إن الشباب في كلِّ زمان ومكان – وفي جميع أدوار التاريخ إلى زماننا هذا – عماد أُمة الإسلام وسِرُّ نَهضتها، ومَبعث حضارتها، وحاملُ لوائها ورايتها، وقائدُ مَسيرتها إلى المجد والنصر.
إن الشباب في كلِّ زمان ومكان – وفي جميع أدوار التاريخ إلى زماننا هذا – عماد أُمة الإسلام وسِرُّ نَهضتها، ومَبعث حضارتها، وحاملُ لوائها ورايتها، وقائدُ مَسيرتها إلى المجد والنصر.
إن الإسلام لَم ترتفع في الإنسانية رايتُه، ولَم يمتدَّ على الأرض سُلطانه، ولَم تَنتشر في العالمين دعوته – إلاَّ على يد هذه الطائفة المؤمنة التي تَربَّت في مدرسة النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – وتخرَّجت في جامعته الشاملة.
هؤلاء الشباب من الرعيل الأوَّل هم الذين حمَلوا راية الدعوة إلى الله، ورَفَعوا لواءَ الجهاد المقدَّس، فحقَّق الله على أيديهم النصر الأكبر ودولة الإسلام الفتيَّة.
فالله أكبر نداؤهم والجهاد سبيلهم، والموت في سبيل الله أسمى غاياتهم، ولا يُمكن للشباب أن يقوموا بدورهم، ويَنهضوا بمسؤوليَّاتهم، ويؤَدُّوا رسالتهم – إلاَّ بعد أن تكتملَ شخصيَّتهم العلميَّة والدعويَّة والاجتماعية على حدٍّ سواء.
وهناك مجموعة من العوامل التي تُسهم في بناء شخصيَّة الشباب حاملي راية الإسلام، وأهم هذه العوامل:
1- أن يعرف الشاب الغاية التي من أجْلها خَلَق الله الإنسان، وهذه الغاية هي العبادة المُطلقة لله تعالى، والتي من معانيها إخلاص النيَّة لله في القول والعمل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والولاء والبَراء لله ورسوله، واتِّباع هدي النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – قولاً وعملاً، ظاهرًا وباطنًا، في الأمر والنهي، وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد.
2- أن يتصوَّر الشابُّ الأخطار التي تُحيط ببلاد الإسلام؛ حيث لا يَغيب عن البال أنَّ من أعظم المُخَطَّطات اليهوديَّة في بلاد الإسلام في العصر الحديث، إقامة دولة يهوديَّة في بلاد الإسلام التي هي مَهْدُه وقلبُه النابض، وإشعاعه الهادي.
إن أحلام اليهود وآمالهم لَم تكن قاصرة على إقامة دولتهم المزعومة في بقعة المسجد الأقصى وما حولها، وإنما مُخططهم الرهيب ومؤامرتهم الكبرى، تمتدُّ من النيل إلى الفرات، بل من مُخططاتهم العدوانيَّة: الاستيلاء على المدينة المنورة والمسجد الحرام، كما استَوْلوا على المسجد الأقصى؛ لاعتقادهم الباطل أنَّ هذه البلاد هي بلاد آبائهم وأجدادهم من لَدُن إبراهيم – عليه السلام – إلى عصرنا هذا إلى يوم البعث والنشور.
فلا استقرارَ في بلاد الإسلام ودولة اليهود قائمة، لا أمْن في البلاد الإسلاميَّة والعربيَّة ودولة الصهاينة تُعَزِّز من وجودها، وتُنَفِّذ يومًا بعد يوم مُخطَّطها، إنها السرطان الذي ينمو شيئًا فشيئًا في جسم الأمة الإسلاميَّة، إنها الأفعى التي تَنفُث سمومَها في أجواء العالم الإسلامي، ولا يمكن للسرطان أن يبرَأ إلا بالاستئصال، وللأفعى أن تمنعَ أذاها إلاَّ باقتلاع شوكة السُّم المتأصِّلة فيها.
3- أن يتفاءَل الشاب بالنصر، ويقطع من إحساسه دابر اليأس والقنوط، صحيح أنَّ التآمُر على الإسلام وأهله بلَغ هذا الحد الكبير والمدى الواسع، ولكن ينبغي على المسلمين وخاصة الشباب منهم، ألاَّ يتملَّكهم القنوط في بناء العزَّة، وألاَّ يَستحوذ عليهم اليأس في تحقيق النصر، وذلك لسببين:
الأوَّل: لأنَّ القرآن الكريم حرَّم اليأس وندَّد باليائسين، فالآيات صريحة وواضحة في هذا الشأن، ومنها ما يُشير إلى أنَّ اليأس قرينُ الكفر؛ قال تعالى: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
ومنها ما يُشير إلى أنه قرينُ الضلال؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56].
