من موالاتهم (اليهود والنصارى): التشبُّه بهم، وإظهارُ أعيادهم، وهم مأمورون بإخفائها في بلاد المسلمين، فإذا فعلها المسلم معهم، فقد أعانهم على إظهارها، وهذا منكرٌ وبدعةٌ في دين الإسلام، ولا يفعلُ ذلك إلا كلُّ قليل الدين والإيمان
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده وعلى آله وصحبه، أما بعد،
فكما جرت به العادة عند نهاية كل سنة ميلادية، تسارع القنوات الفضائية والمنابر الإعلامية للترويج للحفلات الصاخبة والفعاليات المصاحبة والترتيبات والتهنئات، بمناسبة ما يسمى يوم رأس السنة الميلادية الجديدة الذي يسبقه بأيام معدودات، عيد الميلاد المجيد، أحد أعياد النصارى البارزة.
وللأسف فإن الهالة التي ترافق الاحتفال بالعيدين، تبرز الفارق في درجة الاهتمام بهما كعيدين غربيين، يفوق الاهتمام بأعياد المسلمين الواجبة -الفطر والأضحى- في عالمنا الإسلامي.
وبعيدا عن كون الأمر تشبهًا جليا بالنصارى وهو ما نهى عنه الإسلام ببينات شتى، فإن الانهزامية والضعف التي يعكسهما مشهد تقليد النصارى في آخر كل سنة ميلادية ليدعو للأسف العميق.
وإن جادل بعضهم في أن الاحتفال بيوم رأس السنة لا يخرج عن مفهوم الاحتفال، فإن معاودة هذا الاحتفال في الموعد المحدد له في كل سنة، يجعله عيدا بمفهوم اللغة والاصطلاح والأعراف. ولاشك أن هذا الأمر مخالف لشريعة الإسلام التي استبدلت أعياد الجاهلية بعيدين اثنين، لا ثالث لهما، فمن زاد على ذلك فقد وقع في البدعة. عن أنس بن مالك قال: كان لأهل الجاهلية يومان في كل سنة يلعبون فيهما، فلما قدِم النبي – صلى الله عليه وسلم – المدينة قال: «كان لكم يومان تلعبون فيهما، قد أبدَلكم الله بهما خيرًا منهما؛ يوم الفطر ويوم الأضحى».[1]
وما من مسلم يتحرى لنفسه مواطن التقوى ويترفع بها عن مهاوي الشبهات ثم قرأ قول النبي – صلى الله عليه وسلم يخاطب أبا بكر بشأن أحد أعياد المسلمين «إن لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا»، إلا وتبادر إلى فهمه خصوصية الإسلام بتشريعاته وأعياده، ويدرك معنى قول الله سبحانه وتعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} .[2]
ومع أن النصوص واضحة في تحريم التشبه بالكفار حتى في الاحتفال بأعيادهم، لا زالت ظاهرة الاحتفال بيوم رأس السنة على طريقة النصارى منتشرة في عالمنا الإسلامي بشكل يدعو للاستنكار، وتجاوز الكثير من المسلمين وصية نبينا صلى الله عليه وسلم «خالِفوا المشركين» [3] ؛ وتحذيره الشديد من عواقب هذا الأمر في قوله (من تَشبَّه بقوم فهو منهم ) [4].
وأوضَحَ هذه المعاني الإمام الذهبي – رحمه الله- بقول: فإذا كان للنصارى عيد، ولليهود عيد، مُختصين بذلك، فلا يُشارِكهم فيه مسلم، كما لا يُشارِكهم في شِرْعتهم ولا في قِبلتهم[5].
بل ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إلى أبعد من ذلك فقال: ولا يجوزُ بيعُ كل ما يستعينون به على إقامة شعائِرهم الدينية [6].
وقد أكد ذلك أيضا تلميذه الإمام ابن القيم -رحمه الله- حيث قال: وكما أنه لا يجوز لهم إظهاره [أي العيد] فلا يجوز للمسلمين ممالأتهم عليه ولا مساعدتهم ولا الحضور معهم باتفاق أهل العلم الذين هم أهله[7] .
