إن من علامات الخير، ومحاسن الخواتيم أن يُرزَق العبد قبل موته أن يحب لقاء الله، فإن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، وأن يوفَّق لعمل صالح قبل موته.
إن الله سبحانه كتب الموت على خلقه أجمعين، وقهرهم به، فهو سبحانه الواحد القهار، فكل العباد إلى الله صائرون؛ كبيرهم وصغيرهم، عظيمهم وحقيرهم، ملكهم ومملوكهم، غنيهم وفقيرهم: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27]، وقد قال الله تعالى لأفضل خَلْقِهِ محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 30، 31].
فالموت – عباد الله – من أعظم المواعظ، وكفى به واعظًا: «الكَيْسُ من دان نفسه، وعمِل لِما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله»[1].
«أكْثِروا ذكر هاذِمِ اللذات؛ الموتِ؛ فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسَّعه عليه، ولا ذكره في سعة إلا ضيَّقها عليه»[2].
ومن أكْثَرَ من ذكر الموت، فإنه من الأكياس الذين ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة، وفي السنن عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: ((كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فجلس على شفير القبر، فبكى حتى بلَّ الثرى، ثم قال: «يا إخواني، لِمِثْلِ هذا فأعدُّوا»[3].
ذِكْرُ الموت – عباد الله – دافع إلى التوبة الصادقة، والإنابة إلى الله، والرجوع إليه بالإيمان والعمل الصالح.
ذِكْرُ الموت يجعلك – أيها العبد – محاسِبًا نفسك على ما قدمت لربك، وتراجع علاقتك مع الله سبحانه.
ذِكْرُ الموت يجعلك تخشع في صلاتك، وتجعل هذه الصلاة التي تصليها آخر صلاة؛ أي: صلاة مودِّعٍ.
ذِكْرُ الموت يردَع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي، ويُذهِب الفرح بالدنيا، ويُهوِّن المصائب فيها، ويُقنع بالعيش، والموت – عباد الله – لا مفرَّ منه ولا فرار، ولا يُجدي فيه بكاء ولا أحزان، وبه يكون المرء رهينَ عمله: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 8]
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب *** متى حطَّ ذا عن نعشه ذاك يركبُ
نشاهد ذا عين اليقين حقيقــةً *** عليه مضى طفلٌ وكهل وأشيـــبُ
وبالموت – عباد الله – نعلم حقيقة الدنيا، ونعلم أنها ليست للبقاء، بل خلقها الله تعالى للفناء، وأن المعيار فيها هو إحسان العمل: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2]، {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20].
عباد الله: إن من علامات الخير، ومحاسن الخواتيم أن يُرزَق العبد قبل موته أن يحب لقاء الله، فإن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، وأن يوفَّق لعمل صالح قبل موته.
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا أحب الله عبدًا عسَّله»، قال: يا رسول الله، وما عسَّله؟ قال: «يوفِّق له عملًا صالحًا بين يدي أجله، حتى يرضى عنه جيرانه، أو قال: من حوله»[4].
فقد روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: ((مرُّوا بجنازة، فأثنَوا عليها خيرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَجَبَتْ»، ثم مروا بأخرى فأثنَوا عليها شرًّا، فقال: «وجبت»، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: «هذا أثنيتم عليه خيرًا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا، فوجبت له النار؛ أنتم شهداء الله في الأرض».
[1] أخرجه الترمذي (2459)، وابن ماجه (4260)، وأحمد (17164).
[2] أخرجه الترمذي (2307)، والنسائي (1824).
[3] أخرجه ابن ماجه (4195) بلفظه، وأحمد (18601).
[4] أخرجه ابن حبان (342)، والطبراني في المعجم الأوسط (3298)، والحاكم (1258).
_______________________________________________________________
الكاتب: سعد محسن الشمري
Source link