من ميادين الغزو الفكري: ميدان التعليم

منذ حوالي ساعة

كان للتعليم على النظام الغربي دور كبير وأثر خطير في تحقيق الغزو الفكري، وإعداد قادة التغريب في العالم الإسلامي، حيث انبهروا بكل ما في الفكر الغربي من قيم، وتبنوا الدعوة إلى تقليد الحضارة الغربية بكل ما تنطوي عليه.

قام المستعمرون بالغزو في ميادين كثيرة، ومجالات متنوعة نقتصر مها على ميدانين فقط وهما: ميدان التعليم، وميدان الثقافة.

 

ميدان التعليم:

لقد أدرك المستعمرون أثر التعليم في تكوين الشخصية وتكوين فكرها وعاداتها وتقاليدها، وذلك لأن روح التعليم تعتبر ظلاً للعقيدة والفكر والنظرة إلى الحياة والكون هذا هو الذي يجعل لنظام التعليم في كل أمة شخصية مستقلة، وروحاً متميزة، ومن ثم فإنهم حاولوا أن يسيطروا على التعليم في البلاد الإسلامية ويخضعوه للنظام الغربي حتى تكون الروح المسيطرة عليه ظلاً لفكرهم وعقيدتهم وعاداتهم ونظرتهم إلى الحياة، ولم يكتفوا بتوجيه الشباب المسلم توجيهاً مغرضاً عن طريق المدارس والجامعات التبشيرية، واستعانوا بالتنصير الذي لجأ إلى الأساليب المباشرة في دعوة التلاميذ والطلاب إلى النصرانية، لكن المستعمرين عدلوا بعد ذلك عن أسلوبهم الصريح في التبشير إلى أسلوب آخر أعمق وأخبث يقوم على إضعاف التعليم الديني وتدعيم التعليم اللاديني (أو المدني)[1].

 

فعلى سبيل المثال حينما تولى المستر “دانلوب” الكسيس الذي عينه اللورد كرومر مستشاراً لوزارة المعارف ترك الأزهر على ما هو عليه ولم يتعرض له مثلما فعل نابليون بحماقته التي استثارت المسلمين وإنما قام بضربه بأسلوب بطيء أكيد المفعول حيث فتح مدارس جديدة تعلم “العلوم الدنيوية” ولا تعلم الدين إلا تعليماً هامشياً هو في ذاته جزء من خطة إخراج المسلمين من الإسلام[2].

 

وبذلك أوجد الاستعمار هذه الثنائية في التعليم – والتي لا تزال قائمة في كثير من البلاد الإسلامية – وقام المستعمرون بتدعيم التعليم المدني والإغداق عليه، في الوقت الذي قاموا بالتضييق على التعليم الديني والتنفير منه، ونجحت سياستهم في تحقيق أهدافهم من ذلك، حيث تم حصر أصحاب الثقافة الإسلامية في المساجد، ومنعهم من احتلال مراكز تتصل بتوجيه المجتمع، وتنفير الناس منهم عن طريق تخفيض مرتباتهم، مما يؤدي إلى أن يستشعروا الذلة والنقص، وتزدريهم الأعين وتنفر منهم النفوس نتيجة لفقرهم، كما يؤدي في الوقت نفسه إلى انصراف الناس إلى ألوان التعليم التي تجر المغانم وتوصل للجاه، وهذه مؤامرة قديمة، حاك الاحتلال خيوطها منذ وضع يده على الأزهر، وهي ذات شقين: يستهدف أولهما عزل الأزهر عن الحياة، ويستهدف الآخر إخضاع برامجه لرقابة تضمن إفناء شخصيته بل وفرنجته، بحيث يصبح الدين تبعاً للحياة وذيلاً لها، يتبعها ويتشكل بها، بدل أن يقودها ويقومها[3].