ومن الآيات ما يُنَدِّد بالإنسان اليائس، وتهييجٌ لنفسه الحائرة وقلبه الهالع؛ قال تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36].
فمن هذه الآيات القرآنية يَتبيَّن أنه لا يجوز اليأس في دين الله؛ لأن اليأس قاتلٌ للرجال، وهازم للأبطال، ومدمِّر للشعوب، فعلى المؤمن أن يَحْذر من وجهات النظر اليائسة التي تقول: انتهى كلُّ شيء، وعَجَزنا، الْزَمْ بيتك؛ فليس في الجهاد فائدة، أو نحن في آخر الزمان.
لذا وجَب على المسلمين أن يُقيموا حكم الله في ربوع الإسلام، وأن يُحَرِّروا الأرض المقدَّسة من بَراثن اليهود، وأن يَسعوا في تكوين وَحدتهم الكبرى، وإلاَّ فإنهم مسؤولون أمام الله وأمام التاريخ، وأمام الأجيال.
الثاني: لأن التاريخ قد برهَن على انتفاضات الأُمم المنكوبة في وجه أعدائها؛ وذلك للأحداث التاريخية الآتية:
مَن كان يظن أن تقومَ للمسلمين قائمة لَمَّا استولى الصليبيون على كثيرٍ من البلاد الإسلامية والمسجد الأقصى ما يقارب مائة عام، حتى ظنَّ الكثير من الناس أنْ لا أملَ في انتصار المسلمين على الصليبيين، وأنْ لا رجاء في رَدِّ أرض فلسطين مع مسجدها الأقصى إلى حَوْزة المسلمين، من كان يظنُّ أنَّ هذه البلاد ستُحَرَّر في يوم ما على يد البطل المغوار صلاح الدين في معركة حطين الحاسمة، ويُصبح للمسلمين من الكِيان والعظَمة والعِزَّة والسيادة ما شرَّف التاريخ.
إن التفاؤل بالنصر هو الذي يُعطيه قيمته، وإنَّ القوة المعنوية في الأُمة هي التي تدفَع شبابها إلى تحقيق المزيد من الانتصارات الحاسمة في كلِّ زمان ومكان، فما عليكم يا شباب الإسلام إلاَّ أن تَقطعوا من نفوسكم دابر اليأس والقنوط، وتُقبلوا على الجهاد في سبيل الله برُوح متفائلة وأمل بسَّام، عسى الله أن يُحقِّق على أيديكم نصرَ الإسلام الأكبر ودولته العتيدة، وما ذلك على الله بعزيز.
4- أن يتأسَّى الشاب بأصحاب القدوة في التاريخ، وعلى رأسهم محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم – الذي سما كلَّ العبقريات البشرية والنُّضج الإنساني الكامل من لَدُن آدمَ – عليه السلام – إلى يوم البعث والنشور، ثم الصحابة الكرام – رضي الله عنهم – الذين تشرَّفوا بصُحبة النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – وتخرَّجوا في مدرسته الإيمانية والتربوية والجهاديَّة، واكتَسَبوا منه أفضل الأخلاق وأجْمَل الخِصال والصفات، ثم السلف الصالح الذين فَهِموا منهجَ النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – في جلاله وكماله، ونهج صَحبه العِظام في سيرتهم وجهادهم، فأعطوا للأجيال من بعدهم أسْمى قدوة وأفضل أُسوة، هؤلاء الذين هداهم الله، فبهُداهم يَقتدي المسلم، وبسيرتهم يقتدي الشباب.
وإليكم يا شباب الإسلام نماذجَ خالدة من مواقف أصحاب القدوة في التاريخ؛ لتعرفوا جيدًا كيف تحمَّل هؤلاء في سبيل الدعوة إلى الله الأذى الأكبر، وكيف ذاقوا في الإسلام صنوفَ الاضطهاد، فما وَهَنوا وما ضَعُفوا، وما استكانوا، بل ظلوا مجاهدين مثابرين إلى أن حقَّق الله على أيديهم الفتح المبين والنصر المؤزَّر.
فها هو رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي أعطى المثل الأعلى في التضحية والصبر والثبات، فمُشْرِكو مكة قد سَلكوا معه أنواعًا شتَّى من الأذى، وأساليبَ متباينة من الاضطهاد، ليثنوه عن دعوته، ويَصُدوه عن أداء رسالته، فما ضَعُف وما استكان[1].
