مخالفة الهوى تُورِث العبدَ قوةً في البدن والقلب واللسان، قال أحد السلف: (الغالب لهواه أشدُّ من الذي يفتح المدينة وحده)، وكلما تمرَّن العبد على مخالفة هواه اكتسب قوةً إلى قوته.
الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلم؛ أما بعد:
إن الباحث في أسباب الضلال عن الهدى واتباع غير سبيل المؤمنين سيجد أن من أعظمها: اتباع الهوى؛ ذلك أنه السبب في الإعراض عن الخير ورد الحق كما قال جل وعلا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم حين أعرض مشركو مكة عن قبول دعوته للتوحيد: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]، وسُمي الهوى بذلك؛ لأنه يهوي بصاحبه؛ أي: يُسقطه في اتباع الشهوات؛ ومِنْ ثَمَّ يهوي به في الإثم ليستحق بذلك العقوبة العاجلة والآجلة، فهو داعٍ للذة الحاضرة من غير فكر في العاقبة، وداعٍ لنيل الشهوات عاجلًا، وإن كانت سببًا للحسرات العاجلة والآجلة، فالهوى يُعمي صاحبه عن ملاحظة ذلك واستحضاره؛ ولهذا لم يذكر الله تعالى الهوى في كتابه الكريم إلا على وجه الذم، وكذلك في السُّنَّة المطهَّرة لم يأتِ ذكره إلا مذمومًا، إلا ما كان منه مقيدًا كقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدُكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به»؛ رواه ابن أبي عاصم والبيهقي، فمن لا دين له يؤثر ما يهواه وإن أدَّاه إلى العقوبة العاجلة والآجلة، ومن خالف هواه فقد وُفِّق للرشاد، فإذا كان اتِّباع الهوى أحد الأسباب الرئيسة في ضلال العباد ووقوعهم في كثير من المعاصي وصدِّهم عن الحق واتباع سبيل المؤمنين؛ فإليك أخي الفاضل وأختي الفاضلة شيئًا من الأسباب المعينة بعد توفيق الله تعالى للتخلُّص منه والوقوع في شركه والانتصار عليه وغلبته:
أولًا: تقوية النفس لدفعه وإسقاطه ومعارضته؛ وذلك بعزيمة صادقة تُعين على مخالفته، وصبر على ذلك، فخير عيش يُدركه العبد إنما يكون بالصبر.
ثانيًا: استحضار حُسن عاقبة مخالفته والسعادة الحاصلة بذلك والثواب العاجل والآجل.
ثالثًا: استحضار سرعة ذهاب لذة المعصية وانقضائها، وبقاء إثمها وحسرتها العاجلة والآجلة.
رابعًا: أن يترفَّع المرء بألَّا يختار لنفسه أن يكون الحيوان أحسن حالًا منه، فإن الحيوان يُميز بطبعه بين ما يضُرُّه وما ينفعه، فيؤثر النافع على الضارِّ، والإنسان أُعطي العقل لهذا الأمر وزيادة، فإن لم يُميز بين ما يضُرُّه وما ينفعه، أو علم ذلك ثم آثر ما يضُرُّه، كان الحيوان أحسنَ حالًا منه.
خامسًا: أن يسير المرء بفكره وينظر في عواقب اتباع الهوى، فكم فوَّتت طاعته من فضيلة ومكرمة، وكم أوقع اتباعه في رذيلة، فكم أكلةٍ منعت أكلات، وكم لذة فوَّتَتْ لذات، وكم من شهوة كسرت جاهًا، ونكَّسَت رأسًا، وقبَّحَتْ ذِكْرًا، وأورثت ذمًّا، وأعقبت ذُلًّا، وألزمت عارًا لا يُغسَل غير أن عين صاحب الهوى عمياء.
سادسًا: أن يترفَّع المرء بأن يكون تحت قهر عدوِّه الشيطان الرجيم فذاك مما تأباه النفوس الزكية، فإن الشيطان إذا رأى من العبد ضعف عزيمة وهمة وميلًا لهواه طمع فيه وصرعه، وألجمه بلجام الهوى ثم ساقه حيث أراد، ومتى أحَسَّ منه قوة عزم وشرف نفس وعلو همة، ضعُف أمامه ولم يطمع فيه.
سابعًا: أن يعلم العبد بأن الشيطان ليس له مدخل على بني آدم إلا من باب الهوى، فإنه يطوف بابن آدم يبحث عما يدخل عليه منه ليُفسد عليه قلبه وأعماله فلا يجد ذلك إلا من باب الهوى فيسري معه سريان السُّم في الأعضاء، فإذا علمت مدخل عدوِّك إليك منه فشَدِّد عليه الحراسة.
ثامنًا: أن يعلم بأن الله تعالى جعل الهوى مضادًّا لما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه تعالى قسم الناس لفريقين: تُبَّاع الوحي، وتُبَّاع الهوى، قال جل وعلا: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50] فاختر لنفسك ما تتبع.
تاسعًا: أن الله تعالى شبه مُتَّبِع هواه بأخس الحيوانات صورةً ومعنًى، وهو الكلب، فقال جل وعلا عن الذي ضلَّ عن الهدى باتِّباع الهوى: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: 176]، أفترضى لنفسك هذه المنزلة؟!
عاشرًا: أن الله تعالى جعل المتبع لهواه بمنزلة العابد للوثن، فقال جل وعلا: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43].
الحادي عشر: أنه يُخاف على مَنِ اتَّبَع هواه أن ينسلخ من الإيمان وهو لا يشعر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدُكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئتُ به»؛ رواه ابن أبي عاصم والبيهقي، فمن لم يجعل هواه تبعًا لدين الإسلام فلم يُحقِّق الإيمان المطلوب.
الثاني عشر: استحضار معرفة أن اتِّباع الهوى من المهلكات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث مُنجيات وثلاث مهلكات: فأما المُنْجيات: فتقوى الله عز وجل في السِّرِّ والعلانية، والقول بالحق في الرِّضَا والسخط، والقصد في الغِنى والفقر، وأما المهلكات: فهوى مُتَّبَع، وشحٌّ مُطاع، وإعجاب المرء بنفسه»؛ (رواه الطبراني، وحسَّنه الألباني) .
الثالث عشر: أن مخالفة الهوى تُورِث العبدَ قوةً في البدن والقلب واللسان، قال أحد السلف: (الغالب لهواه أشدُّ من الذي يفتح المدينة وحده)، وكلما تمرَّن العبد على مخالفة هواه اكتسب قوةً إلى قوته.
الرابع عشر: أن الهوى داء، ودواؤه مخالفته، قال بشر الحافي ــ رحمه الله ــ: (البلاء كله في هواك، والشفاء كله في مخالفتك إيَّاه).
الخامس عشر: أن جهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكُفَّار فليس بدونه، قال رجل للحسن البصري ــ رحمه الله ــ (يا أبا سعيد، أي الجهاد أفضل؟ قال: جهادك هواك، فإنه أصل جهاد الكُفَّار والمنافقين، فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد هواه).
السادس عشر: أن اتِّباع الهوى يُغلق على العبد أبواب التوفيق، ويفتح عليه أبواب الخُذْلان، فتراه يقول: لو أن الله وفَّقَني لكان كذا وكذا، وقد سدَّ على نفسه باب التوفيق باتِّباعه هواه، قال الفضيل بن عياض ــ رحمه الله ــ: (من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات، انقطعت عن موارد التوفيق).
السابع عشر: أن من فسح لنفسه في اتِّباع الهوى ضيق عليها في قبره ومعاده، ومن ضيق عليها بمخالفة الهوى وسع عليها في قبره ومعاده.
الثامن عشر: أن اتِّباع الهوى يحل العزائم ويُوهِنها، ومخالفته تشدُّها وتقوِّيها، والعزائم هي مركب العبد الذي يُسيره إلى الله تعالى والدار الآخرة، فمتى تعطَّل المركوب أو شك أن ينقطع المسافر.
التاسع عشر: أن التوحيد واتِّباع الهوى متضادان، فإن الهوى صنم، ولكل عبد صنم في قلبه بحسب هواه، وإنما بعث الله تعالى رُسُلَه بإفراده بالعبادة وكسر الأصنام الحسية؛ وذلك لا يكون إلا بعد كسرها من القلب أولًا.
العشرون: أن أصل العداوة والشر والحسد الواقع بين الناس وأمراض القلب والبدن إنما ذلك نتيجةً لاتباع الهوى، فمن خالف هواه أراح قلبه، وبدنه وجوارحه، وسلم من هذه الشرور فاستراح وأراح، ولو فتشت عن غالب أمراض البدن لرأيت غالبها من إيثار الهوى على ما ينبغي تركه لضرره.
الحادي والعشرون: إذا تأملت السبعة الذين يُظِلُّهم الله في ظلِّ عرشه يوم لا ظل إلا ظله علمت أنهم ما نالوا ذلك جميعًا إلا بمخالفة الهوى، فاختر لنفسك بينهم مكانًا ما دُمت في زمن المهلة والعمل قبل أن يفوتك الركب.
الثاني والعشرون: أن مخالفة الهوى تُقيم العبد في مقام من لو أقسم على الله لأبَرَّه؛ فيقضي له الحوائج أضعاف ما فاته من هواه، فهو كمن رَغِبَ عن بعرة فأُعطي عوضها جوهرة، فتأمل ما فُتِحَ على يوسف ــ عليه السلام ــ من الخير بعد أن خالف هواه، وكذا كل من سار على هديه فخالف هواه واستعصم بحبل الله المتين؛ (مُستفاد من كتاب روضة المحبين).
اللهم اهدنا وأعذنا من اتباع الهوى، واجعل أهواءنا تبعًا لما تُحبه وترضاه يا كريم.
_________________________________________________________
الكاتب: عبدالعزيز أبو يوسف
Source link