 

أما التعليم المدني الذي توسعوا فيه بعد أن أخضعوه ورجاله لنظامهم الغربي، حيث سرت روح الغرب في جميع العلوم الأدبية والعلمية، وبثوا فيها كثيراً من أفكارهم التي تشوه الإسلام وتمجد الحضارة الغربية، مما أدى في كثير من الأحيان إلى صراع عقلي، وأفضى إلى زعزعة الثقة لدى كثير من الشباب المسلم في ماضيهم ودينهم وحضارتهم، فاستهانوا بأمتهم وتاريخهم، واعتزوا بكل ما هو غربي.

 

يذكر المستشرق النمساوي محمد أسد:

“أن الغرب بصرف النظر عن عقليته المثقفة إلى درجة قصوى ذو استعداد مادي، وهو من أجل ذلك مناهض للدين في مدركاته وفي افتراضاته الأساسية، وكذلك نظام التربية الغربية على وجه العموم، وليست دراسة العلوم الأساسية، وكذلك نظام التربية الغربية على وجه العموم، وليست دراسة العلوم الحديثة التجريبية هي المضرة بالحقيقة الثقافية في الإسلام، وإنما المضر هو روح المدنية الغربية التي يقترب المسلم بها إلى تلك العلوم[4].

 

أما مناهج الدين والتاريخ الإسلامي بالذات فقد قاموا بعرضها عرضاً منفراً مغرضاً وجعلوها على هامش المنهج الدراسي، مما يغرس في نفوس الأطفال والتلاميذ عامة عدم الاهتمام بهما، ويطبعهم على الاعتقاد بعدم جدواهما دراسياً، مما يرسب في نفوسهم الاستخفاف بالدين من حيث هو سلوك وعبادات، وبالتاريخ الإسلامي من حيث هو سجل لأمجاد الأمة الإسلامية والعربية!!

 

فقد صيغ التاريخ في قالب غربي مقسم إلى ثلاثة عصور كبرى: العصور القديمة، والعصور الوسطى، والعصور الحديثة، وكلها تبين أهمية الحضارة الأوروبية وتغفل الحضارة الإسلامية المميزة، كما تخفي هذه المناهج خطورة الاستعمار الأوروبي وخاصة في العالم الإسلامي، والعالم الجديد، وتظهر الأوروبيين بمظهر رسل الحضارة، وأهل الفكر والعلم، وأن الحضارة الأوروبية هي خلاصة الحضارات وأهمها، ولا تتقدم الأمم إلا باحتذائها وأخذها.

 

كما حشيت مقررات التاريخ بدسائس المستشرقين وسموم المنصرين، وكتبت بأسلوب شديد التأثير بالأساليب الغربية التي تفسر التاريخ تفسيراً مادياً أو فلسفياً خاصاً أو اقتصادياً، وكتب التاريخ الإسلامي على شكل سلسلة عنيفة من الصراعات والدسائس والفتن، وأغفلت الدعوة الإسلامية تماماً، ودور المسلمين في الرقي البشري وما قدمته الحضارة الإسلامية في انتشال الأمم من وهدة الجهل والانحطاط والجاهلية[5].

 

والخطير أنهم في نفس الوقت كانوا يقومون بإحياء النعرات الإقليمية والجاهلية وتسريبها إلى مناهج الدراسة، وعرضها من زواياها البراقة التي تغري باعتناقها والاعتزاز بها والاهتمام بمعرفتها، كما حديث بالنسبة لتاريخ الفراعنة في مصر، والآشوريين والبابليين في العراق والفينيقيين في الشام.

 

وأخطر من هذا أن الاحتلال كان يقوم بنصب مثل عليا جديدة أمام أجيال المتعلمين، فيعرض لهم تاريخ أوروبا، وحياة أبطالها، وعلمائها، ومذاهبها الفلسفية والاجتماعية ونظرياتها العلمية، كل ذلك يعرض بطريقة لامعة جذابة ليتم صرف المسلمين عن دينهم بأحد الطريقين:

(أ‌) طريق الاعتزاز بما قبل الإسلام، وفي هذا فرقتهم وتباعدهم!

