ما من مجتمع إلا وتجد فيه من ينحرف عن الطريق المستقيم؛ لغلبة شهوة، وقلة إيمان، وعلى المجتمع – وخاصة أهل الإصلاح – أن يعالجوا هذا المرض بطرق صحيحة، تبدأ من تشخيص المرض، ومدى خطره، والطرق المختلفة لعلاجه.
المقدمة:
ما من مجتمع إلا وتجد فيه من ينحرف عن الطريق المستقيم؛ لغلبة شهوة، وقلة إيمان، أو أمر يختلج في القلب، وهذا كله من دواعي العصيان التي لها أثر بالغ في المجتمع وحياة الناس، وعلى المجتمع – وخاصة أهل الإصلاح – أن يعالجوا هذا المرض بطرق صحيحة، تبدأ من تشخيص المرض، ومدى خطره، والطرق المختلفة لعلاجه.
وقد أرشد المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى أعظم وسائل العلاج من خلال مباشرته لأنواع من العُصاة، في كل مرة يعطي الأمة وسائلَ وأنواعًا من التعاملات، تمثِّل المنهج الصحيح والنافع في تصحيح مسار العصاة.
ففي مرة يستَحِثُّ تفكير العاصي الذي تغلَّب على تفكيره فورانُ الشهوة وسطوتها، ومرة يدافع عن العاصي عندما يتعدى عليه بأكثر من عقوبته، ومرة يعاقبه ويقيم الحد عليه؛ لأن هذا نوعُ معالجةٍ، وفي أخرى يداريه لِما يترتب على عقابه من مفاسدَ أعظم، وغير ذلك مما ينبَع من فيض كرمه صلى الله عليه وسلم.
ولذا أوردت أمثلة من ذلك؛ لنأخذ الفقه من مواقفه صلى الله عليه وسلم بدراسة تفصيلية للحدث والحديث؛ مما يعلمنا الجوانب المختلفة في حياتنا، التي نريد أن ننعَم فيها بمتابعة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، راجين الثواب من الله، وحسن المتابعة والإخلاص.
وهذا المنهج في طرح المحاضرات هو المنهج الذي يجمع بين العلم النافع، وإمكانية العمل الصالح بإذن الله، في صورة عميقة، لكنها مبسطة، يستطيع كل أحد أن يفهم ويطبق دون الدخول في تعقيدات أو فلسفات، والله من وراء القصد، وهو يتولى الصالحين، إنه جواد كريم، غفَّار رحيم.
إعادة التوازن العقلي:
حديث أبي أمامة الباهلي: ((أن فتًى شابًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مَهْ، مَهْ، فقال: «ادْنُهْ»، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: «أتحبه لأمك» ؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك» ؟ قال: لا والله، يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك» ؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لأخواتهم»، قال: «أفتحبه لعمتك» ؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لعماتهم»، قال: «أفتحبه لخالتك» ؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لخالاتهم»، قال: فوضع يده عليه، وقال: «اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فَرْجَه»، قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء))[1].
1- (إن فتًى شابًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم): ذكر أنه شابٌّ له فيه دلالة على اندفاع الشاب في هذا الجانب؛ ولذا من كبت نفسه في هذه السن، وأقامها على دين الله؛ كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله: «سبعة يُظِلُّهم الله تعالى في ظِلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظِلُّه: إمام عدل، وشاب نشأ في عبادة الله»)[2]، فقيل: وخص الشاب بالذكر؛ لأن العبادة في الشباب أشد وأشق وأصعب؛ لكثرة الدواعي للمعصية، وغلبة الشهوات، فإذا لازم العبادة حينئذٍ دلَّ ذلك على شدة تقواه[3].
2- (فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا): قوة الشهوة في أوقات قد تتغلب على الموقف بحيث تُنسِي الشخص فداحةَ الكلام، وعِظَمَ الموقف، وهنا طغت على العقل لدرجة نسيان الكثير مما يُحذر منه.
