إنما النصر صبر ساعـة – طريق الإسلام

حين التقاء الجيوش واحتدام المعارك والمراغمة والمدافعة بين فريقين، عند ذلك يظفر بالنصر من وفق للصبر؛ ولذا أوصى الله عباده بالصبر فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ …}.

مقولة يظنها البعض حديثا، ولكن مع البحث ظهر أنها ليس كذلك، ولكن أقرب من نسبت إليه هو البطل المغوار وأعجوبة الإسلام وأهل الشام القائد المقدام أبو عبد الله البطال. بلفظ “الشجاعة صبر ساعة”.

نسبها إليه الإمام الحافظ الذهبي في كتابه (تاريخ الإسلام) حيث قال: “عَنْ أَبِي بَكْر بْن عيّاش قَالَ: قِيلَ للبطّال: ما الشجاعة؟ قَالَ: صبرُ ساعة”.اهـ.

ونسبها له كذلك الحافظ ابن عساكر في كتابه (تاريخ دمشق)، والحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه (جامع العلوم والحكم) عند شرحه للحديث التاسع عشر.

قال الإمام الذهبي في (سير أعلام النبلاء) عن البطال هذا: “رَأْسُ الشُّجْعَانِ وَالأَبْطَالِ، أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ البَطَّالُ، مِنْ أَعْيَانِ أُمَرَاءِ الشَّامِيِّيْنَ، أَوْطَأَ الرُّوْمَ خَوْفاً وَذُلاًّ. قُتِلَ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَمائَةٍ”. اهـ. بتصرُّف يسير.

وأقرب ما روي من أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا القول هو قوله: «وإنما النصر مع الصبر» وهو حديث صحيح رواه أحمد وغيره عن ابن عباس، وحسنه ابن حجر وصححه الألباني وأحمد شاكر وغيرهما”.

وهذا الحديث الكريم المبارك، وكذلك هذه المقولة الصادقة «إنما النصر صبر ساعة» إنما هي كلمة جامعة تحيط حياة العبد من كل جوانبها، وتصلح أن تُحكّم على كل موقف من مواقفه الدنيوية والأخروية.

إن ساعة الصبر هذه تشمل أنواع الصبر الثلاثة المعروفة عند العلماء وهي الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على أقدار الله المؤلمة.

وليست هي مختصة بالحرب والقتال، وإن كانت ألصق ما تكون به، حين التقاء الجيوش واحتدام المعارك والمراغمة والمدافعة بين فريقين، عند ذلك يظفر بالنصر من وفق للصبر؛ ولذا أوصى الله عباده بالصبر فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الانفال:45، 46].

وقول البطال “الشجاعة صبر ساعة” أفضل ما يمثله ويبينه ما يرويه أهل الأدب عن عنترة بن شداد أنه قيل له: بم غلبت العرب في المعارك؟ قال: بالصبر، فقال له أحد الشجعان: كيف تكون صابراً وأنا أصبر منك؟ قال: ناولني إصبعك، وخذ إصبعي، وعض وأعض وانظر أينا أصبر. فأدخل كل واحد أصبعه في فم صاحبه، ثم قال له: عض، فعض ذاك وعض هذا، فقال الرجل: أح، فقال عنترة لو صبرت قليلا لصحت أنا، ثم قال:
بهمــة تخـــرج مــاء الصفــــا   ..  وعــزمة ما شابـها قــــــول آح
أقسمــت أن أوردهـــا حـــرة   ..  وقاحــة تحت غـــلامٍ وقــــاح
إما فتى نال المنى فاشتفــى   ..  أو فارس زار الردى فاستــراح
ومن الناس من ينسب هذه الأبيات للشريف الرضا.

الصبر على المصائب والبلاء:
إن المصائب قد تكون عظيمة فتحتاج إلى صبر جميل، وعقل رشيد، وإيمان شديد، وإن بعض الناس تلهيه المصيبة، ويخونه الصبر فيفوته الأجر العظيم، ولو صبر ساعة لنال الأجر وحسن الذكر:
روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: [مرَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بامرأةٍ تبكي عند قبرٍ، فقال:
«اتَّقي اللهَ واصبري». قالت: إليكَ عَنِّي، فإنكَ لم تُصَبْ بمصيبتي، ولم تعرفْهُ، فقيل لها: إنَّهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فأتت باب النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فلم تجد عندَهْ بوَّابِينَ، فقالت: لم أعرفْكَ، فقال: «إنما الصبرُ عند الصدمةِ الأولى».

الصبر عن المعاصي:
والنجاة من المهالك، ومرديات المسالك، ومن مواقف الفتن، وداعيات الشهوة، ونوازع المعصية كذلك إنما تكون بصبر ساعة:
دخل السري بن دينار مصر فسكن في درب فسمعت به امرأة فقالت لأفتننه.. فطرقت الباب، فلما فتح دخلت فأغلقت الباب ثم تكشفت له، فقال: مالك؟ قالت هل لك في فراش وطي وعيش رخي؟ 

ففتح الباب وذهب عنها وهرب منها وهو يقول:

وكم من معاص نال لذتـها الفتى   ***   فمات وخــلاها وذاق الـدواهــيــا
 تصرم لذات المعاصي وتنقضـي   ***   وتبقى تباعات المعاص كما هــــي
فـيـا ســوأتـا والله راء وســامـع   ***   لعــبد بعين الله يغــشى المعاصيـا
 

وعندما تعرضت امرأة للربيع بن خثيم في شبابه، وصنعت كأنما تريد أن تسأله ثم تكشفت له: فجعل يبكي. فقالت: ما يبكيك؟ قال: أبكي على هذا الوجه يسلك به سبيل الضلال، فيرى في جهنم جمجمة متفحمة.

إن المرأة المتبرجة تمر على الشاب المسلم:
فإما أن يستجيب لداعي الشيطان والهوى ويرسل طرفه فينظر إلى ما حرم الله، وربما تمادى معه الشيطان فسول له وأعمل فكره، وربما سعى ودبر ليوقع بها، أو يقتصر الأمر على خائنة العين وتمني القلب وحديث النفس، ثم تنتهي النظرة وتذهب لذة المعصية ويبقى وزرها.

وإما أن يصبر ساعة فيغض طرفه للحظات حتى تمر، فيسلم له دينه، ويسلم له قلبه، ويغنم حلاوة الإيمان، ورضا الرحمن، وثواب المنان، وإنما هو غض طرفه ساعة فظفر بالنصر على شيطانه وهواه، وأطاع ربه ومولاه: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون}. وإنما النصر صبر ساعة.

وفي هدأة الليل، أو غفلة الناس وانشغالهم عن العبد ما يغريه بتقليب شاشات الحرام، والتمتع بما قد يحرم منه واقعا، لكن يحفظه ويحميه أن يصبر صبر ساعة فيخسأ الشيطان، ويرضى الرحمن ويسلم الإنسان. ومن تلمح العواقب هان عليه التعب.

لقد صبر يوسف ساعة فانظر ماذا بلغت به ساعة الصبر هذه من رفعة في كل شيء في الدنيا والآخرة.
وصبر إسماعيل عليه السلام على الابتلاء بالذبح ساعة، فانظر كيف كان حاله وكيف مدحه ربه
{إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا}.

وصبر أيوب على المرض وذهاب المال والأهل والولد فما جزع وما اعترض ولا تذمر، ولكن رضي وصبر، فكان عاقبة صبره أن أعاد الله له أهله وماله وولده ومثلهم معهم رحمة من الله ثم أثنى عليه بأجمل الثناء وأعطره وقال: {إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب}.

يقول ابن عمر رضي الله عنه: “لا يجد عبد صريح الإيمان حتى يعلم بأن الله تعالى يراه. فلا يعمل سرا ما يفتضح به يوم القيامة“.

الصبر على الطاعة:
ومن جنس هذا الصبر “الصبر في ميدان الطاعات”، فإن النصر في هذا الميدان أيضا يكون بصبر ساعة،
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمعَ الْمُحسِنِينَ}.

ولا يمكن للإنسان أن يجد لذة الطاعة، وحلاوة المناجاة، وأنس الخلوة بالله، وسعادة العيش في مرضاة الله؛ ولا تورثه العبادة في نفسه سكينة، وفي قلبه طمأنينة، وفي روحه خفة وسعادة، إلا إذا صبر عليها وصابر نفسه فيها وجاهد عليها ثم يستمتع بعد ذلك بلذتها وآثارها. فعندئذ تفيض على النفوس والقلوب محبة للعبادة وفرحًا بها، وطربًا لها، لا تزال تزداد حتى تملأ شغاف القلب فلا يرى العبد قرة عينه وراحة نفسه وقلبه إلا فيها، كما قال سيد المتعبدين صلى الله عليه وسلم: «حبب إليَّ من دنياكم الطيب والنساء.. وجعلت قرة عيني في الصلاة».

ولو أن المرء كلما كرهت نفسه عبادة ملها وتركها لم يكن له يوما في مضمار التعبد قدم صدق، ولما قام ليل ولا صام نهار ولا تصدق بصدقة ولا ذكر الله تعالى  إلا لماما.

فلابد من الصبر في البدايات على تعب العبادات، وتعويد النفس عليها والتدرج فيها،وحمل النفس عليها تارة وتشويقها إليها أخرى حتى تذوق حلاوتها؛ فالتعب إنما يكون في البداية ثم تأتي اللذة بعدُ كما قال ابن القيم: “السالك في أول الأمر يجد تعب التكاليف ومشقة العمل لعدم أنس قلبه بمعبوده، فإذا حصل للقلب روح الأنس زالت عنه تلك التكاليف والمشاق فصارت قرة عين له وقوة ولذة”.

وقال ثابت البناني: “كابدت الصلاة عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة”.

وقال بعضهم: “سقت نفسي إلى الله وهي تبكي، فما زلت أسوقها حتى انساقت إليه وهي تضحك”.

والأمر كما قال ربنا تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمعَ الْمُحسِنِينَ}[العنكبوت:96].
{فاصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون}..

واعلموا [أنما النصر صبر ساعة].


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

تفسير: (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن..)

الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *