الخلافات داخل الكيان الصهيوني وتأثيرها على حرب غزة

“إسرائيل تواجه الآن حربًا بين اليهود

هكذا قالت صحيفة جيروزاليم بوست العبرية في تقرير لها، وذلك في إشارة لتصاعد الخلافات بين التيارات السياسية والمتدينين والعلمانيين والحريديم إلى جانب المظاهرات الرافضة لاستمرار الحرب.

وأضافت جيروزاليم بوست مع وجود مئات الآلاف من الجنود الذين يخوضون حاليًا حربًا ضد حماس وحزب الله، فإن آخر ما تحتاج إليه هذه البلاد الآن هو تجديد الحرب بين اليهود، مشيرة إلى أن آخر شيء يمكن لدولة الاحتلال أن تتحمله في هذا الوقت هو إعادة إشعال المعارك بين اليسار واليمين، وبين تل أبيب والمستوطنات، وبين المتدينين والعلمانيين والحريديم.

تقرير الصحيفة الصهيونية يوضح أنه كما أن هناك عوامل كثيرة يمكن اعتبارها مصدر قوة للكيان الصهيوني في حربه ضد غزة، فثمة عوامل أيضا تضعف الكيان وتساهم في إلحاق الهزيمة به.

فصمود المقاومة وأداؤها القتالي المتميز، وقدرتها على توظيف الإعلام في حربها، لا شك أنها من أكثر الأسباب التي تحد من احتمالات تفوق دولة الكيان في تلك الحرب.

ولكن لا يمكن إغفال أن الخلافات الداخلية التي تتفاقم داخل الدولة الصهيونية تفت من قدرة الكيان على الاستمرار في هذا الصراع.

وتواجه دولة الكيان هذه الخلافات الداخلية عبر عدة مستويات:

المستوى الأول: يمكن أن نطلق عليه انقسام مجتمعي فكري، بين التيار العلماني والديني في الدولة.

المستوى الثاني: الانقسام السياسي سواء بين الأحزاب، أو داخل كل حزب على حدة، أو داخل الحكومة.

المستوى الثالث: التيارات الشعبية المتأثرة بحرب غزة.

التيارات الفكرية داخل دولة الكيان

هناك ثلاثة تيارات فكرية تؤثر في المجتمع داخل دولة الكيان:

أولا ًالتيار الصهيوني السياسي: ظهرت الصهيونية السياسية بوصفها برنامج عمل في القرن التاسع عشر على يد الصحفي النمساوي تيودور هرتزل، وهي تستند إلى فكرة رئيسية تقول إن ثمة مشكلة يهودية تتمثل في تشتت اليهود وتعرضهم للمطاردة والاضطهاد أينما وجدوا برغم أنهم يشكلون أمة واحدة وشعباً واحداً، وأن الحل الوحيد لهذه المشكلة هو عودة هذا الشعب لأرضه المقدسة، وهي أرض الميعاد بغية إقامة دولة خاصة به، والجديد لدى دعاة الصهيونية السياسية هو تميز دعوتهم عن الدعوات السابقة لها بهدف سياسي، هو إقامة دولة يهودية في فلسطين وبوسائل سياسية تتمثل في الاعتماد على العمل اليهودي الذاتي، وليس انتظار المسيح المنتظر.

ودعاة تيار الصهيونية السياسية كان معظمهم من الملاحدة الذين لا يعيرون الدين أي اهتمام؛ فكان اهتمامهم منصباً على العودة إلى فلسطين لأسباب كثيرة منها المال والثروة وغايات أخرى مثل التحرر من الجيتو الأوروبي، وبرغم ذلك لم يتجاهل هرتزل أهمية الدين في بناء دولته، وأن الفكرة في الأساس هي فكرة دينية تقوم وتترعرع على أرض الميعاد والمسيح المنتظر، فاهتم بدعم الحاخامات ورجال الدين لدعوته؛ حيث اعتبر الدين أداة من أدوات توحيد صفوف اليهود خلف فكرته، ولكن فكرة العودة عند هذا التيار الصهيوني السياسي هي خلاص دنيوي وقومي وملاذ لليهود من الاضطهاد والشقاء.