3- (فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه، مه): بلا شك ما يجده الشاب في نفسه لم يشعر به الناس حقيقة؛ ولذا كان ردة الفعل الزجر، وهم معذرون في هذا؛ لعِظَمِ مقام النبي صلى الله عليه وسلم وهيبته في قلوبهم.
4- (فقال: «ادْنُه»، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس): عرف صلى الله عليه وسلم أنها نزغة شيطان، ويحتاج إلى معالجة دقيقة، ومن أهم المعالجات قرب العاصي من الداعية، وشعوره بأهمية ذاته، فبالقرب والجلوس هدأ الوضع النفسي الناتج عن الزجر الجماعي.
5- (قال: «أتحبه لأمك» ؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم»: عندما يسعى الإنسان لتحقيق ملذاته، لا يهمه ما يحدث للغير، لكن عندما يكون الأمر يمَسُّ ذاته وعِرْضَه، هنا يفيق العقل من سكرة الشهوة؛ ولذا رده النبي صلى الله عليه وسلم للواقع، ومن قوة الطرح أقسم أنه لا يرضاه لأمه، وهنا علَّمه أن أمهات المسلمين شرعًا في مقام أمِّك على قاعدة عظيمة جليلة حديث: «لا يؤمن أحدكم، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»)[4].
6- (قال: «أفتحبه لابنتك» ؟ قال: لا والله، يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لبناتهم»، قال: «أفتحبه لأختك» ؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لأخواتهم»، قال: «أفتحبه لعمتك» ؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لعماتهم»، قال: «أفتحبه لخالتك» ؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لخالاتهم»): أعطاه صلة القرابات الأربع فبدأ بالأصول (الأم)، ثم الفروع (البنت)، ثم القرابة من جهة أبيه (الأخوات والعمات)، ثم من جهة أمه (الخالات)، وكل الناس لديهم مثل هذه القرابات، فلم يُبْقِ مجالًا لإرادته لفرد من المجتمع.
7- (قال: فوضع يده عليه وقال: «اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه»: انتهى العلاج العقلي الجسدي، وتبقى العلاج الروحي بالدعاء والتضرع، فإن القلوب بين يدي الرحمن يُقلِّبها كيف شاء، وفي صلاحه صلاح الجميع؛ كما في الحديث: «ألَا وإن في الجسد مضغةً: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألَا وهي القلب»)[5]، وهذه الشهوة الحاصلة في القلب حثَّتِ الجسد على فعل المحرمات، وكان صلى الله عليه وسلم بهذا الشاب رحيمًا؛ لأن القضية قضية مرض ومعالجة.
8- (قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء): الشهوة لا تزال موجودة عند هذا الشاب، لكن أصبح لديه قوة الإيمان، ولجام العقل، اللذان يمنعان من اقتراف ما تدعو إليه النفس الأمَّارة بالسوء.
9- ومن عِظَمِ الزنا؛ قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]، “والنهي عن قربانه أبلغ من النهي عن مجرد فعله؛ لأن ذلك يشمل النهي عن جميع مقدماته ودواعيه فإن: «من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه»)، خصوصًا هذا الأمر الذي في كثير من النفوس أقوى داعٍ إليه، ووصف الله الزنا وقبَّحه بأنه {كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32]؛ أي: إثمًا يُستفحش في الشرع والعقل والفِطَرِ؛ لتضمُّنِهِ التجرؤ على الحرمة في حق الله، وحق المرأة، وحق أهلها أو زوجها، وإفساد الفراش، واختلاط الأنساب، وغير ذلك من المفاسد، وقوله: {وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]؛ أي: بئس السبيل سبيل من تجرأ على هذا الذنب العظيم”[6].
