القول العاطر في جبر الخواطر

منذ حوالي ساعة

“إن من خصال الإيمان، وعلامات أهله، ومن محاسن الأخلاق والمروءة – تَطْيِيبَ النفوس، وجبرَ الخواطر”

عباد الله، إن من خصال الإيمان، وعلامات أهله، ومن محاسن الأخلاق والمروءة – تَطْيِيبَ النفوس، وجبرَ الخواطر، ويكون من النفوس النبيلة التي زُيِّنت بالإيمان، وشعَّ نوره في القلوب، وظهر أثره في الجوارح، فجبر الخواطر المنكسرة شعبة من شعب الإيمان، وصورة من صور المحبة والمودة بين الإخوة؛ إذ جبرها هو الإحساس بآلام الناس، ومراعاة أحوالهم ومشاعرهم، والوقوف معهم في مصائبهم وشدائدهم.

 

وجبر الخواطر من أيسر الأمور، قد لا يحتاج منك أن تبذل مالًا، أو أن تبذل جهدًا كبيرًا، كلمات حانية، وأقوالٌ صادقة تسلِّي الهم عن قلب أخيك، أو تُدخل السرور إليه، أو تنشط الكسلان، أو ترفع همةَ مُحْبَطٍ، أو تشجِّع على الإقدام في أمور الخير.

 

وأعظم من طيَّب الخواطر، وجبَر القلوب المنكسرة، هو الله سبحانه الذي سمَّى نفسه الجبار، والمسلم بين السجدتين في صلاته يقول: رب اغفر لي وارحمني واجبرني وارزقني وارفعني، وانظر إلى ما حدث للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة أحد والمسلمين، وكيف جبر الله عز وجل خواطرهم، وأزال الغم عن قلوبهم:  {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}  [آل عمران: 139]، وانظر إلى حال نبي الله الصديق يوسف عليه السلام لما أُلقِيَ في الجُبِّ عندما كان صغيرًا وحيدًا فريدًا، جبر الله خاطره، ووعده وعدَ الحق:  {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}  [يوسف: 15].

 

وكذلك أم موسى عليه السلام، كيف ربط الله عز وجل على قلبها، وألهمها الله تعالى الرشد:  {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}  [القصص: 7 – 13].

 

وقد جبر الله تعالى قلب نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وأزال عن قلبه الغم والهم والحزن والضيق:  {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}  [الضحى: 1 – 5].

 

وقد عاتب الله عز وجل نبيَّه ومصطفاه عتابًا لطيفًا مصحوبًا بكلمات لينة هينة، ولم يوجه له الكلام مباشرة، ولم يخاطبه بضمير الحاضر، وذلك لما جاءه الأعمى يسترشد منه فانشغل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه؛ طمعًا في هداية كُبَراءِ قومه:  {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى}  [عبس: 1 – 10].

 

وكيف جبر الله عز وجل خاطرَ أمِّ المؤمنين عائشة، لِما رُميت بما منه بريئة، رضي الله تعالى عنها، تقول عن حالها: ((وبكيتُ يومي لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، فأصبح عندي أبواي، وقد بكيت ليلتين ويومًا، حتى أظن أن البكاء فالقُ كبدي، قالت: فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي، إذ استأذنت امرأة من الأنصار، فأذِنت لها، فجلست تبكي معي… إلى أن قالت: ثم تحولت على فراشي، وأنا أرجو أن يبرئني الله، ولكن والله ما ظننت أن ينزل في شأني وحيًا، ولَأنا أحقرُ في نفسي من أن يتكلم بالقرآن في أمري، ولكني كنت أرجو أن يَرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله، فوالله ما رام مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أُنزل عليه الوحي، فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحاء، حتى إنه لَيتحدَّر منه مثل الجُمَان من العَرَقِ في يوم شاتٍ، فلما سُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي: يا عائشة، احمدي الله؛ فقد برَّأكِ الله، فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: لا والله، لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله؛ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11]؛ الآيات))[1].

 

وكذلك من صور جبر الخواطر، وذلك لما فاجأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوحي في غار حراء، رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالآيات، يرجُف فؤاده، فدخل على زوجته الحنون خديجة رضي الله تعالى عنها، فقال: «زملوني زملوني»، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فأخبرها الخبر، فقالت له كلمات صدق تطيب خاطره: أبْشِرْ، فوالله لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لَتصِلُ الرَّحِم، وتصدق الحديث، وتحمِل الكَلَّ، وتَقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق))[2].

 

ومن صور جبر الخواطر عباد الله: ((أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة قرأ قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، فرفع يديه وقال: «اللهم أُمَّتي أُمَّتي، وبكى»، فقال الله عز وجل: «يا جبريل، اذهب إلى محمد، وربك أعلم، فسَلْهُ: ما يبكيك»؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام، فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، وهو أعلم، فقال الله: «يا جبريل، اذهب إلى محمد، فقل: إنا سنُرضيك في أمتك، ولا نسوؤك»[3].

 

وقد جبر الله عز وجل خاطر الرحم وهي القرابة بقوله: «ألا تَرضَين أن أصِلَ من وصلكِ، وأقطع من قطعكِ، قالت: بلى يا رب، قال: فذلك لكِ»، ثم قال أبو هريرة: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22][4].

 

وكيف جبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاطر صاحبه زاهر، وكان يُهدي للنبي صلى الله عليه وسلم الهدية، فيجهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن زاهرًا باديتنا ونحن حاضروه»[5].

 

وكيف جبر خاطر الصبي الذي أضاع طائره الذي يلعب به ويلهو به: قال أنس بن مالك رضي الله عنه: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقًا، وكان لي أخ يقال له: أبو عمير -قال: أحسبه – فطيمًا، وكان إذا جاء قال: «يا أبا عمير، ما فعل النُّغَيرُ»؟ نُغَرٌ كان يلعب به))[6].

 

وكيف طيَّب خاطر ذلك الشاب الذي يريد أن يُؤذَنَ له في الزنا؛ فقد جاء في الحديث: ((أن غلامًا شابًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله أتأذن لي في الزنا؟ فصاح الناس به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قرِّبوه»، ادْنُ، فدنا حتى جلس بين يديه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «أتحبه لأمك»؟ فقال: لا، جعلني الله فداك، قال: «كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لابنتك»؟ قال: لا، جعلني الله فداك قال: «كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك»؟ وزاد ابن عوف حتى ذكر العمة والخالة، وهو يقول في كل واحد: لا، جعلني الله فداك، وهو صلى الله عليه وسلم يقول: «كذلك الناس لا يحبونه»، وقالا جميعًا في حديثهما – أعني ابن عوف والراوي الآخر – فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال: «اللهم طهِّر قلبه، واغفر ذنبه، وحصِّن فَرْجَه، فلم يكن شيء أبغض إليه منه»[7].

 

وكيف طيَّب الله عز وجل خاطر النساء وجعلهن شقائق الرجال، وقد جاء في التفسير عن أم سلمة قالت: ((قلت: يا رسول الله، ما لنا لا نُذكَر في القرآن كما يُذكَر الرجال؟ قالت: فلم يَرُعْني منه يومًا إلا ونداؤه على المنبر: يا أيها الناس، قالت: وأنا أسرِّح رأسي، فَلَفَفْتُ شعري، ثم دنوت من الباب، فجعلت سمعي عند الجريد، فسمعته يقول: إن الله عز وجل يقول:  {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}  [الأحزاب: 35].

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه؛ أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعملوا بطاعة الله، واعلموا أنكم ملاقو الله، فقدِّموا لأنفسكم ما يقرِّبكم إلى الله والجنة، ويباعدكم عن سخطه والنار:  {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}  [الزلزلة: 7، 8].

 

واعلموا أن ما أنزل الله عز وجل من الأحكام في كتابه إنما هي العدل والحق الذي فيه جبر الخواطر، وتطييب النفوس، وإعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه، بل كل أدب رفيع وخلق حسن فيه من معاني جبر الخواطر، ومن يقرأ في سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، يجد الأمثلة الكثيرة الرائعة في جبر الخواطر، وإذهاب الأحزان، وما فيه من معاني السعادة، وإدخال السرور الذي هو من خير الأعمال، وجميل الخصال، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها، ويصل الرحم، ويعود المرضى، ويتفقد أحوال أصحابه ويدعو لهم، ويستنهض هممهم، وكان يوصي بالنساء خيرًا، وباليتيم خيرًا، وبالخادم خيرًا، وبالأجير خيرًا، ويأمر ببر الوالدين والإحسان إليهما، ويأمر بالقول الحسن، والكلمة الطيبة، ويحث على توقير الكبار، ولا سيما ذو الشيبة المسلم، كل ذلك من تطييب الخواطر.

 

أما كسر الخواطر، فهو صفة بارزة لمن قسا قلبه، وغلظت أخلاقه وطِباعه؛ ولهذا صارت من أبرز ما يكون عليه الكافر بالله سبحانه:  {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}  [الماعون: 1 – 3].

 

فذلك كسر الخواطر عبدَالله: اقبل الهدية، والتمس العذر لأخيك، واقبل عذره، وأصلح من تُخاصِمُه من المسلمين، ولا تعنِّف ولا تغلظ إلا في مواضعَ تستدعي ذلك، وصِلْ رَحِمك، وانشر العلم، واجلس في مجالسه، وتصدق على المحتاج، وابذل المعروف، ومازح بقدر، وأجب دعوة الداعي، وتلطف مع الصغار، وأحسن إلى الزوجة، ودارِ خواطر والديك، سَلَكَ الله عز وجل بي وبكم طريقَ مرضاته.

 


[1] البخاري، 2661.

[2] البخاري، 6982.

[3] مسلم، 202.

[4] البخاري، 7502.

[5] أخرجه أحمد في المسند (3 /161).

[6] البخاري، 6203.

[7] أخرجه أحمد، 22265.

________________________________________________________________
الكاتب: سعد محسن الشمري


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

خطر الإلحاد (2) – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة السفر إلى بلاد الكفار للدراسة أو غيرها دون التقيد بالضوابط الشرعية -القراءة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *