كفروا بما يجب الإيمان به، فكفروا بالله، أو باليوم الآخر، أو بالملائكة، أو بالكتاب، أو بالنبيين، أو بالقدر.. إذا كفروا بأي واحد من هذه الأشياء الستة فهم كفار؛ لأن الإيمان لا يتبعض
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)}
{{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}} كفروا بما يجب الإيمان به، فكفروا بالله، أو باليوم الآخر، أو بالملائكة، أو بالكتاب، أو بالنبيين، أو بالقدر.. إذا كفروا بأي واحد من هذه الأشياء الستة فهم كفار؛ لأن الإيمان لا يتبعض، كما قال الله تعالى: {{وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا}} [النساء:١٥٠-١٥١]. وقال تعالى: {{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ}} [البقرة:٨٥].
فالإيمان ستة أركان بينها الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جوابًا لجبريل حين سأله عن الإيمان فقال «: (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)» [أحمد]
{{لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ}} لن تدفع عنهم قضاؤه، وتمنعهم من بطشه وعذابه، كما في قول أبي سفيان، يوم أسلم: “لقد علمت أن لو كان معه إله غيره لقد أغنى عني شيئا”.
{{أَمْوَالُهُمْ}} يطلق المال غالبا على الدراهم والدنانير، كما في قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للعباس: «(فَأَيْنَ الْمَالُ الَّذِي وَضَعْتَهُ بِمَكَّةَ حِيْنَ خَرَجْتَ عِنْدَ أُمِّ الْفَضْلِ وَلَيْسَ مَعَكُمَا أَحَدٌ غَيْرَكُمَا)» [أحمد]. وغلب المال في كلام أهل الزرع والحرث على الجنات والحوائط، ففي الحديث: “كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ” [البخاري]. وغلب اسم المال في كلام جل العرب على الإبل.
ولما كان المال في باب المدافعة والتقرب والفتنة أبلغ من الأولاد، قدم في هذه الآية، وفي قوله: { وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى} [سبأ:37] وفي قوله: {{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}} [التغابن:15] وفي قوله : {{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ}} [الحديد:20] وفي قوله: {{يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ}} [الشعراء:88]
بخلاف قوله تعالى: {{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}} [آل عمران:14]، فإنه ذكر هنا حب الشهوات، فقدّم فيه النساء والبنين على ذكر الأموال.
** واختلف العلماء في المرتد الذي يكفر بعد إسلامه، هل يزول ملكه عما تحت يده أو لا؟ فمن العلماء من قال: إنه إذا ارتد الإنسان زال ملكه عما تحت يده، وعلى هذا فلا يصح أن يتصرف فيه، ولكن القول الراجح: أنه لا يزول ملكه إلا إذا مات على ردته فإن ملكه لا ينتقل إلى ورثته، بل إلى بيت المال. ولا يرثه أحد من ورثته لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ)» [متفق عليه].
{{وَلَا أَوْلَادُهُمْ} } ولا تناصر أولادهم، وإنما خص الأموال والأولاد من بين أعلاق الذي كفروا؛ لأن الغناء يكون بالفداء بالمال، كدفع الديات والغرامات، ويكون بالنصر والقتال، وأولى من يدافع عن الرجل من عشريته أبناؤه، وعن القبيلة أبناؤها.
{{مِنَ اللَّهِ}} من عذابه الدنيوي والأخروي {شَيْئًا} للتقليل.
{{وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ} } ما يُوقد به: كالطَّهور ما يُتطهر به، والسَّحور ما يتسحر به، والفَطور ما يُفطر به، بخلاف الضم: فُطور، وسُحور، وطُهور، ووُضوء فهي الأفعال.
وإذا كانوا -والعياذ بالله- وقودها فإنها تتسعَّر بهم أو تُسعر بهم، وهي في نفس الوقت تحرقهم نسأل الله العافية.
{{النَّارِ}} وأتى بلفظ: { {هم} } المشعرة بالاختصاص، وجعلهم نفس الوقود مبالغة في الاحتراق، كأن النار ليس لها ما يضرمها إلا هم.
** ذكر في هذه الآية الكريمة أن الكفار يوم القيامة لا تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئا، وذكر أنهم وقود النار أي: حطبها الذي يتقد فيه، ولم يبين هنا هل نفيه لذلك تكذيب لدعواهم أن أموالهم وأولادهم تنفعهم، وبين في مواضع أخر أنهم ادعوا ذلك ظنا منهم أنه ما أعطاهم الأموال والأولاد في الدنيا إلا لكرامتهم عليه واستحقاقهم لذلك، وأن الآخرة كالدنيا يستحقون فيها ذلك أيضا، فكذبهم في آيات كثيرة، فمن الآيات الدالة على أنهم ادعوا ذلك قوله تعالى: {{وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}} [سبأ:35]، وقوله تعالى: { {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً}} [مريم:77]، يعني في الآخرة كما أوتيته في الدنيا. وقوله: {{وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} } [فصلت:50] أي: بدليل ما أعطاني في الدنيا، وقوله: {{وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً}} [الكهف:36]، قياسا منه للآخرة على الدنيا.
ورد الله عليهم هذه الدعوى في آيات كثيرة كقوله هنا: {{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}} ، وقوله: {{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} } [المؤمنون:55-56]، وقوله: {{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى}} [سبأ:37]، وقوله: {{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}} [آل عمران:178]، وقوله: {{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ, وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}} [القلم:45-44]. إلى غير ذلك من الآيات.
{{كَدَأْبِ}} الكاف للتشبيه، والدأب -بسكون الهمزة وفتحها- إذا لازم فعل شيء ودام عليه مجتهداً فيه، مصدر دأب، إذا دام، ثم نقل إلى الشأن والعادة.
{{آلِ فِرْعَوْنَ}} أشياعه وأتباعه، لأن الآل يطلق على أشد الناس اختصاصا بالمضاف إليه، والاختصاص هنا اختصاص في المتابعة والتواطؤ على الكفر، كقوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] فلذكر الآل هنا من الخصوصية ما ليس لذكر القوم؛ إذ قوم الرجل قد يخالفونه. فلا يدل الحكم المتعلق بهم على أنه مساو لهم في الحكم، قال تعالى: {{أَلا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ}} [هود:60]
وتخصيص آل فرعون بالذكر من بين بقية الأمم لأن هُلْكَهُمْ معلوم عند أهل الكتاب، بخلاف هُلْكِ عاد وثمود فهو عند العرب أشهر؛ ولأن تحدي موسى إياهم كان بآيات عظيمة فما أغنتهم شيئا تجاه ضلالهم؛ ولأنهم كانوا أقرب الأمم عهدا بزمان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو كقول شعيب: {{وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ}} [هود:89] وكقول الله تعالى للمشركين: {{وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ}} [الحجر:76] وقوله: {{وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ}} [الحجر:79] وقوله: {{وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}} [الصافات:137- 138].
وقد ذكر الله سبحانه تعالى قصة فرعون في كتابه كثيرًا من أجل اليهود الذين كانوا في المدينة، ومن أجل الأنصار الذين تلقوا من علوم اليهود شيئًا كثيرًا.
{ {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}} كقوم نوح وهود ولوط وصالح وشعيب وغيرهم.
{{كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}} كذبوا بكل ما يدل عليها من الآيات الكونية والآيات الشرعية، وأكثر ما يكون أن يكذبوا بالآيات الشرعية؛ لأن الآيات الكونية قل من يُكذِّب بها فالآيات الكونية مخلوقات الله، وقل من ينكر أن يكون الخالق هو الله، لكن الآيات الشرعية التي هي الوحي التي جاءت به الرسل هو الذي يقع فيه التكذيب.
{{فَأَخَذَهُمُ}} أهلكهم {اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} رجع من التكلم إلى الغيبة، ومعنى الأخذ بالذنب: العقاب عليه، والباء في: بذنوبهم، للسبب.
وهو أخذ الانتقام في الدنيا كقوله: {{أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} } [الأنعام:44-45].
{{وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}} فيه إشارة إلى سطوة الله على من كفر بآياته وكذّب بها.
** والآيات استئناف كلام ناشئ عن حكاية ما دعا به المؤمنون: من دوام الهداية، وسؤال الرحمة، وانتظار الفوز يوم القيامة، بذكر حال الكافرين في ذلك اليوم، على عادة القرآن في إرداف البشارة بالنذارة. وتعقيب دعاء المؤمنين {{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا..}} ، بذكر حال المشركين، إيماء إلى أن دعوتهم استجيبت.
** وفيه: أن كل من جحد أهل الخصوصية، وفاته حظه من مشاهدة عظمة الربوبية، حتى حصل له الطرد والبعاد، وفاته مرافقة أهل المحبة والوداد، لن تغني عنه – بدلاً مما فاته – أموالُ ولا أولاد، واتصلت به الأحزان والأنكاد.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
Source link