عقوبة العاصي بمقدار:
حديث عمر بن الخطاب: ((أن رجلًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبدالله، وكان يُلقَّب حمارًا، وكان يُضحِك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جَلَدَه في الشراب، فأُتِيَ به يومًا فأمر به فجُلد، فقال رجل من القوم: اللهم الْعَنْه، ما أكثر ما يُؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه، فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله»)[7].
1- (أن رجلًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبدالله، وكان يُلقَّب حمارًا):
أ- الأحاديث إنما ثمرتها في المعاني والأحكام؛ ولذا ذكر ما يخص كالأسماء قد لا يكون له أثر في هذا فيُلغى، وقد يكون سببًا في الحكم على درجة الحديث فيُذكَر.
ب- أحيانًا يُؤتَى باللقب وإن كان فيه نوعُ غِيبةٍ لقُبحه؛ من أجل التعريف، وهذا من مواطن الغيبة الجائزة، وإن كان لقب حمار قد يكون تعبيرًا جيدًا بمعنى القوة والجَلَد.
2- (وكان يُضحِك رسول الله صلى الله عليه وسلم): كان الصحابة يتقربون إلى الله بإدخال السرور إلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الصحابي من طرفه أنه ((كان يُهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم العُكَّة من السمن، والعكة من العسل، فإذا جاء صاحبه يتقاضاه، جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعطِ هذا ثمنَ متاعه، فما يزيد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتسم ويأمر به فيُعطى…))[8].
3- (وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب): هذا هو المفهوم الصحيح لمعنى العدالة والتوازن في العلاقات، فرغم قربه ومكانته فإن الدين لا يحابي أحدًا، مهما كانت مكانته، وهو ذاته الذي يحافظ على الصبغة الإسلامية للمجتمع.
4- (فأُتِيَ به يومًا فأمر به فجُلِدَ، فقال رجل من القوم: اللهم الْعَنْه، ما أكثر ما يُؤتَى به!): بالطبع أهل الإيمان يتأثرون بانتشار المعاصي؛ غَيرةً على الدين؛ ولذا قيل: إن الذي قالها هو عمر بن الخطاب؛ حيث قال: (أخزاك الله)؛ أي: أذلك الله وأهانك، وهذه ردة فعل بِناءً على الحال الظاهرة، ولأن فُشُوَّ المعاصي يطمع الناس فيها، وتتبلد لديهم مشاعر الإنكار.
5- (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه»: هنا النبي صلى الله عليه وسلم يريد معالجة الوضع بصورة متوازنة، فالجَلْدُ هو الحد الذي حكم الله به، وعليه فاللعن أو السب زيادة في العقوبة، ثم إنه قد يكون سببًا في زيادة المعصية، وربما أعظم من ذلك.
6- «فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله»: هنا بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم جانبين؛ الأول: جانب خاص مشرق لهذا الرجل، فشهد له مثل هذه الشهادة، وهذا يجعلنا نتوخَّى الحذر والعدل، فقد يكون للشخص أمور بينه وبين الله عظيمة من الخير، فليس لنا إلا الظاهر نحكم عليه، الجانب الثاني: عام؛ حيث بيَّن أن سبَّه مساعدة للشيطان على أخيهم؛ فعند البخاري: «لا تكونوا عونَ الشيطان على أخيكم»)، وفي رواية: «(لا تعينوا عليه الشيطان»).
7- من هذا نقول: يجب ألَّا يُزاد في عقوبة العُصاة على ما شرع الله؛ لأن هذا نوعُ تعدٍّ عليهم، ونحن وهم يجمعنا الإيمان، كما أن المجتمع يحتاج إلى تحصين العصاة من شياطين الإنس والجن؛ صلاحًا لهم خاصة، وحماية للمجتمع عامة.