ثم كيف يمكن لمسلم مهتدي أن يتبع كافرا ضالا في ضلاله! قال تعالى: } {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} {.[8]
وما يزيد الطين بلة والحزن أسى، أن يسارع بعضهم لمحاكاة الزينة في أعياد غير المسلمين، فتكتسي المنازل بألوان ما يسمى الكريسمس ومنهم من يعلّق أذهان أطفاله بفساد فكري فيوهمهم أن بابا نويل أو سانتاكروز سيحضر لهم الهدايا ! وهي أكبر أكذوبة ربي عليها أولاد النصارى خلقت لديهم عقدًا نفسية واضطرابًا كتب فيه بعض علماء النفس والطب منتقدين فكرة إنشاء الطفل على أكذوبة يعمد لترسيخها الوالدان مع درايتهما بذلك ثم يطالبانه بالصدق والفضائل.
وكم من مسلم أخذ لأطفاله صورًا في حضن هذا الرجل الذي يلبس اللباس الأحمر المميز، بلحية بيضاء اصطناعية وقبعة بذيل متدلي، فيتعلق قلب الطفل به ويهوى طريقته وهو المسلم الفتي!
ولسنا في مقام تفصيل أصل قدسية هذا العيد والشجرة التي هي رمز فيه، ولا تاريخ سانتاكروز وعلاقته الوثيقة بمفاهيم عقدية لدى النصارى، ولا حتى كشف حقيقة عيد يوم رأس السنة الذي يمثل عقيدة وتاريخا لديهم، ولكننا بصدد التنبيه على أن التشبه بالكافرين في أعيادهم بدعة عظيمة وجب اجتنابها والتحذير منها.
قال الإمام الذهبي: (قال العلماء: ومن موالاتهم (اليهود والنصارى): التشبُّه بهم، وإظهارُ أعيادهم، وهم مأمورون بإخفائها في بلاد المسلمين، فإذا فعلها المسلم معهم، فقد أعانهم على إظهارها، وهذا منكرٌ وبدعةٌ في دين الإسلام، ولا يفعلُ ذلك إلا كلُّ قليل الدين والإيمان)[9].
وإنه لمؤسف أن نرى الشباب المسلم في عصرنا الحديث الذي تنزف فيه الأمة المسلمة من وطأة النوازل والمدلهمات، وهو يتمايل عوده راقصا مبتهجا لانتهاء سنة ميلادية كاملة، وكأن قلبه يطيب له الاحتفال باقتراب أجله، ودنو موعد الحساب! وهذا إن دل فإنما يدل على درجة التبعية بعميّة التي ابتلي بها المسلمون إلا من رحم ربي، فكان وصفهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟! قَالَ: «فَمَنْ» ؟! [10]
ولعل ما يعمد له الساعون في خراب هذه الأمة ومحو قداسة شرائعها الدينية وإعاقة مسيرة حضارتها الإسلامية، هو تزيين هذه الأجواء في نفوس المسلمين، الغارقين في شعور اليأس والقنوط والعجز وكذا الفقر والحاجة، فمجتمعات برمتها مضطهدة وثورات مجهضة وآمال محطمة، فيتسلل لهم الشيطان من خلال هذه الاحتفالات فيميلون ميلة واحدة للهو المحرّم لعلهم يهربون من واقعهم المرير، وليت الأمر يتوقف عند اللهو بل هو التمجيد لطريقة الغرب في الاحتفال واعتباره رقيًا حضاريًا وتميزًا يحسدون عليه رغم كل الشذوذ الذي يحمله ومشاهد التخلف وانحطاط السلوك الذي تعكسه ممارسات المحتفلين به، فكان تأثير الثقافة الغالبة غلابا!
ويتساءل المرء من يدير هذه الإمبراطوريات الإعلامية التي تضخ هذا الفساد ضخًا في مجتمعاتنا الإسلامية، من يموّلها ويوجه سياساتها الإعلامية! من يدفع بإدارات الترفيه لتتوسع في جلب كل شاذ وساقط وسفيه لشغل المسلمين برقصه على منصة، ساعات ممتدة تهدر بلا فائدة مرجوة وتتبدد الطاقات أمدا. أليس تيار التغريب المسموم الذي يتربص بنهضة الأمة، والذي يحاول أن يضرب أسس نهوضها بشغل شبابها عن دينه بإغراقه في مستنقع الشهوات وما حط من الاهتمامات!
ويا ليتنا شاهدنا ذات الإهتمام حين تحين أعياد المسلمين، بل إن كثيرا ممن يحتفل اليوم بأعياد نهاية السنة الميلادية يتعامل مع عيد الفطر وعيد الأضحى كأيام عادية، لا يظهر فيها الاعتزاز بشعائر الله ولا يقيم لها وزنا ولا اعتبارا!
فكيف يمكن أن يمثل الإسلام من لا يعظم شعائر الله، ومن لا يحفظ ميزان ولاءه وبراءته، ومن لا يغار على حرماته ويشفق على كل يوم مر يدنو به إلى أجله؟
إننا نشاهد مزامير الشيطان وقد غزت أجواء المسلمين بحجة الفن والطرب! وكأننا في وقت دعة وترف، في حين تباد أمم كاملة من أمة الإسلام في تركستان ومينيمار وإفريقيا الوسطى على مرأى ومسمع البشر!
وكأن فلسطين لا تئن تحت مطرقة الاحتلال الصهيوني وسندان العمالة والتطبيع!
وتلك العراق وسوريا قد استولى عليها الرافضي ولا شك أن لبنان واليمن لم تخرج عن فكّ أطماعه.
فبأي يوم رأس سنة يحتفلون؟ هل يحتفلون على تلك الدماء المسلمة التي سكبت، أو على حجم الدمار الذي نال من مدن المسلمين ، أم على أعداد الأسرى الذين يعانون خلف زنازين الظلم! أم على عدد الأطفال الذين قضوا من الجوع؟ أم على محاربة الفضيلة والدين!
وليت الذي سارع للاحتفال بهذا اليوم! أن يجعله يوم محاسبة شاملة، لما أنجزه من خير أو وقع فيه من شر طيلة أيام السنة، ولينظر كم اقترب وكم ابتعد من خط النجاة، فإن اطمأن لإنجازاته فلا يفسدها بخاتمة الحرام، كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا.
وإن وجد التقصير فلابد من الاستدراك لا الانبساط والاحتفال!
ومع أن الله أبدلنا عن السنة الميلادية سنة هجرية مليئة بالعبر ومواقف الفخر والاقتداء، لا زال المسلمون يتبعون الغرب حتى في نظام تواريخه!
إلى هنا يقف القلم عن لفت النظر، وننتظر تلك الضمائر أن تتحرك وتنكر البدع وكل ما يقوّض فرص نهوضنا كأمة معتزة بشرائع الإسلام تنير فضاء العالم برقيها وسمو أخلاقها واهتماماتها وحضارتها الماجدة لا تابعة ذليلة لقوم أضل.
[1] حديث صحَّحه الألباني في صحيح وضعيف سُنن النَّسائي، رقم (1556)
[2] المائدة: 48
[3] رواه البخاري في صحيحه، حديث رقْم (5892)؛ باب تقليم الأظفار، ورواه مسلم في صحيحه، حديث رقم (259) باب خِصال الفِطرة
[4] خرجه أحمد (2/50) وأبو داود (4031)، وصححه ابن حبان، وقال ابن تيمية في الإقتضاء: إسناده جيد، وحسّن إسناده ابن حجر في فتح الباري:(10/271)، وصحَّحه الألباني في الإرواء (5/109)
[5] تشبُّه الخسيس بأهل الخميس للذَّهبي ص (27).
[6] اقتضاء الصراط المستقيم: ( 2/526)
[7] أحكام أهل الذمة : (2 / 722)
[8] سورة المائدة: 77
[9] تشبيه الخسيس بأهل الخميس.
[10] أخرجه البخاري ومسلم.
_________________________________________________________
الكاتب: د. ليلى حمدان
Source link