إن مسألة التمايز والحفاظ على الهوية مسألة خطيرة جد خطيرة، وانحسارها أو ذهابها يعَد أكبر معْوَل هدم في صرح الديانة؛ لأن معنى ذهاب المفارقة والتمييز أن يذوب المسلمون في غيرهم، وهذا معناه انهيار الأمة وضياعها دون شك…
حكم الاحتفال بأعياد المشركين:
إن مما يكاد أن يكون معلوما من الدين بالضرورة أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم قد نهوا المسلمين عن التشبه بالكافرين (يهودا ونصارى وغيرهم) في أي شيء من أمورهم التي تخصهم وإن كانت من أمور دنياهم التي اختصوا بها، ولا شك أن النهي عن التشبه بهم في أمور دينهم وشعائرهم أشد وأعظم..
ولا يختلف أحد أن الأعياد من أخص شعائر الشرائع فكان النهي عن مشاركتهم في أعيادهم من أشد ما ورد في الشرع من النهي، ويكاد كلام أهل العلم يتواطأ ويتطابق على أن المشاركة في هذا العيد أو غيره من أعياد أهل الكفر المبتدعة المخترعة تدور بين الكفر (إذا رضي بما هم عليه ومالأهم عليه) وبين التحريم العظيم؛ لأن في الاحتفال بتلك الأعياد تشبه بالكفار، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ «من تشبه بقوم فهو منهم» “.
قال ابن تيمية رحمه الله: “وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم لقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}[المائدة:51]”.
وقد اجتمعت كلمة أهل العلم على حرمة التشبه بالكفار في أعيادهم وغيرها. قال الإمام الذهبي: “فإذا كان للنصارى عيد ولليهود عيد كانوا مختصين به فلا يشركهم فيه مسلم، كما لا يشاركهم في شرعتهم ولا قبلتهم”.(تشبه الخسيس بأهل الخميس).
وقال ابن التركماني: “فيأثم المسلم بمجالسته لهم وبإعانته لهم بذبح أو طبخ أو إعارة دابة يركبونها لمواسمهم وأعيادهم”.(اللمع في الحوادث والبدع 2/519).
وقد قال الونشريسي في ‘موسوعته’ في النوازل: [سئل أبو الأصبغ عيسى بن محمد التميلي عن ليلة يناير التي يسميها الناس الميلاد، ويجتهدون لها في الاستعداد، ويجعلونها كأحد الأعياد، ويتهادون بينهم صنوف الأطعمة، وأنواع التحف والطرف المثوبة لوجه الصلة، ويترك الرجال والنساء أعمالهم صبيحتها تعظيمًا لليوم، ويعدونه رأس السنة، أترى ذلك ـ أكرمك الله ـ بدعة محرمة لا يحل لمسلم أن يفعل ذلك، ولا أن يجيب أحدًا من أقاربه وأصهاره إلى شيء من ذلك الطعام الذي أعده لها، أم هو مكروه ليس بالحرام الصراح؟
فأجاب: قرأت كتابك هذا، ووقفت على ما عنه سألت، وكل ما ذكرته في كتابك فمحرم فعله عند أهل العلم، وقد رويت الأحاديث التي ذكرتها من التشديد في ذلك، ورويت أيضًا أن يحيي بن يحيي الليثي قال: لا تجوز الهدايا في الميلاد من نصراني، ولا من مسلم، ولا إجابة الدعوة فيه، ولا استعداد له، وينبغي أن يجعل كسائر الأيام. ورفع فيه حديثًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يومًا لأصحابه: [[إنكم مستنزلون بين ظهراني عجم؛ فمن تشبه بهم في نيروزهم ومهرجانهم حشر معهم]].
وقال الفقيه المالكي سحنون التنوخي صاحب المدونة: [لا تجوز الهدايا في الميلاد من مسلم ولا نصراني، ولا إجابة الدعوة فيه ولا الاستعداد له].
وقد سئل الشيخ “ابن باز” رحمه الله: “بعض المسلمين يشاركون النصارى في أعيادهم فما توجيهكم؟”.
فأجاب: “لا يجوز للمسلم ولا المسلمة مشاركة النصارى أو اليهود أو غيرهم من الكفرة في أعيادهم بل يجب ترك ذلك؛ لأن من تشبه بقوم فهو منهم، والرسول عليه الصلاة والسلام حذرنا من مشابهتهم والتخلق بأخلاقهم. فعلى المؤمن وعلى المؤمنة الحذر من ذلك، ولا تجوز لهما المساعدة في ذلك بأي شيء، لأنها أعياد مخالفة للشرع؛ فلا يجوز الاشتراك فيها ولا التعاون مع أهلها ولا مساعدتهم بأي شيء لا بالشاي ولا بالقهوة ولا بغير ذلك كالأواني وغيرها، ولأن الله سبحانه يقول: { {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} } فالمشاركة مع الكفرة في أعيادهم نوع من التعاون على الإثم والعدوان”.