تأديب العصاة:
حديث عائشة رضي الله عنها: ((أن قريشًا أهمَّهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومَن يجْتَرِئُ عليه إلا أسامة بن زيد، حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأُتِيَ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلَّمه فيها أسامة بن زيد، فتلوَّن وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أتشفع في حد من حدود الله» ؟ فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العَشِيُّ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختطب، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: «أما بعد، فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»، ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت، فقُطعت يدها، قال يونس: قال ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة: فحسُنت توبتها بعدُ، وتزوجت، وكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم))[9].
1- (أن قريشًا أهمَّهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح): كان هذا الأمر شديد الحساسية من أوجه:
أ- المرأة تسمى فاطمة المخزومية، وبنو مخزوم من عِلْيَةِ القوم نسبًا؛ حيث ينافسهم بنو هاشم وبنو أمية، ثم إن السلطة العسكرية كانت لبني مخزوم.
ب- كانت بنو مخزوم من أكثر القبائل القُرَشِيَّة عداءً للرسول ودعوته؛ منهم أبو جهل والوليد بن المغيرة.
ج- كان الناس قريبي عهدٍ بكفرٍ، ولم يكن لهم ممارسة في إقامة الحدود.
2- (فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأُتِيَ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه فيها أسامة بن زيد): وهنا قضايا:
أ- هذا التخوُّف له ما يبرره؛ فعن عائشة قالت: ((ما خُيِّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين، إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا، كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، إلا أن تُنتهك حرمة الله عز وجل))[10].
ب- وقع الاختيار على أسامةَ؛ للمحبة الخاصة له، وهذا من دواعي نجاح الأمر عرفًا.
ج- فعلها أسامة فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبدو أن صغر سنه؛ حيث كان يبلغ قرابة أربعة عشر عامًا في يوم الفتح، وضغط الناس عليه، جعله يفعل مثل هذا.
3- (فتلوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أتشفع في حد من حدود الله؟ فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله):
أ- هذا التغير الخارجي نتيجة الغَيرة على دين الله، وهو صلى الله عليه وسلم إمام المتقين، وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن يغضب لدين الله، ويَغار عليه أن يُمَسَّ بعيبٍ.
ب- هذا السؤال بصيغته لا يحتاج إلى جواب؛ لأن المقصود منه تشديد النكارة على أسامةَ، ولا شك أن مع الكلام صدرت نبرةُ صوتٍ تعبِّر عن هذا المعنى؛ ولذا طلب أسامةُ العفوَ بعده.
ج- قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]، وهذا المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مختص بحياته؛ لأن السياق يدل على ذلك؛ لكون الاستغفار من الرسول لا يكون إلا في حياته، وأما بعد موته فإنه لا يطلب منه شيء بل ذلك شرك[11].
د- التوبة والرجوع إلى الله على الفور من مقامات الأولياء؛ قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 17]؛ قال قتادة عن أبي العالية: أنه كان يحدِّث: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: كل ذنبٍ أصابه عبدٌ فهو بجهالة، عن ابن عباس: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: 17]، قال: ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت، وقال الضحاك: ما كان دون الموت فهو قريب، وقال قتادة والسدي: ما دام في صحته، وهو مروي عن ابن عباس، وقال الحسن البصري: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: 17]: ما لم يُغَرْغِرْ، وقال عكرمة: الدنيا كلها قريب[12]، فلا شك أن المسارعة أولَى وأبرأ، والله غفور رحيم؛ إذ مدَّ لنا في التوبة.
4- (فلما كان العَشِيُّ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله):
أ- خُطَبُ النبي صلى الله عليه وسلم للناس عامة على نوعين:
1- مرتبة كخطبة الجمعة.
2- خطبة عند الحاجة لبيان قضية مثل هذه.
ب- يجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة، وتحيُّن الوقت المناسب، والعَشِيُّ يكون الناس في آخر النهار قد انتهوا من أعمالهم وتفرغوا؛ فالنفوس قابلة للسماع؛ قال ابن مسعود: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوَّلنا بالموعظة في الأيام؛ كراهة السآمة علينا))[13].
ج- قوله: (قام): يدل على الهمة والأهمية للموضوع؛ ولذا فالداعية يجب أن يكون لديه وسائل أداء عالية لبيان الحق وإظهاره.
د- القضية شرعية ذات وقع كبير في النفوس، فيجب تأديب النفوس بالعبودية؛ ولذا قدم الثناء على الله؛ لأنه المستحق له على الكمال، وليعلم الجميع أن هذا أمر الله وشرعه.
5- (ثم قال: أما بعد، فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد):
أ- قاعدة عامة صلبة عليها يقوم العدل: عند الأحكام الشرعية يستوي الشريف نسبًا مع الوضيع.
ب- تقديم الوجاهات الدنيوية على حساب الدين نهاية الدنيا بالفساد والعقاب، والآخرة بعظيم الخسران.
ج- قريش في جاهليتها غيَّرت دين إبراهيم، فظنَّت أن الأمور قريبة في دين الإسلام، وهيهات في وجود سيد الأنام، وهذا لم يخطر ببالِ الصحابة الكرام أصحاب السبق في الإسلام، وإنما في حديثي الإسلام يوم الفتح.
د- من يكرم الشرفاء، ويزدرِ الضعفاء، ففيه شيء من قَذَرِ الجاهلية.
6- (وإني والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت، فقطعت يدها):
أ- يقسم النبي صلى الله عليه وسلم من باب التأكيد والتعظيم للأمر.
ب- وفي ذكر فاطمة خاصة قيل: لأن فاطمة أعز أهله عنده، ثم لم يبقَ من بناته إلا هي، ولأن اسم السارقة فاطمة، فناسب أن يُضرَب المثل بها.
ج- قمة العدل أن تُنصِفَ الناس من نفسك، وأعظم التمسك بالحق أن تُطبِّقه على نفسك ومن تحب.
د- (فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها): هذا التفصيل والبيان حتى لا يلتبس على الناس الحكم الفصلُ في هذا الحد.
ه- بعد هذا البيان نُفِّذَ الحدُّ، ولم يجرؤ أحدٌ على معارضته، واتضح للجميع جليًّا أنه لا محاباةَ لأحدٍ على حساب دين الله، بل الجميع عبيدٌ لله، فيلزمهم اتباع منهج الله.
7- (قالت عائشة: فحسُنت توبتُها بعدُ، وتزوجت، وكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم):
أ- أعظم رحمة للعصاة إقامة حدود الله عليهم؛ لِما يترتب على ذلك من التوبة والرجوع إلى الله، والاستقامة على دينه.
ب- ما أجمل مجتمع السلف الصالح! حيث إن لإقامة الحد عليها، وقد عرف من الناس جميعًا، لم يمنع أن يأتي رجل فيتزوج هذه المرأة التائبة الصالحة؛ ولذا من أعظم مُعوِّقات التوبة رفضُ المجتمع للتائب.
ج- رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بها؛ حيث أقام الحدَّ ولم يتركها تواجه مصاعب الدنيا، بحيث يدفعها هذا إلى العودة إلى الذنب، فكان يقضي حوائجها.
د- العصاة عندهم بذرة الخير، لكن رعايتها تحتاج إلى مجتمع كامل بكل أطيافه.
مداراة العصاة خوف الفتنة:
حديث جابر بن عبدالله قال: ((غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثُروا، وكان من المهاجرين رجل لَعَّاب، فكَسَعَ أنصاريًّا، فغضِب الأنصاري غضبًا شديدًا حتى تداعوا، وقال الأنصاري: يا لَلأنصار، وقال المهاجريُّ: يا لَلمهاجرين، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «ما بال دعوى أهل الجاهلية» ؟ ثم قال: «ما شأنهم» ؟ فأخبر بكسعة المهاجريِّ الأنصاريَّ، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دَعُوها؛ فإنها خبيثة، وقال عبدالله بن أُبَيِّ بن سلول: أقد تَدَاعَوا علينا؟ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال عمر: ألَا نقتل يا رسول الله هذا الخبيث؟ لعبدالله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه))[14]، وفي رواية: ((فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق))[15]، وفي رواية: ((قال له ابنه عبدالله بن عبدالله: والله لا تنقلب حتى تُقِرَّ أنك الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز، ففعل))[16].
1- (غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا):
أ- كان الصحابة يخرجون في الجهاد وكان يخرج معهم من ليس منهم من المنافقين، وهذه الغزوة قيل: غزوة المريسيع «بني المصطلق» سنة ست من الهجرة، وسبب خروج المنافقين فيها؛ لقرب الأمر، وطمعًا في الغنيمة.
ب- ازداد أعداد المهاجرين في المدينة بفضل الله، ثم ما قذف الله في قلوب الأنصار من الخير وحب إخوانهم في الدين، فلهم سابقةُ فضلٍ على المهاجرين، لم يكن لهذا التكاثر أثرٌ سلبي في حياة الأنصار.
ج- المهاجرون مع الأنصار جَمَعَهم دين واحد، فلم يكن الولاء إلا لدين الله، وأكرمهم الله بحبٍّ بينهم؛ فقال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63]، هذه الأُلْفَةُ صهرت المجتمع كاملًا في قالب الإسلام المتين.
2- (وكان من المهاجرين رجل لعَّاب، فكسع أنصاريًّا، فغضب الأنصاري غضبًا شديدًا حتى تداعوا، وقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين):
أ- المهاجري اسمه جهجاه بن قيس الغفاري، وكان أجير عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والأنصاري سنان بن وبرة، فعدم ذكر الأسماء في الحديث لا يهم؛ لأن القضية متعلقة بالفعل لا بالأشخاص.
ب- أصل الْمِزاح مشروع؛ ففي حديث أبي هريرة قيل: «إني لأمزح ولا أقول إلا حقًّا»، قالوا: إنك تداعبنا يا رسول الله، قال: إني لا أقول إلا حقًّا))[17]، لكن دون أذية أو ارتكاب محرم، فالكسع ضرب بيده أو رجله دُبُرَ الأنصاري، وهذه معيبة وقبيحة.
ج- دعوى العصبية القبلية باطلة، وقد جعل الله الولاء للمسلمين.
3- (فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «ما بال دعوى أهل الجاهلية» ؟! ثم قال: ما شأنهم؟ فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاريَّ، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دَعُوها؛ فإنها خبيثة»:
أ- يجب على الراعي أن يعيش مع أحداث الرعية؛ حتى لا تنحرف عن المنهج العام، فالمعالجة المبكرة لها طيِّب الأثر.
ب- «ما بال دعوى أهل الجاهلية» ؟: هذا سؤال استنكاري تعجبي، كيف العودة إلى قضايا جاهلية في لحظة عز الإسلام وتمكينه؟
ج- (ثم قال: «ما شأنهم» ؟: التحقق قيمة عظيمة، وركيزة أساسية في العدل والحكم على الأحداث، وهذا منهج نبوي حتى لا يتم التعدي على أحد بكلام أو موقف لا يستحقه، فمن عادة النبي لا يحكم على الشيء إلا بعد التحقق من حدوثه وأسبابه، أما هنا، فأنكر ثم سأل؛ لأن الفعل ليس له مبرر، مهما كان السبب الدافع له.
د- عرف النبي صلى الله عليه وسلم الإساءة، لكنه تجاوزها وذهب لِما هو أهم منها؛ إذ الإساءة قضية شخصية، فالضرر محصور في اثنين، وأما دعوى الجاهلية فالضرر على الدين أولًا، وعلى لُحمة المجتمع ثانيًا، وهذا بلغ من الفظاعة ما يُنسي السبب السهل اليسير.