(ب‌) أو طريق الفناء في الحضارة الغازية، وفي هذا محوهم وردتهم!

 

وكلاهما شر محض، واستبدال للوجهة الإسلامية، في صمت قاتل أو في جلبة براقة، وأسلحة خفيفة لا تفيق فيها الضحية إلا بعد فوات الأوان[6].

 

يذكر محمد أسد أن الأوروبيين قد عرضوا التاريخ عرضاً فيه هدف خفي وهو أن يدلل على أن الشعوب الغربية ومدنيتها أرقى من كل شيء جاء أو يمكن أن يجيء إلى هذا العالم، ويجعل القارئ يستسلم للتوهم بأن عظمة ما بلغ إليه الأوروبيون في النواحي الاجتماعية والعقلية لا يمكن أن يقاس بها شيء مما حدث في العالم أجمع.

 

ولا شك أن تدريس التاريخ على هذا النمط يؤدي إلى شعور الشعوب الإسلامية وغير الأوروبية بالنقص فيما يتعلق بثقافتهم الخاصة وبماضيهم التاريخي الخاص وبالفرص السانحة لهم في المستقبل، وهكذا يتربون تربية منظمة على احتقار ماضيهم ومستقبلهم اللهم إذا كان مستقبلاً مستسلماً للمثل العليا الغربية[7].

 

ولعل من أهم العناصر التي أدت إلى نجاح سياسة الاستعمار الغربي التعليمية نظام الابتعاث إلى المعاهد العلمية في الغرب، فقد اختار الاستعمار المبتعثين من بين أفضل وأنجب الطلاب والخريجين، وأحاطهم برعاية خاصة وبتوجيه قوي، وكان نتيجة ذلك أن أكثر هؤلاء المبتعثين يعودون إلى بلادهم وقد تأثروا تأثراً بالغاً بالحضارة الغربية في أخلاقهم وأفكارهم وعاداتهم، ثم يتولى هؤلاء المناصب الهامة في بلادهم، فيقبلون من خلالها على توجيه إخوانهم ومواطنيهم توجيهاً غربياً، فيحققون بذلك – عن عمد أو بلا وعي – أهداف الغزو الفكري الغربي[8].

 

وهكذا كان للتعليم على النظام الغربي دور كبير وأثر خطير في تحقيق الغزو الفكري، وإعداد قادة التغريب في العالم الإسلامي، حيث انبهروا بكل ما في الفكر الغربي من قيم، وتبنوا الدعوة إلى تقليد الحضارة الغربية بكل ما تنطوي عليه.

 


[1] راجع المدخل إلى الثقافة الإسلامية للدكتور محمد رشاد سالم، ص50-51، دار القلم بالكويت. ودراسات في الفكر الإسلامي الحديث للدكتور عبدالمقصود عبدالغني ص103-104.

[2] راجع تفصيل ذلك في واقعنا المعاصر للأستاذ محمد قطب، ص203-210.

[3] راجع المدخل إلى الثقافة الإسلامية، ص51-53.

[4] راجع الإسلام على مفترق الطرق، ص72، ودراسات في الفكر الإسلامي الحديث، ص104.

[5] راجع تفصيل ذلك في واقعنا المعاصر، ص210-215، واحذروا الأساليب الحديثة، ص200-205، وحاضر العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة للدكتور جميل المصري، ص197-198، مكتبة العبيكان.

[6] راجع الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام، ص70-71

[7] راجع الإسلام في مفترق الطرق، ص76.

[8] راجع المدخل إلى الثقافة الإسلامية، ص54، والغزو الفكري والتيارات، ص73-74.

_______________________________________________________________
الكاتب: أ. د. مصطفى مسلم


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح دعاء الهم والحزن – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة «اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ، والعَجْزِ والكَسَلِ، والبُخْلِ والجُبْنِ، وضَلَعِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *