وصفه العلامة الشيخ عبدالملك السعدي بأنه: رحل إلى الله كهل قضى عمره بالعبادة والتقوى وتلقى العلم الشرعي من خلال ملازمته لمجالس العلماء الشرعيين.
هو فقيد الجيل، وعلم من أعلام الأمة الإسلامية، وكوكب من كواكب الهداية في سمائها، وركن من أركان العلم في عصرنا، وبرحيله ثلم في بنيان الأمة ثلمة لا تسد حتى يقوم مقامه عالم غيره، فهو بحق موسوعة فقهية تمشي على الأرض، وداعية من طراز فريد، كانت له البصمة الكبيرة في تنشأة أجيال من المسلمين داخل العراق وخارجه، وبلغت شهرته آفاق الدنيا، فنعاه كبار العلماء والمفكرين في العالم الاسلامي لجهوده المتميزة في نشر العلم والدعوة.
أبناؤه وأهله:
متزوج من زوجتين، وقد سافر بهما الى الحج متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم: (خيرُكُم خَيرُكُم لأَهْلِهِ وأَنا خيرُكُم لأَهْلي) (الترمذي : 3895)، وله خمسة من الابناء (الدكتور عمر، والدكتور زيد، وأنس، وبكر، ومحمد) وله بنتان اثنتان، وكلهم على طريقه سائرون، وتظهر تربيتهم لكل من له صلة بهم، ولعلّهم من الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له) (صحيح مسلم : 1631)، وله أربعة إخوة وهم (إسماعيل، أمين، ياسين، أديب) وله من الأخوات خمسٌ، ومجموعهم عشرة، وتسلسله بينهم الخامس، ويذكر عنه أهله أنه كان رحمه الله واصلاً لرحمه، متفقداً لأحوالهم، يقدمهم على نفسه في كثيرٍ من الأحيان، حتى نعاه قريبه وصهره أبوعبيدة بهجت بقوله: (هل يفقد الرجل أباه مرتين؟!!) وهكذا كان فقيدنا بين أرحامه وأقاربه، أبا وأخا وشيخاً ومربياً، وعطوفاً على من حوله.
شهادات بحقه:
وصفه العلامة الشيخ عبدالملك السعدي بأنه: رحل إلى الله كهل قضى عمره بالعبادة والتقوى وتلقى العلم الشرعي من خلال ملازمته لمجالس العلماء الشرعيين. ومن ورعه كان لا يجيب السائلين إلا بعد التثبت ممن يعتقده متضلعا في الفقه الإسلامي”.
أما العلامة الشيخ أحمد حسن الطه كبير علماء المجمع الفقهي العراقي فقال عنه: أنا أعرفه منذ أكثر من خمسين سنة، كان رجلا هادئا صامتاً، يعمل كثيراً ويتكلم قليلاً، وقد كان الرجل إداريا عالما فقيها مؤدبا متواضعا كتوماُ “.
كما وصفته هيئة علماء المسلمين في العراق بالقول: “عُرف الفقيد بهمته العالية، وغيرته الكبيرة على الدين وشعائره، والشريعة وعلومها، والمتابعة الدائمة لشؤون المسلمين والأمة، والحرص على التواصل مع الناس وحل مشاكلهم، فضلًا عن قيامه بواجب الفتوى الشرعية، الذي لم يتركه حتى أثناء مرضه الأخير.”
وقال عنه الفقيه الموسوعي الدكتور طه الزيدي عضو الهيئة العليا في المجمع الفقهي العراقي لكبار العلماء: ” سافرنا الى اندونيسيا فحلق حوله أكثر من عشرين طالباً – بعضهم قطع بالقطار ستُ ساعات – ليحظى برؤية استاذه حينما سمعوا بقدومه الى جاكارتا، وسافرنا الى مصر وماليزيا فعقد مجالس وتحدث عن تجربته في الاشراف والمناقشة أمام جمع من طلبة الدراسات العليا “.
أما صاحب سره ورفيقه في الحلِّ والترحال نجله الوقور الشيخ الدكتور زيد فقال في كلمة التأبين: تعلمت منه الكثير من أدبه وأخلاقه وتواضعه، وكان رحمه الله يحمل همّ الأمة في كلِّ الظروف، وفي كل الأحيان، يتألم لآلامها، ويفرح لفرحها، يتتبع أحوال المسلمين في كل البلاد، فيهتم لهمهم، ويفرح لفرحهم، وكان رحمه الله عصامياً ذا مبدأ لا يحيد عنه”.
متصدّقٌ بالسرّ:
وفي يوم التأبين ذكر شيخنا العلامة الدكتور عبدالستار عبدالجبار عضو الهيئة العليا في المجمع الفقهي العراقي فقال: قبيل وفاة الاستاذ الهيتي جائتني امرأة فقالت إنها صاحبة أيتام، وقالت بعثني اليك الدكتور عبدالمنعم لسد حاجتي، وبعد الكلام والاستفسار منها لمعرفة صدقها، تبيّن لي ان الاستاذ الهيتي كان منذ سنوات يتكفلها وايتامها ومنذ أربعة أشهر انقطعت النفقة عنهم بسبب تدهور حالة استاذنا ومكوثه في المستشفى لمدة طويلة، فبعثت برسالة الى الاستاذ الهيتي تستفسر عن نفقة أيتامها الشهرية، فأجابها برسالة أن تذهب الى شيخنا الدكتور عبدالستار لسد حاجتها، فبقي هذا السر بينه وبين الله ولم يكشف الا بعد وفاته، فأي إخلاص هذا يا استاذنا؟!! وأي سرّ هذا الذي كتمته عن الجميع حتى أهل بيتك؟!!
نفحاتٌ مكيّة:
من ألطاف الله سبحانه وتعالى بفقيدنا ان يتوافق يوم وفاته مع وجود أحد طلابه في مكة المكرمة، فيؤدي العمرة عنه في نفس الوقت الذي تم دفنه فيها. ويتوافق هذا أيضا مع مشهد آخر تقشعرّ له الأبدان، بوجود طالب آخر من طلابه في الحرم المكي، وفي لحظه هطول المطر وأمام الكعبة، ويتبهل الى الله بالدعاء له في أول ليلة له بل في أول ساعة له في قبره. فأي كرامة هذه يا استاذنا؟! ما الذي بينك وبين الله؟! حتى تكون ضمة القبر ووحشته وساعاتك الأولى في عالم البرزخ بهذه النفحات المكية!!
إجتماع القلوب على محبته:
أخرج البخاري رحمه الله من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « (إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ)» (صحيح البخاري : 7485)، ومن خلال متابعتنا لمواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الرسمية الأخرى وجدنا الآلاف يثنون عليه ويشهدون له بالخير، ومع اختلاف توجهات ومشارب العلماء وطلبة العلم إلا أنهم اجتمعوا على محبته وتوقيره، فما هو إلا تحقيقا لوضع القبول له بين الناس، وما وجدنا أحداُ خالف هذا الإجتماع.
رؤيا تسبق وفاته:
يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم : « (إنَّه لَمْ يَبْقَ مِن مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إلَّا الرُّؤْيَا يَرَاهَا العَبْدُ الصَّالِحُ، أوْ تُرَى له)» (صحيح مسلم : 479) فقد نقل الشيخ ثائر المشهداني وهو من الثقاة عن إحدى المدرسات في كلية الإمام الأعظم، والتي توصف بأنها من التقيات وتُحسب على خير: فقد رأت أستاذنا الفقيد قبيل ساعات من وفاته بعد صلاة الفجر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في استقباله، وحيّاه بقوله: (حي الله الشهيد) وصافحه وأخذه معه، وربّت على يده، وكان فرحاً بلقائه.
وفاته:
ذكر أحد المرافقين له حتى اللحظات الأخيرة، فقال: كان يردد باستمرار (الحمد لله) وفي آخر ليلة له وهو مسجّى في المستشفى، تيمّم وصلى العشاء، ثم ردد الشهادة مرات عدة، وصلى على حبيبه صلى الله عليه وسلم، وردد الأذكار، فكانت أنفاسه تضعف شيئا فشيئا، ونبضات قلبه تتناقص، حتى توقف النفس والنبضات، وفاضت روحه الى بارئها، بهدوء وسكينة، وكأنه نائم، فتحقق فيه ( «فتَنْسَلُّ نفسُهُ كما تقطرُ القطرةُ من السقاءِ» ) (مسند الإمام أحمد)
واستردّ الله وديعته بعد عمر ناهز (74) عاماً، قضاه في التأليف والتدريس والجهاد والعطاء الفكري والتربوي، وبعد صراع مع المرض دام أشهراً، فتوفي صبيحة يوم الثلاثاء 6/صفر/1445 هــ الموافق 22 /8/ 2023م في مستشفى اليرموك ببغداد، وصلى عليه حشد كبير من العلماء وطلبة العلم في جامع الإمام الأعظم أبي حنيفة في بغداد، ونقل جثمانه الطاهر الى مدينة هيت مسقط رأسه ودفن فيها.
Source link