حتى أن أول رئيس لدولة الكيان على أرض فلسطين وهو بن جوريون قال: ” لو تركت حياة اليهود لحاخامات اليهود لظلوا حتى الآن كلاباً ضالة في كل مكان يضربهم الناس بالأقدام “.

وتبلور هذا التيار في اتجاهين: الأول، الاتجاه الاشتراكي الذي كانت آخر صوره حزب العمل، والاتجاه الثاني، هو الاتجاه الليبرالي أو ما يعرف باليميني الذي يمثله حالياً تكتل الليكود وغيره من الأحزاب الأصغر.

ثانيا: اليهودية الأرثوذكسية: وهو امتداد لليهودية القديمة القائمة على التوراة المحرفة والتراث الشفهي للحاخامات، ومع بداية القرن التاسع عشر وظهور الأفكار التحررية وسط أجيال اليهود هبَّ رواد اليهودية الأرثوذكسية مدافعين عن فكر الانعزال والانغلاق رافضين أي تغييرات تجاري مقتضيات العصر، وبلغت ذروتها في عام 1912م؛ حيث أسس هذا التيار حركة دينية أرثوذكسية مناوئة للأفكار الصهيونية التي قد بدأت تنتشر في أوساط اليهود تمييزاً لهم عن المتدينين الذين اعتنقوا الفكر الصهيوني، وأطلق على هؤلاء الأرثوذكس المعارضين للصهيونية: (الحريديم)، ولفظة الحريديم تعني المتقين.

 

وفي الإجمال ثمة رأيان اثنان داخل صفوف الحريديم تجاه دولة الكيان:

الأوليرى أن قيام هذه الدولة عمل مناقض لفكرة المسيح، ومن ثَمَّ فهي دولة آثمة. ولهذا لا يسعى هؤلاء إلى مراعاة الدولة ومؤسساتها، بل ينفصلون عن المجتمع سياسياً واجتماعياً؛ ومن ممثلي هذا الرأي جماعة (ناطوري كارتا).

أما الرأي الثانيفيعترف أنصاره بالدولة كحقيقة واقعة؛ وذلك دون منحها الشرعية؛ وهم يعتبرون أنفسهم في منفى أيضاً؛ غير أنهم يتعاونون مع الدولة ومؤسساتها وكأنهم في بلد أجنبي، ويحددون موقفهم منها بمقدار اقترابها من التوراة وتعاليمها، ويوجد في دولة الكيان اليوم قوتان رئيسيتان تمثلان هذا التيار، هما: (شاسأو حراس التوراة الشرقيين. و(يهدوت هيتوراهأو يهود التوراة.

ثالثاً: التيار الصهيوني الديني: استند رواد الصهيونية الدينية إلى نصوص توراتية واصطلاحات تلمودية تعتبر الاستيطان في أرض إسرائيل وصية من الوصايا الدينية اليهودية تمهيداً لقدوم المسيح المخلص؛ فتربة فلسطين تربة طاهرة، وأورشليم مدينة الله وموطن إقامته، وهي مركز الأرض، والمكان المناسب والوحيد لتأدية الوصايا الدينية.

وفي البداية تعاون دعاة الصهيونية الدينية الدولة رغم علمانيتها، ثم ازداد شعور الصهيونية الدينية بقوتها في السنوات الأخيرة؛ حيث مارس حاخاموها نفوذاً كبيراً في الشارع الإسرائيلي، وتبوأت الأحزاب والحركات الدينية الصهيونية موقعاً مرموقاً في عملية صنع القرار السياسي سواء كان من خلال مشاركتها في الائتلافات الحكومية أو من خلال تأثيرها على سياسات الحكومة؛ إلى جانب سيطرة الصهيونية الدينية على دار الحاخامية الرئيسية، والحاخامية العسكرية، والمدارس الدينية الصهيونية، وغيرها من المؤسسات الاجتماعية.

