إنَّ هذه الطريقة المسعورة لكسب المال من خلال العلم، وعلى ظهورِ الطُّلاب المساكين، وسوء استغلال هؤلاء الأساتذة لسلطتهم على الطلاب، بإلزامهم بشراء هذه الكتب، وجَعَلِ المُقرَّر يدور عليها = فيه جنايةٌ على العِلم، وعلى الطلاب.
«طواغيت العلم» -الحلقة الأولى-
حَشَفًا وَسُوءَ كِيلَةٍ (1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله…
وبعد؛ فقد تردَّدتُ كثيرًا في اختيار هذا العُنوانِ، لشِدَّتِه على قَلْبِي، قَبْلَ خَوْفِي مِن نَقْدِ قُرَّائِه، وهُو عُنوانٌ ـ وَلَوْ بالغتُ فِي صِياغَتِه – يُجسّدُ حَقِيقةً مُؤلِمةً، نُشَاهِدُها في الحَياةِ العِلميَّةِ «الجامعية».
فالعِلمُ بَركةٌ منَ الله -عز وجل- على صاحبه، وقد أثنى الله -عز وجل- على حامليه في غير آيـة؛ منها: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: ۲۸].
ويحتاجُ العِلمُ إلى دراسة وجهد، فإذا مَلَكَه الشَّخصُ؛ وجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاتُه، وتكونُ زكاتُه بـ: بذله للنَّاسِ، والتّصنيف فيه، وتحقيقه، ونَشْرِه.
وقد بلينَا اليوم بمُتعلِّمينَ يَبذلونَ العِلمَ بِغرض المتاجرة فيه، وهم أصنافُ…
والذي يهمني في هذا الصدد، صنف واحد، وهو مَن يُؤلِّفُ ويَنشِرُ «المقرَّراتِ الجامعية»، وأخص بعضًا منهم، سيأتي بيانهم مع صُورِ أفعالهم، فالتعميم في هذا البابِ غير وارد البتَّة.
ومَنْ أَقْصُدُهم بمقالي هذا، أساتذة متخصصون في كِتَابَةِ وَإِعدادِ مُؤلَّفَاتٍ، تَتَضمَّنُ مفردات «المقررات الجامعية»، على كافة التخصصات، والمستوياتِ، مِن أَوَّلِ عَتباتِ «السَّنة التّحضيرية»، وحتَّى مُقرَّراتِ التَّخرُّج من «الجامعة»، بعد التنسيق مع بعض مُدرسي هذه المقرَّراتِ، وأحيانًا يكونُ المؤلّفُ ـ أو المعد – هو مُدرِّسُ هذه المادة، أو زميل لمن يُدرسها، أو باحِثُ مُتعاقد مع ناشر يُمرّر هذه الكتب كمُقرَّرات بطريقة «ما»، وفي حالاتٍ أُخرى يكونُ المؤلف هو النَّاشِر نفسه.
إنَّ هذه الطريقة المسعورة لكسب المال من خلال العلم، وعلى ظهورِ الطُّلاب المساكين، وسوء استغلال هؤلاء الأساتذة لسلطتهم على الطلاب، بإلزامهم بشراء هذه الكتب، وجَعَلِ المُقرَّر يدور عليها = فيه جنايةٌ على العِلم، وعلى الطلاب.
ونقدي لهذه الظاهرة السيئة، أجمله في أُمور منها:
أولاً: ضَعفُ المستوى العلمي:
عند إلقاء نظرة سريعة على هذه المقررات؛ نلاحظ ضعف المستوى العلمي لكثير منها، حيث صيغ كثير منها بطريقة الإنشاء، والكلام المرسل، دون توثيق علمي، أو سلوك لمنهج البحث العلمي، فلا تجد فيها: توثيقا لمعلومة، أو تحقيقًا لها، أو قائمة المصادر والمراجع، والفهارس العلمية، وخِطَّةَ البحث، ومنهج البحث، ومُشكلة البَحثِ، وحدودَ البَحثِ…
وهي أُمورٌ يُصر الأستاذ على التزامِها مِنْ قِبل الطلاب، في إعداد بحوثهم، بينما الأستاذ – نفسه – لم يلتزمها في مقرّره المطبوع، الذي ألزم فيه طلابه، وباعه عليهم بسعرٍ مُرتفع (كما سيأتي)، فكان عمله ـ مع طُلَّابِه – «حَشَفًا وَسَوءَ كِيلَةٍ».