وبَقِي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يجاهد في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة التوحيد والصبر على الأذى والمؤامرات والاعتداء، حتى جاء نصر الله والفتح، وقامَت دولة الإسلام عزيزة كريمة.
أمَّا صحابة رسول الله، فقد أعدُّوا للصبر والابتلاء نفوسًا مؤمنة صامدة، وقلوبًا مُطمئنَّة بذِكر الله.
فها هو بلال بن رباح – رضي الله عنه – المؤمن الصابر قد تلقَّى في سبيل الله ألوانًا من العذاب وأصنافًا من البلاء، فكلما اشتدَّت عليه وطْأَة الألَم، ووُضِعَت على بطنه الحجارة الثقيلة في وَهَج الظهيرة المُحرق، ازدادَ إيمانًا، وهتَف من الأعماق: أحدٌ أحدٌ، فردٌ صمدٌ[2].
وهذا مصعب بن عُمير – رضي الله عنه – أسلَم مع الأوَّلين الأوائل في دار الأرْقم بن أبي الأرقم، وكتَم إسلامه خوفًا من أُمِّه وقومه، ولَمَّا كشَفوا أمره أخَذوه، فحَبَسوه وعذَّبوه، فلم يَزَل محبوسًا معذَّبًا، حتى خرَج إلى أرض الحبشة في الهجرة الأولى، ثم رجَع مع المسلمين حين رجعوا.
وقُتِل – رضي الله عنه – في غزوة “أُحد” شهيدًا، فلم يجدوا شيئًا يُكَفِّنونه فيه سوى بُردة، فكانوا إذا وضَعوها على رأسه، خرَجَت رجلاه، وإذا وضعوها على رِجليه، خرَج رأسه، فقال لهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «اجْعَلوها على ما يلي رَأْسه، واجعلوا على رِجليه من الإذْخِر»[3]،[4]، [5].
وقد وقَف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على هذا الفتى وهو مقتول مُسجًّى في بُردة، فقال له والدموع تتَرقرق من عينيه: «ما رأيتُ بمكة أحسنَ لِمَّة، ولا أرقَّ حُلَّة، ولا أنعمَ نعمة – من مصعب بن عُمير»، وقرأ عليه قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23][6].
وقد قال الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – في تَعداد مَحامدهم وفَضْلهم، ووجوب التأسِّي بأفعالهم الحميدة: “مَن كان متأسِّيًا، فليتأسَّ بأصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإنهم كانوا أبرَّ هذه الأُمَّة قلوبًا، وأعمقها عِلمًا، وأقلها تكلُّفًا، وأقومها هَدْيًا، وأحسنها حالاً، اختارَهم الله لصُحبة نبيِّه – صلى الله عليه وسلم – وإقامة دينه، فاعْرِفوا لهم فضْلَهم واتِّبعوهم في آثارهم؛ فإنهم كانوا على الهدي المستقيم”[7].
أمَّا عن سلفِنا الصالح، فسِيَرتهم حافلة بالأمجاد والبطولات، ذاخرة بالتضحيات الغالية في سبيل الحق ورَفْع راية الإسلام، فها هو الشيخ المجاهد العز بن عبدالسلام يُفتي بتحريم بَيْع السلاح في دمشق إلى الصليبيين؛ لأنهم يقاتلون به المسلمين، وتحمَّل من سلطان دمشق إسماعيل الصالح ما تحمَّله من جرَّاء هذه الفتوى.
وهكذا يا شباب الإسلام، حينما تتأسَّون بأصحاب القدوة في التاريخ، وتَنتهجون في الثبات نَهْجهم، وتَسلكون في قولة الحقِّ مَسلكهم، وتنظرون إليهم على أنهم مَثَلٌ أعلى، وأُسوة طيِّبة، عندئذ تواصلون المسيرة؛ حتى يُحَقِّق الله على أيديكم إقامة دولة الإسلام المُرتقبة، وما ذلك على الله بعزيزٍ.
[1] السيرة النبوية؛ للصلابي، ص200 / 204.
[2] أصحاب الرسول؛ للشيخ محمود المصري، ص 466 / 467.
[3] رواه البخاري، ومسلم.
[4] الإذْخِر: نبات طيِّب الرائحة.
[5] أصحاب الرسول؛ للشيخ محمود المصري، ص370.
[6] المستدرك (3/200)، صحيح الإسناد ووافَقه الذهبي.
[7] رواه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفَضْله، (2/ 97).
____________________________________________________________
الكاتب: عمرو إبراهيم زكريا
Source link