ه- خبث دعوى الجاهلية من عدة أوجه، لكن يكمن خبثها في ثلاث قضايا:
أ- عدواتها المستمرة على الإسلام.
ب- نقض وحدة المجتمع المسلم.
ج- الطريق المعبَّد للعدوِّ الداخلي من المنافقين، والخارجي من أهل الكفر والفساد.
4- (وقال عبدالله بن أبي بن سلول: أقد تداعوا علينا؟ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل):
أ- كان ابن أبي بن سلول سيد الخزرج قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم، وناصب العداء للنبي صلى الله عليه وسلم لفوات شيء من الدنيا؛ ولذا قال سعد بن عبادة: (يا رسول الله، اعفُ عنه واصفح؛ فلقد أعطاك الله ما أعطاك، ولقد اجتمع أهل هذه البَحْرَة على أن يتوِّجوه فيُعصِّبوه، فلما ردَّ ذلك بالحق الذي أعطاك، شرِق بذلك، فذلك الذي فعل به ما رأيت)[18].
ب- كان لابن أبي بن سلول ابنٌ مؤمن تقي يسمى عبدالله، فلما عرف ذلك قال: (والله لا تنقلب حتى تقر أنك الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز ففعل)[19].
ج- خبث السريرة يفضحها فلتات اللسان، ويحكم على الشخص من ظاهره.
د- أهل الفجور يعتقدون صلاح أنفسهم، فيتهمون أهل الصلاح بكل مَذَمَّة، وهذا لخُبْثِ سريرتهم، وفرط جهلهم.
5- (فقال عمر: ألَا نقتل يا رسول الله هذا الخبيث؟ لعبدالله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه)، وفي رواية: (دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق)[20]:
أ- عمر يحكم بحسب الظاهر فهو يستحق القتل بلا شك، وإلا ما دخل الحادثة بالتعرض لشخص النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون مملوءًا بالزندقة والنفاق.
ب- وهنا علَّل النبي صلى الله عليه وسلم عدم السماح بقتله، وفي هذا مسائل:
1- أن المنافق مسلم في الظاهر، فيُعامل معاملة المسلم فلا يُقتَلُ إلا بحقٍّ بيِّنٍ.
2- الغائب إذا سمع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل أحدًا من أتباعه، فسوف يكون ذلك مانعًا من الدخول في الإسلام؛ لأنه لن ينظر إلى السبب بل إلى النتيجة.
3- فيه حماية للمجتمع من الانقسام؛ إذ إن ابن أبي بن سلول له أنصار، وهذا مداراةٌ للعاصي لمصلحة أعظم.
[1] أخرجه أحمد (22211) واللفظ له، والطبراني (8/ 190) (7679)، وابن عدي في (الكامل في الضعفاء) (2/ 452)؛ قال العراقي في تخريج الإحياء: إسناده جيد، رجاله رجال الصحيح، وبه قال الهيثمي في المجمع، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، والأرنؤوط في تخريج المسند. [2] البخاري.
[3] https:/ / www.dorar.net/ h/ zPbuh0Am?alts=1
[4] البخاري. [5] البخاري. [6] تفسير السعدي. [7] البخاري. [8] صححه أبو نعيم في الحلية. [9] البخاري ومسلم. [10] البخاري ومسلم. [11] تفسير السعدي. [12] تفسير ابن كثير. [13] البخاري. [14] البخاري ومسلم. [15] البخاري [16] رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. [17] أخرجه الترمذي (1990) وقال: حسن صحيح، وأحمد (8481)، والبيهقي (21706) واللفظ له، وحسنه الهيثمي في المجمع، والبغوي في شرح السنة، والأرنؤوط في تخريج العواصم والقواصم، وصححه أحمد شاكر في لمسند والألباني في هداية الرواة. [18] البخاري. [19] رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. [20] البخاري.___________________________________________________
الكاتب: د. عطية بن عبدالله الباحوث
Source link