ويتميز هؤلاء القوميون الدينيون عن الحريديم أو أتباع التيار اليهودي الأرثوذكسي بلبسهم القلنسوات على رؤوسهم.

الانقسام السياسي

تتسم الأحزاب السياسية بالتعددية، حيث تكثر عمليات الانشقاق والانقسام عشية كل دورة انتخابية.

ولقد سيطر الاتجاه اليساري العلماني متمثلا في حزب العمل على الحكم في الدولة الصهيونية لمدة 25 عاما، أعقبه تسلم الاتجاه اليميني العلماني بزعامة الليكود الحكم حتى اليوم أي ما يقرب من 50 عاما.

وفي العقد الأخير يزاحم الليكود اليميني بزعامة نتانياهو وفي نفس مربعه العلماني ولكن أكثر ميلا للوسط حزبين آخرين: “هناك مستقبل” بزعامة لبيد، و”الوحدة الوطنية” بقيادة غانتس.

أما الصهيونية الدينية فلم تكتف بحضورها المتزايد في حزب الليكود، إنما شكل اتباعها عدة أحزاب مثل البيت اليهودي في عام 2008 بزعامة نفتالي بينيت، والقوة اليهودية بزعامة بن غفير في عام 2012، والصهيونية الدينية بزعامة سموتريتش، ونجحوا للمرة الأولى عبر تشكيل حكومة ائتلافية مع نتنياهو في انتخابات 2022 من الفوز بمناصب وزارية حساسة مثل وزارتي المالية والأمن القومي.

حتى تيار اليهودية الأرثوذكسية والذين يطلق عليهم الحريديم له أحزابه وأهمها حزب شاس وحزب يهودا أشكنازي.

ولكن نظرًا لطبيعة النظام السياسي الانتخابي لدولة الكيان، فإن أي حزب لا يستطيع أن ينفرد بالحكم لوحده، بل يحتاج إلى ائتلافات مع أحزاب أخرى وقد تكون في الغالب صغيرة، وهذه الأحزاب لها مطالب وبرامج، فالحصيلة تكون دائما ان تلك الأحزاب تفرض دائما برامجها ومشاريعها، وهذا ما نراه من تحقيق الأحزاب الدينية سواء الدينية الصهيونية أو الدينية الأرثوذكسية لكثير من خططها في محاولة تهويد فلسطين.

التيارات الشعبية وأثرها في الانقسام داخل الكيان الصهيوني

قبل حرب غزة كان هناك انقسامًا شعبيا تعاني منه دولة الكيان، فقد اشتدت المظاهرات التي تطالب باستقلال نتانياهو لفساده وخضوعه للأحزاب الدينية ومطالبها، وضمت هذه المظاهرات تيارات فكرية عديدة منها العلماني سواء اليساري أو اليميني أو الليبرالي، كما ضمت شرائح مثل قضاة سابقون واقتصاديون وصحافيون وتقنيون وأطباء وتجار وطلاب جامعات وغيرهم، كما ضمت جنودًا عاملين واحتياطيين في الجيش الصهيوني.

وانفجرت هذه المظاهرات المليونية عندما استهدفت كتلة نتانياهو المتحالفة مع التيارات الدينية في الكنيست، الكتلة اليسارية الوحيدة المتبقية في المحكمة العليا من قبل التيار الديني، وهي التي كانت على الدوام تقف في وجه الصهيونية الدينية، ولم يتبق من هذه الكتلة اليسارية سوى المحكمة العليا، التي تريد حكومة بنيامين نتينياهو أن تلغيها بالتعديلات القضائية.

