هذه رحلة عبر التاريخ نعيش فيها لحظات مع رسولنا العظيم صلى الله عليه وسلم، ولكني بداية أعتذر له ولكم عن قصوري عن توفيته حقه وعجزي عن أن أقدره قدره.. كيف وهو خير الورى وأفضل من وطئ الثرى؟ كان بين المرسلين علمًا، وبين الناس معلمًا، وللمؤمنين قدوة وأسوة ومعلمًا.
ذاك الداعية العظيم، والنبي الكريم؛ الذي جاء إلى هذه الأمة الضعيفة المنهكة، المتحاربة المتفرقة، فجمع بالإسلام شتاتها، ووحد بالتوحيد كلمتها وصفها، ورفعها بالإسلام فوق الرؤوس، أنا وأنت وأبي وأبوك، وجدي وجدك لم يكن لنا تاريخ، بل كنا أذل أمة، أمة تأكل الميتة وتشرب الخمر وتأتي الفواحش وتطوف بالأصنام وتعبد الأوثان؛ حتى جاء محمد عليه الصلاة والسلام، فأخرجنا من ظلمات الكفر إلى أنوار الإيمان، ومن ذل المعاصي إلى عز الطاعة، وأخذ بأيدينا ونواصينا وقلوبنا إلى الله رب العالمين.
إن البرية يوم مبعث أحمــــــــد *** نظر الإله لها فبدل حالهــــــا
قد كرم الإنسان حين اختار من *** خير البرية بدرها وهلالهـــــا
لبس المرقع وهو قائد أمــــــــة *** جبت الكنوز فكسرت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحــــــــــوه *** لا تبتغي إلا رضاه سعى لهــا
ما بين قول الله له: {اقرأ} ، إلى قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} عاش النبي صلى الله عليه وسلم حياة النبوة والرسالة:
عالما من العبادة: الصلاة، الصيام، الذكر، الجهاد.
عالما من الزهد: في مسكنه، وفي مطعمه، وفي ملبسه، وفي ميراثه.
عالما من المعجزات: الجذع، الاستسقاء، القمر، الطعام.
عالما من الأخلاق: في صبره، وتواضعه، وشجاعته، وكرمه.
عالما من التربية: مع المرأة، مع الأسرة، مع الزوجة، مع الطفل.
عالم من العبادة
أما عن صلاته: فحدث ولا حرج، كان يقرأ في الركعة الواحدة بالبقرة والنساء وآل عمران، فيقف عند كل خير فيسأل الله وعند كل آية عذاب فيستعيذ بالله ويسأله عفوه، ثم يركع فإذا ركوعه قريبًا من وقوفه، ويرفع مثل ذلك ويسجد نحوًا من ذلك.
وكان يصلي لله حتى تتشقق قدماه، وتتفطر دمًا، فإذا سئل عن ذلك قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» ؟. فيا من تزهدون في الصلاة وتستعجلون الخروج منها ليكن لكم في رسول الله أسوة حسنة.
وأما صيامه: فكان يصوم الأيام والليالي المتواليات مواصلاً لا يأكل في ليل ولا نهار، فيقول له أصحابه: إنك تواصل – يريدون أن يفعلوا مثله – فقال: «إني لست مثلكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني».
قال ابن القيم: لا يطعمه طعامًا حسيًّا وإلا لم يكن صائمًا، وإنما يطعمه اللطائف والمعارف والحكم والفتوحات الربانية.
فقوت الروح أرواح المعانـــي *** وليس بأن طعمت وأن شربت
لها أحاديث من ذكراك تشغلها *** عن الطعام وتلهيها عن الـــزاد
وأما جهاده: فهو البطل المقدام والشجاع النحرير، يفر الكماة والأبطال وهو ثابت لا يفر، هل سمعتم أنه فر يومًا من الأيام؟ فر عنه أصحابه يوم أحد فبقى في نفر قليل لم يتراجع ولم يتزعزع، وفروا عنه يوم حنين فجعل يضرب وجوه الكفار وحده ويقول: «أنا النبي لا كذب.. أنا ابن عبد المطلب».
يقول عليٍّ: كنا إذا اشتد الكرب وحمى الوطِيس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يكون أقربنا من العدو.
أنت الشجاع إذا لقيت كتيبــة *** أدبت في هول الردى أبطالها
وإذا نطقت صدقت فيما قلته *** لا من يكذب فعلها أقوالهـــــا
تمر بك الأبطال ترمى هزيمـة *** ووجهك وضاح وثغرك باسم
أما طعامه: فتقول عائشة رضي الله عنها: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع نساؤه من خبز الشعير 3 أيام، وكان يمر اليوم واليومان ولا يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يملأ به بطنه من الدقل.
وقالت رضي الله عنها لعروة بن الزبير: كان يمر الهلال تلو الهلال تلو الهلال ثلاثة أهلة في شهرين ولا يوقد في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. قال: فما كان طعامكم يا خالة؟ قالت: الأسودان التمر والماء.
وأما ميراثه: فمات ودرعه مرهونة عند يهودي مقابل طعام يطعمه لأهله. هذا وهو الذي ملك الدنيا ولكنه زهد فيها ووزعها على أتباعه فأعطى رجلاً مائة من الإبل وذاك مائة، وأعطى رجلاً مرة غنمًا بين جبلين، وفي الأخير قال: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة.
عالم من المعجزات:
يظن بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم ليست عنده إلا معجزة القرآن، ولعمري إنها لأعظم معجزة، ولكنها ليست الوحيدة، بل إن معجزاته كثيرة كثيرة، وما أعطى الله نبيًا من أنبيائه معجزة إلا وأعطى من جنسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أعظم منها؛ فلئن كان أحيا لعيسى الموتى من الناس فلقد أنطق له الجذع، ولئن حفظ إبراهيم من النار فقد حفظ منها بعض أتباعه، وإن شق لموسى البحر فقد مشى عليه أتباعه، وبالجملة فإن معجزاته أكثر من أن تحصر وتعد.
أما الجذع: فهو من النخل كان يستند عليه إذا خطب فصنعوا له منبرًا، فلما صعد المنبر بكى الجذع حتى سمع أصحاب النبي صوت حنينه وما سكت حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم ووضع يده عليه. قال: ولو تركته لظل يبكي إلى قيام الساعة.
كان الحسن إذا ذكر هذا الحديث قال: يا مسلمون الجذع يحن إلى رسول الله وأنتم لا تشتاقون إليه؟
الاستسقاء: كان يخطب على المنبر فدخل رجل فقال يارسول الله هلكت الأموال وجاعت العيال وضلت السبل فادع الله أن يغيثنا، فتبسم تبسم الواثق ورفع يديه وقال: «اللهم أغثنا». قال أنس: ووالله ما في السماء من قزعة فإذا سحابة كالترس ظهرت من وراء الجبل فجعلت تنتشر حتى ملأت السماء وأمطرت، فما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من على المنبر حتى سال الماء على وجهه فقال: «أشهد أني رسول الله». وبعد أسبوع من المطر جاء الرجل نفسه أو غيره فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وضلت السبل فادع الله لنا. فقال النبي صلوات الله وسلامه عليه: «اللهم حوالينا لا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر». فما يشير إلى ناحية إلا توجه إليها الماء، وخرج الناس يمشون في صحو كأنهم لا يمطرون منذ سبعة أيام.
في صبره: صبر على الفقر، صبر على المصائب، صبر في مجالات الوغى، أما مات بناته، أوما قتل أصحابه بين يديه، أما رمى في عرضه. دعا ثقيف فرموه بالحجارة حتى أدموه وهو يقول: «لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله». لقد صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم صبرًا غلب به الصبر نفسه
صابر الصبر فاستجار به الصبر *** فقال الصبور للصبر صبرًا
مع النساء: لقد كانت المرأة يموت زوجها وأولادها في سبيل الله فلا يهمها ذلك وتسأل عنه، وتقول كل مصيبة بعدك يا رسول الله جلل (أي صغيرة حقيرة).
لقد حرر المرأة من إذلال الجاهلية لها، وجعل لها كرامة وقدرًا، وبعد أن كانت تباع كالبعير وتورث كالثوب ومجرد متاع ولهو يلهى بها، إذا به يرفع قدرها ويعلي شأنها بالإيمان ويجعلها عِرضًا مصونًا وجوهرًا مكنونًا. وحفظها ووصى بها ورفع شأنها أمًّا وزوجة وأختًا وبنتًا. فمن الذين حرر المرأة إذًا؟
إن تحرير المرأة في صيانتها في عفتها وطهارتها، في أن تبلغ قيمتها أن تبذل من أجلها الأرواح وتنفق في سبيل حفظها المهج والنفوس، وهذا الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمع إليه يوصي بالنساء ويقول: «الله الله في النساء». «اتقوا الله في النساء». «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي».
لقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة فكان قدوة للحكام، ودعا إلى الله فكان قدوة للدعاة، وقاد الجيوش فكان قدوة لجميع القادة، وربَّى الصحابة فكان قدوة للمربين. لقد علم الناس فنون الاقتصاد والسياسة والحرب والسلم والتربية والاجتماع.
لقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون لنا أنموذجًا نتبعه، ومثالاً نحتذيه عليه الصلاة والسلام، فهل يعقل يا أمة الإسلام بعد كل هذا أن نبحث عن غيره، أو أن نتلمس سواه؟
لا.. لا.. حرام.. حرام.. حرام أن نتخذ قدوة غيره أو أن نلتمس أسوة سواه..
بسم الله الرحمن الرحيم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من محاضرة للشيخ عائض القرني بتصرف
Source link