تهنئة الكفار بأعيادهم:
وكما لا يجوز الاحتفال والمشاركة في أعياد الكفر كذلك يحرم تهنئتهم بها..قال ابن القيم في “أحكام أهل الذمة 1/”441: “وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب. بل ذلك أعظم عند الله وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه. وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك وهو لا يدري قبح ما فعله، فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه”.
وأجاب الشيخ ابن عثيمين رحمه الله على مثل هذا السؤال بقوله: “تهنئة الكفار بعيد الكريسمس أو غيره من أعيادهم الدينية حرام بالاتفاق، كما نقل ذلك ابن القيم – يرحمه الله – في كتاب ( أحكام أهل الذمة )”.. ثم نقل كلام ابن القيم السابق.
وعلل هذا النهي بقوله: “وإنما كانت تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية حراماً وبهذه المثابة التي ذكرها ابن القيم لأن فيها إقراراً لما هم عليه من شعائر الكفر، ورضى به لهم، وإن كان هو لا يرضى بهذا الكفر لنفسه، لكن يحرم على المسلم أن يرضى بشعائر الكفر أو يهنّئ بها غيره، لأن الله تعالى لا يرضى بذلك كما قال الله تعالى: {إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم}، وقال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}، وتهنئتهم بذلك حرام سواء كانوا مشاركين للشخص في العمل أم لا”. (مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين 3/369 ).
الحكمة من النهي:
وربما يتساءل البعض عن الحكمة من وراء نهي الشارع لأتباعه المسلمين من المشاركة في أعياد الكافرين سواء بالعمل أو بالتهنئة فنقول إن اللجنة الدائمة لهيئة كبار العلماء بالمملكة السعودية قد ذكرت شيئا من ذلك في فتوى حول هذا الموضوع جاء فيها ما نصه:
وينهى أيضاً عن أعياد الكفار لاعتبارات كثيرة منها:
– أن مشابهتهم في بعض أعيادهم يوجب سرور قلوبهم وانشراح صدورهم بما هم عليه من الباطل.
– والمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة من العقائد الفاسدة على وجه المسارقة والتدرج الخفي.
. ومن أعظم المفاسد – أيضاً – الحاصلة من ذلك: أن مشابهة الكفار في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان كما قال تعالى: {يا أيها الذي آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين}، وقال سبحانه: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله..} الآية.” ا.هـ”.
الحفاظ على الهوية:
ولعل من الحكم أيضا أن يحافظ المسلمون على هويتهم وشخصيتهم المستقلة، فلا يذوبوا في غيرهم من الأمم. التميز والتمايز بين المسلم وغير المسلم أصل من أصول الإسلام، وأس من أسس حفظ الأمة، وحفظ الدين على أهله وأصحابه وهذا عين ما كان يفعله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويؤصله في قلوب المؤمنين من خلال الأقوال والأفعال.
. فعندما دخل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة وجدهم يحتفلون بيومين ـ أي عيدين ـ، فقال: «لقد أبدلكم الله بيومين خير منهما: يوم الفطر، ويوم الأضحى».
. وصام ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ عاشوراء، فلما أُخبر أن اليهود يصومونه قال: «لئن بقيت إلى قابل لأصومَنَّ التاسع» ـ يعني مع العاشر ـ.
. حتى القبلة ظل أمرها يؤرقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجعل يدعو الله أن يغيرها عن قبلة أهل الكتاب، ويجعل لأهل الإسلام قبلة خاصة بهم، وهي الكعبة المشرفة ـ زادها الله شرفـًا ـ فاستجاب الله له ووجهه إليها.
لم يتوقف ذلك التميز، وتلك الاستقلالية على جانب من الجوانب، بل شمل كل جانب مع التركيز الشديد على الشكل الظاهر، ولو في أبسط الأشياء، فاسمع إليه ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ وهو يقول لأتباعه: «خالفوا المشركين»، «من تشبه بقوم فهو منهم»، «إياكم وزي الأعاجم» إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة، هذا غير ما في كتاب الله من الآيات التي يصعب عدها وحصرها.
إن مسألة التمايز والحفاظ على الهوية مسألة خطيرة جد خطيرة، وانحسارها أو ذهابها يعَد أكبر معْوَل هدم في صرح الديانة؛ لأن معنى ذهاب المفارقة والتمييز أن يذوب المسلمون في غيرهم، وهذا معناه انهيار الأمة وضياعها دون شك، ولذلك تنبأ العلامة المؤرخ ابن خلدون بسقوط الأندلس قبل سقوطها بنحو مائتي سنة؛ لما رأى من تشبه أهلها بغير المسلمين في تلك البلاد، وقد تحقق ما تنبأ به، وهذا مصير كل أمة تتهاون في أصولها وثوابتها، وعقيدتها، وثقافتها.
إننا نحتاج أن نعتز مرة أخرى بديننا، ونهتم بثقافتنا، ونتمسك بعقيدتنا، ونفخر بانتمائنا للإسلام، حتى يعيد الله إلينا عزا سليبا ومجدا تليدا {من كان يريد العزة فلله العزة جميعا}، {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون}.
Source link