لقد أثبتت تلك المظاهرات عمق الانقسام والصراع والشرخ في المجتمع الصهيوني، الذي تمحور حول اليمين الديني المتطرف الحاكم من جهة، واليمين العلماني إلى جانب قوى اليسار.

حرب غزة تعمق الانقسام

ثم جاء طوفان الأقصى، ويرى البعض أن تلك الحرب وما أعقبها من هجوم الجيش الصهيوني على غزة قد أضعفت نفوذ الصهيونية الدينية، حيث سارع نتنياهو لتشكيل حكومة حرب من أعضاء بارزين من يمين الوسط من أصحاب الخبرات العسكرية مثل بيني غانتس رئيس أركان الجيش ووزير الدفاع السابق، ورئيس أركان الجيش السابق غادي إيزنكوت.

بينما عمل ائتلاف أحزاب الصهيونية الدينية على إثبات حضورهم وتأثيرهم في المشهد السياسي، بتشكيلهم لوبي ضغط على حكومة نتانياهو بأخذ مواقف أكثر تشددًا وحزمًا تجاه الفلسطينيين وحماس ورفض أي حلول وسط.

واستغل بن غفير منصبه كوزير للأمن في الحكومة، فقام بتوزيع البنادق الآلية على المستوطنين والمتدينين، وهو ما انعكس على زيادة اعتداءات المستوطنين المسلحة في الضفة الغربية منذ 7 أكتوبر حيث ارتفعت من هجمات يوميا لتصل إلى 7 هجمات يومية حاليا بحسب تقرير لمجموعة الأزمات الدولية.

كما قام الوزير سموتريتش إلى تدشين مناطق معقمة عازلة حول المستوطنات، وهو ما يعني قضم المزيد من الأراضي الفلسطينية، وتقييد حركة سكان الضفة الغربية بشكل أكبر.

ولكن هذه السياسات دفعت بالوزراء من اتجاهات الوسط والذين يشكلون مجلس وزراء الحرب إلى مهاجمة الوزراء المتطرفين، وكانت عاملا من عوامل القطيعة بين الاتجاهات التي من المفترض أن تتشارك وتنسق قرارات الحرب في غزة.

ومما زاد الطين بلة اندلاع المظاهرات مجددًا من أهالي الأسرى والمجندين والذين قبضت عليهم حماس في طوفان الغضب، واشترطت لإطلاق سراح هؤلاء المجندين تبييض السجون الصهيونية من المعتقلين الفلسطينيين، وإيقاف الحرب على غزة.

وآخر تلك الخلافات هي ما بين نتنياهو وجانتس، ما يتعلق بقضية الموازنة الحكومية حيث طالب الأخير بحذف جميع البنود غير المرتبطة بضرورات الحرب، ووفق صحيفة تايمز أوف إسرائيل، فإن جانتس ألمح إلى إمكانية السعي لتفكيك حكومة الحرب التي جرى تشكيلها في أعقاب هجوم يوم السابع من أكتوبر.

كما هاجم جانتس شريكه نتنياهو، بسبب تغريدة أيضًا نشرهًا، حمَّل فيها رئيس أركان الجيش ورئيس المخابرات العسكرية ورئيس الشاباك مسؤولية الفشل في صد هجوم حماس، حيث اعتبر جانتس أن وقت الحرب يحتاج إلى دعم قيادات وقوات الأمن والجيش بعيدًا عن تصريحات تضر بصمود الشعب.

ووفق استطلاع رأي، يرى 52 % من الشعب أن جانتس أكثر ملاءمة لمنصب رئيس الوزراء من نتنياهو الذي يدعمه 27 %. فقط.

لا شك أن تلك الخلافات تصب في صالح المقاومة الفلسطينية، وستدفع الكيان إلى وقف القتال بالإضافة إلى العامل الأهم وهو صمود المقاومة وأهل غزة.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

خطر الإلحاد (2) – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة السفر إلى بلاد الكفار للدراسة أو غيرها دون التقيد بالضوابط الشرعية -القراءة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *