحياء، {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]، إلا أن هذا التغيير والحركة الدائمة في الكون لها قوانينها وسننها الثابتة التي تفسر لنا هذا التغيير واتجاهه وعوامله، كما تتنبأ بحدوثه.
فإذا تولَّى جيلٌ من الأجيال أو قرنٌ من القرون – بحسب التعبير القرآنيّ – عن تحقيق الأهداف التي يريد الله تحقيقها على يديه، جرت عليه سنّة الاستبدال وأحلّ قومًا آخرين محلّ القوم الذين فشلوا في تحقيق ما يراد منهم تحقيقه.
وهذا هو الاستبدال أي هو نقل راية الله من يدٍ إلى يدٍ.
والقرآن الكريم يوضح لنا هذه السنة الكونية، وقواعد حركة التغيير التي تحدث في التاريخ والحضارات والأمم، في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، وفي قوله تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال: 53].
وقد جاءت كلمة “الاستبدال” في القرآن في موضعين: قال تعالى: {إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} [التوبة: 39].
وقال تعالى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
كما جاء وعد الله للطائفة التي ستأتي تحمل راية الإسلام وتزود عنه بأن لهم خصائص حددها الله في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].
وهذه سنة التمكين الوجه المقابل لسنة الاستبدال، فما كان هناك استبدال لقوم إلا ويوازيه تمكين لقوم آخرين.
ولفظ (فَسَوْفَ) جيء به هنا في الآية الكريمة لتأكيد وقوع الأمر في المستقبل، إذا ما ارتد بعض الناس على أدبارهم. وهذا ما نشاهده الآن رأي العين وينشر عيانا على كل وسائل النشر، بل ويفتخرون بأنهم يقومون به.
وقد جاءت هذه الآية بعد نداء الله للذين آمنوا، في الآيات السابقة أن ينتهوا عن موالاة اليهود والنصارى، وأن يحذروا أن يصيروا منهم بالولاء لهم، وأن يرتدوا بذلك عن الإسلام – وهم لا يشعرون أو لا يقصدون – فيرسل الله النداء الثاني، يهدد من يرتد منهم عن دينه – بهذا الولاء أو بسواه من الأسباب – بأنه ليس عند الله بشيء، وليس بمعجز الله ولا ضار بدينه، وأن لدين الله أولياء وناصرين مدخرين في علم الله، إن ينصرف هؤلاء يجيء بهؤلاء. ويصور ملامح هذه الطائفة المختارة المدخرة في علم الله لدينه، وهي ملامح محببة جميلة وضيئة. ويبين جهة الولاء الوحيدة التي يتجه إليها المسلم بولائه. ويختم هذا النداء بتقرير النهاية المحتومة للمعركة التي تخوضها هذه الفئة مع الأحزاب! والتي يتمتع بها من يخلصون ولاءهم لله ولرسوله وللمؤمنين.
وكأن هذا النداء يناديه الله للتو فما نحن فيه الآن يصف هذه الحالة التي تخوض فيها غزة حربها ضد كل أحزاب الكفر من اليهود والنصارى ودول الكفر كافة، مع تخاذل المنافقين والمثبطين والمبدلين لدين الله.
وكأنها تصف هذه الفئة المكرمة في غزة، ممّن يحبّون الله ويحبّون أن يعبد في أرضه، ولا يرتدّون عن تعاليم وأحكام دينه، ولا يتخلّفون عن الجهاد والتضحية بكلّ ما يملكون في سبيله، بل يقبلون على الجهاد بصدر رحب وقلب مستبشر بلقاء الله ورضوانه، ولا يخافون لوم الناس والمنافقين اللائمين لهم عند أدائهم لواجباتهم والدفاع عن الحقّ، لأنّهم على ثقة بالله وبأنّهم على دين الحقّ. وعليه فإنهم لن يضرّوا الله شيئًا بل المتضرّر هم المنافقون والمرتدّون لأنهم حرموا من هذا الفضل العظيم والنعمة الكبرى.
ثم إن ذلك الاختيار والاصطفاء من الله، وذلك الحب المتبادل بينه وبين المختارين، وتلك السمات التي يجعلها طابعهم وعنوانهم، وهذا الاطمئنان إلى الله في نفوسهم، والسير على هداه في جهادهم.. ذلك كله من فضل الله.، والذي يراه العالم ليل نهار من شعب غزة في كل وسائل النشر والإعلام، والذي أبهر كل العالم حتى الكافر منهم. وقد رأينا دخول الكثير في الإسلام لما رأوه من صدق أهل غزة وصبرهم واعتمادهم على الله.
_________________________________________
الكاتب: أ. د. فؤاد محمد موسى
Source link