بل بعضها بدأت فكرتُها من خلال جمع مُذكَّرات ومُلخّصاتِ الطُّلابِ الْأَذْكياء، الذينَ يكتبون وراءه، فقام بجمعها والنظر فيها، وجعلها أَصلَ عَمَلِه، الذي قام بطبعه وبيعه، ورُبَّما كلف غيره ـ بأجرة – لجمعها وتحريرها وصياغتها.
وهذه الكتب ـ باختصار – لا تُؤصِّلُ الطَّالب على منهج علمي، بل غايتها: الشراء بثمن مرتفع، وإمداد الطالب بمعارف مُعيَّنة، يقرؤها، ثم يختبر فيها، ثم ينجح، ثم يبيعهـا بعـد انتهاء الفصل الدراسي بثمن بخس في حراج (الكتاب المستعمل)، ثم ينسى معارفها بعد ذلك… وهكذا إلى أن يتخرج !
ثانيا : سُوء الإخراج الفني:
كل من اطلع على هذه المقرَّرات، لا يشك في سوء الصورة الشكلية والفنية للكتاب، من جهة: الصَّفِ، والتنسيق، والإخراج، والطباعة، وكثير منها يُطبع على غلافٍ ورقي، وليس مجلدا فنيا، زيادةً على سُوءِ الصُّورة الموضوعية والعلمية للكتاب، كما تقدَّم في العنصر الأول.
وكلُّ هذا السُّوء في الصُّورتين الموضُوعيَّة والشَّكليَّة؛ لا يتناسب البتة مع سعرها المبالغ فيه! إنَّ هذه الكُتبَ يُعدُّها ويَطْبَعُها غني بتكلفة منخفضة؛ ثم يشتريها محتاج بتكلفة مُرتفعة، وهذا جورٌ وحيفٌ، لا يتناسب مع شرفِ العِلمِ، وعُلو أهله.
ثالثًا: ارتفاع سعرها:
من الأمور الموجعة لـ «طلاب الجامعات»، التي يُعانون ـ بـل ويصرخون ـ منها، هـو الارتفاع المبالغ فيه في ثمن هذه الكتبِ محلّ الحديث، مما يعجز عنه الطلاب، وغالبهم يجد حَرجًا في شرائها، فيضطر كثير منهم للبحث عنها في سوق الكتاب المستعمل»، علما بأنه يشتري نسخةً تالفة، وعليها تلوث بصري قلمي، وذكريات ومغامرات، بقلم مالكها الطالب السابق، ثم هو يشتريها مِنهُم بِسعرٍ مُرتفع، وإنْ كان أقل مِنْ سِعرها جديدة؛ وذلك لكون أصحاب هذه السُّوق الأخيرة، قد عرفوا اللُّعبة»، واشتركوا فيها، فغالوا في سعرها.
والغريب في أسعار هذا النوع مِنَ الكُتبِ، أَنَّك تشتري لابْنكِ كِتَابًا جَامِعيًّا مُؤقتًا، بإخراج سيء، وتجليد ورقي وليسَ مُجدّدًا، وبطرح يُقاربُ أُسلوبَ مُذكَّرَاتِ الطُّلابِ، ثُمَّ تدفع قيمته بما يُعادِلُ كِتابًا عِلميًّا من ثلاثِ مُجلدات فنية، مطبوعةٍ في «بيروت»!
و «الكتاب الجامعي» الباهظ تشتريه لِفَصْلِ دِرَاسي واحد، والآخرُ ذُو المجلدات الثلاثةِ “البيروتيَّة”، تشتريه باليسير مِنَ المالِ، لتقتنيه مرجعًا في مكتبتك، وتستفيد منه لسنواتٍ!
ومما أدهشني ـ بل وأضحكني – في هذا الباب، أنَّ أحدَهُم عَملَ مُقرَّرًا لطُّلابِه، ثم باعه على «الجامعة»، ثم اسْتَلَمَهُ مِنَ «الجامعة» بعد شرائهم منه، ليقدمه مجانًا لطلابه، هَديةً منه!
رابعا: الإلزام غير القانوني:
بعد كل السُّوء الذي اجتمع في المقررات التجارية المطبوعة، التي مرَّ وصفها سابقا، يأتي الأستاذ فيُلزمُ الطَّلاب بشرائها، وإحضارها إلى القاعاتِ الدراسية، ومِنهُم مَنْ يتورع عن الإلزام القولي الصريح، ولكنَّه يُلزِمُ بشرائها وإحضارها تلميحا، بوجهِ لا يُمكنُ أنْ يُفْهِم مِنه إلا ضرورة شرائها، بدليل إخبارِ الطُّلابِ ـ عَلى سَبيلِ النُّصْحِ! ـ بِأَنَّهُ سَيُرتِّبُ عَلَى إِحْضَارِهَا -بطبعتها الجديدة! ـ دَرجةً في المشارَكَةِ الفَصلِيَّة، فأَيُّ إجبارٍ بعدَ هَذا؟!
وهذا ظلم للطُّلابِ، وغَبنٌ لهم، وإلزامهم بِشِراءِ بِضَاعَةٍ فَاسدة، بسعرٍ مُرتفع، والأساتذةُ يعلمون ـ بهذا الإلزام – أنَّ مؤلَّفاتهم هذه – بهذا الطَّرح، وهذا السعر ـ لنْ يَشتريها أَحدٌ غيرُ – الطُّلابِ، ولن يجرأ باحث في الرجوع إليها كمصدرٍ عِلمي، لينقلُ منها، ويعزو إليها، لأنها – باختصار – ليست مصادر عِلمية أصيلة.
إنَّ هذه الطريقة المسعورة، التي تفتقدُ إلى «المروءَةِ» في التَّعاطي مع العِلم، تَسبَّبت في إثراء مؤلفين، ومُدرّسين، ودور نشر، أثْقَلَهُمُ المال، على أكتافِ طلبة أثقلتْهُمُ الحاجةُ.
حتَّى أَنَّ إِحْدَى دُورِ النَّشِرِ الشَّهِيرَةِ، التي كانتْ مُتخصصةٌ فِي طَبْعِ وَنَشِرِ وَتَوزِيعِ -الكُتُبِ التراثية-، انتقلت إلى طباعة ونشرِ. وتوزيع «المقررات الجامِعيَّة»، بعد أنْ أعجبتها اللعبة، وأيقنَتْ سُهولة أمرِها، وضَمان الربح الكبير فيها؛ فاستكتبَتْ بَعضَ «أَسَاتذة الجامعات»، وأكثرهم من أخواننا “المقيمين”، فصنعوا لها كتبا في أوراق يسيرة، لتبيع الكتاب الواحد بأضعاف تكلفته!
ورأيتُ لدَيْهِم كُتبا تُكلّف طباعتها خمسة ريال، وتباع لديهم بخمسين ريالاً، وصياغتها أشبه بـ «الملخصات» و «المذكرات»، التي تُباع بسعر زهيد، في مراكز «خدمات الطالب»، ويصنعها الطُّلاب – احْتِسَابًا ! – لزُمَلائِهِمْ.
بل إنَّ بعض «الملخصات» -أجودُ- وأهم من هذه المقررات التي تباع بسعر غال؛ لذا يعتمدها الطلاب في مُذاكراتهم فيَنجَحُوا، ولا يَرْجِعُوا إلى هذه المقرَّرات، لأَنَّهُم إِنَّهَا اشْتَرَوْهَا للمُبَاهَاةِ بِها أَمامَ أُستاذ المادَّةِ، ولِكَسْبِ ودّه، ولجني «درجاتِ» المشاركة، المُخَصَّصة لشراء الكتاب، وتأكيد شرائه عبر إحضاره إلى “القاعة”؛ لتقرَّ عَيْنُ الأستاذ برؤية أحد أبنائه من غيرِ صلبه!
والطُّلابُ لا يستطيعونَ مُقاومة هذا «الجشع»، وليس لهم إلا الشّراء، إمّا جَديدًا كأَبْناءِ الأسر المترفة، أو مُستعملاً كأبْناءِ الأُسرِ المَسْتُورةِ.
وإِنَّكَ لَتَعْجَبُ حِينَ تَقرأُ عَلى أَغْلِفةِ بعض هذه الكُتُبِ (الطَّبعةُ العِشرونَ)، ولم يمض على طبعتها الأولى سوى مُدَّةٍ يَسيرةٍ، فيُخيَّل إليكَ أنه مَرجِع هام ومطلوب، جَمعَ بينَ جَودةِ الطَّرحِ وجمال الطباعة، بينما الأَمْرُ لا يعدو عن كونِهِ كِتَابا مُلْزِما لَآلَافِ الطُّلابِ، وَهُمْ مُرْغمون على شرائه، على قاعدة: «مكره أخاكَ لا بطل».
ومما أَذْكُرهُ مِما له صلةٌ في مَوْضُوعِنا، أنَّ أحدَ الأَسَاتذة لَه كِتابُ ذُو مُجلَّدَيْنِ، يُبَاعُ بِسعِرٍ مُرتفع جدًّا، وهو مَرْجِع لمقرَّر في «الجامعة»، وبَاعَ مِنهُ نُسخا كثيرةً للطلابِ، ثُمَّ أصبحَ هذا الأستاذ مسؤولاً كبيرًا في «الجامعة» نفسها، فلم يجرؤ أستاذ ـ مِمَّنْ أَتى بعـده ليدرس المادة نفسها ـ على التأليف في الموضوع نفسه، فاستمر إقرار الكتاب على الطُّلابِ، لعِدَّة سنوات، مُجاملة لمؤلفه المسؤول.
صورة مشرقة لبذل العلم:
لقد كتبتُ ما كتبتُ، مِن شواهد حيَّةٍ أعرفُها بأسمائها، ومِنْ مُراقبة لهذا الموضوع عن قُربِ، فلم أكتبْ عَبَثًا، أو تخيلاً.
ومعَ هَذا؛ فيُوجدُ مِنْ أساتذة الجامِعاتِ، مَنْ يُشكِّلُونَ صَفحةٌ مُشرقةٌ، في بَذْلِ العِلمِ، حيثُ يُؤلِّفُونَ لِطُلابهم مُقرَّرات عِلمِيةٍ، ويطبعونَها ، ثُمَّ يَبيعُونَها بِسعرٍ مُعتدل، مع غلافٍ مجلد، وبإخراج جميل، دونَ إلزامِ الطلاب بها.
ومنهم مَنْ يُشيرُ على طلابه بشراء مراجع لقدماء الأساتذة، من «المصريين»، و «العراقيين»، و «السوريين»، والتي تُعدُّ كُتبهم – بحقِّ ـ مراجع أصيلة، تخرج منها علماء، وهي ـ على قوتها العلمية ـ تُباع بسعر معقول.
ومنهم مَن يُعدُّ مُقرّرهُ، ثُمَّ يجعله في ملفٍ مُصوّرٍ بصيغة (PDF)، ويُرسله إلى «البريـدِ الإلكتروني» لـ «رائد القاعة»، طالبًا مِنه تَعْمِيمه على زُمَلائه الطُّلاب، وإخبارُهم أَنَّ هَذا هو مَنْهجهم المُعتَمَدُ.
ومِنْهُمْ مَنْ يَحرصُ عَلَى تَربية طلابه على التنوع المعرفي، فيَطْلُبُ مِنْهُمُ الذَّهَابَ إِلى «مكتبةِ الجامعة»، وتصويرَ صَفَحاتٍ مُحدَّدةٍ مِنْ كُتبٍ مُعيَّنة، تُشَكِّلُ ـ بِمَجْمُوعِها – المَنْهِجَ الْمُعْتَمَدَ، فيكون قد اعتمد لهُمْ عِدة مَراجِعَ أَصِيلةً، مُوفرة بالمجان، دون تكليفهم بشرائها. وأحدهم اتصل به صاحب دارِ نشرِ مَعْنِيَّةٍ بِمَقَالي هذا؛ لكونه مُدرِّسًا فِي عِدَّةِ جَامِعَاتٍ، وطَلبَ منه إعدادَ مُقرَّرٍ لِبَعْضِ المواد «القانونية»، ليَضُمَّها لمبيعاته «الجامعية»، ذاتِ السعر المُرتَفِعِ، عَلَى أَنْ يَتَقاسَمَ مَعَهُ الأَرْبَاحَ، فَرَفَضَ هَذا الأستاذُ الأَصِيل، رَغْمَ فَقْرِه، واحتياجه للمال؛ لأنَّه لا يُقرُّ مَبْدَأَ «المتاجَرَةِ بالعِلمِ».
– انتهى المقال ويليه بإذن الله تعالى: “طواغيت العلم (2)”
____________________________________________________________
(1) مثل مشهور يجمع بين خصلتين مكروهتين، وللأمر المكروه من جهتين، ولمن يجمع على آخر ضربين من الخسران ونوعين من القصان!. ونصبت (حَشَفًا) بفعل مضمر (أتَجْمَعٌ).
أنظر “جمهرة الأمثال” للعسكري (1 – 101)، و”مجمع الأمثال” للميداني (1- 207)
Source link