إن القول بأن التربية هي عملية نمو وفقط، لا يكفى، بل لا بد من تحديد اتجاه هذا النمو، والغاية التي يهدف إليها، وبعبارة أخرى: لا بد من تحديد معنى التربية والهدف منها.
تمهيد:
إن التربية عملية نموٍّ، والنموُّ هو عملية ترقٍّ من الناحية الجسمية، ومن الناحيتين الفكرية والعقلية، والنمو بهذا المعنى يأخذ اتجاهاتٍ كثيرةً ومختلفة، فالرجل الذي يبدأ حياته العملية – على سبيل المثال – قاطعًا للطريق، قد تنمو قدراته ومواهبه في هذا الاتجاه، وقد يصبح بالتدريج وبالخبرة قاطعَ طريق حاذقًا؛ ولهذا يقال: إن القول بأن التربية هي عملية نمو وفقط، لا يكفى، بل لا بد من تحديد اتجاه هذا النمو، والغاية التي يهدف إليها، وبعبارة أخرى: لا بد من تحديد معنى التربية والهدف منها.
معنى التربية:
المعنى اللغوي:
(الفعل ربب): رب كل شيء مالكه، والرباني المتألِّه العارف بالله تعالى، وربَّى ولده وربَّبه وتربَّبه بمعنى ربَّاه[1].
وقال القرطبي – رحمه الله تعالى -: (والرب: المصلح والمدبر، وقيل: إنه مشتق من التربية)[2]، وهو (إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حد التمام)[3].
وجاء في تفسير قوله تعالى: ﴿ {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} ﴾ [التين: 4]، ما ذكره الإمام الرازي: (والتقويم تصيير الشيء على ما ينبغي أن يكون في التأليف والتعديل)[4]، وعلى هذا فإن تربية الله تعالى لعباده تشتمل على نوعين:
الأول: التربية الخَلقية (بفتح الخاء)؛ أي: الجسمية، وقد تابعْنا ذلك في عملية خلق الإنسان حتى صار إنسانًا كاملاً تامًّا في أكمل صورة وأحسن تقويم، وكل ذلك بعناية الله تعالى ومشيئته.
الثاني: التربية الخُلُقية (بضم الخاء)، وهي إصلاح أمر العباد، وإرشادهم إلى ما فيه الخير والفلاح لهم في معاشهم ومعادهم، وهو أمر الهداية، ومن أجل ذلك أرسل الله تعالى الرسل وأنزل الكتب.
المعنى الاصطلاحي للتربية:
ومن هنا أستطيع القول: إن التربية تعني: تبليغ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا على التدريج.
المطلب الأول: الهدف من التربية:
يرى بعض علماء التربية الغربيين أن التربية هي عملية ترقٍّ في نطاق الخبرة وعن طريقها وفي سبيلها، أو هي الطريقة العلمية التي يدرسُ بها الإنسان العالَم، ويحصل على علمٍ متزايد من المعاني والقيم، حتى إذا ما حصل على هذه النتائج، اتخذها مادة لدراسة نقدية، وحياة حكيمة.
ويقول (جون ديوي)[5]:
“إن تاريخ النظرية التربوية يتَّسِم بالصراع بين نظريتين:
• نظرية تقول بأن التربية عملية تفتح من الداخل.
• والأخرى تقول بأنها عملية بناء من الخارج.
وبينما يقول أصحاب النظرية الأولى: إن التربية تقوم على قمعِ مَلَكةِ الميول حتى تحلَّ محلها عاداتٌ تُكتَسب عن طريق القسر الخارجي”.
بينما يرى بعضٌ آخر أن الهدف من التربية هو بناءُ شخصية الفرد، خصوصًا في فترة المراهقة، وهي الفترة التي تُصبِح للشخصية تفرُّدها واستقلالها[6].
أما في هذا المبحث، فالحديث عن التربية، والمراد هو التربية النفسية والعقلية والخُلُقية، أو الجانب الروحي والفكري في الإنسان، ولا بد إذًا من الوقوفِ على مراحل التدرج النفسي والعقلي عند الإنسان، وتحديد تلك المراحل، وقد قسَّمها علماء النفس إلى ستِّ فئات عمرية، وقد ذكرها د. محمود عبدالقادر[7] كما يلي:
1- مرحلة ما قبل الولادة.
2- مرحلة المهد.
3- مرحلة الطفولة.
4- المراهقة.
5- مرحلة الرشد.
6- مرحلة الشيخوخة.
ويقول: (ويعتمد الأساس التربوي للتصنيف على تتابعِ القدرات العقلية للطفل، والتي تسمح له بمتابعة مستويات متدرِّجة من التحصيل واكتساب المعرفة والتفكير)[8].
ولا شك أن لكل مرحلةٍ من المراحل السابقة طبيعتَها الخاصة، وللفردِ في كل مرحلة من تلك المراحل قدرات معينة لاستيعاب المعارف وتقبُّل التوجيهات والتكاليف، فضلاً عن القيام بها، وقد راعى الشرع الإسلامي الحكيمُ هذه المراحل العمرية، فليس هناك تكليف أو محاسبة قبل البلوغ، ومرحلة ما قبل البلوغ نجد أن الشارع الحكيم أشار إلى بعض التوجيهات لا على سبيل الإلزام، ولكن على سبيل التدريب والتأهيل؛ كالأمر بالصلاة عند سبع سنين، والضرب عند بلوغ عشر سنين، وتعلُّم الاستئذان، وهذا على سبيل المثال فقط[9].
وإذا كان البعض يرى أن التربية هي عمليةُ اكتسابِ الخبرة، ويرى البعض الآخر أنها عملية تكوين الشخصية[10]، فإنني أرى أن عملية التربية في الإسلام هي عملية بناء العبد الرباني؛ لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]، إذًا فالهدف من التربية في الإسلام هو بناء العبد الرباني، والذي تتحقَّق فيه صفتا العبودية والربانية.
أما صفة العبودية، فهي أشرف وأعظم الصفات التي ينتسب إليها بشر، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1]، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1]، وقال – عز وجل -: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ومن هنا تأتي أهمية بيان معنى العبادة:
معنى العبادة:
وأصل العبودية: الخضوع والذل، والتعبيد: التذليل، يقال: طريق مُعبَّد، والتعبيد: الاستعباد، وهو اتخاذ الشخص عبدًا، وتعبَّده؛ أي: اتخذه عبدًا، والعبادة: الطاعة، والتعبد: التنسك[11].
(والعبادة: عبارة عن نهاية التعظيم، وهي لا تليق إلا لمن صدر عنه غاية الإنعام)[12].
فالعبادة هي غاية الذل والخضوع لله عز وجل، وطاعته وتعظيمه سبحانه؛ لأنه أهلٌ لذلك، ومستحق له بلا أدنى شريك، وهي تبدأ أولاً بمعرفة الله – عز وجل – حقَّ المعرفة؛ لتعظيمه حق التعظيم.
وتعريف العبادة:
هي اسم جامع لكل ما يُحِبُّ ويَرضَى الإلهُ (الله) السامع، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة؛ (معارج القبول بشرح سلم الوصول، الشيخ حافظ بن أحمد حكمي، دار الحديث جزء 1 ص343).
معنى الربانية:
ذكر الإمام الفخر الرازي في تفسيره أقوالاً:
الأول: الرباني المنسوب إلى الرب، بمعنى كونه عالِمًا به، ومواظبًا على طاعته.
الثاني: (الربانيون): أرباب العلم، ويربي الناس؛ أي: يعلمهم ويصلح شأنهم ويقوم بأمرهم.
الثالث: الربانيون هم ولاة الأمة والعلماء.
الرابع: هو الذي علِم وعمِل بما علم[13].
قلت: والمقصود بالعلم هنا هو العلم الشرعي.
هذا، وقد سبق الحديث عن معنى (الرب) من الناحية اللُّغوية.
فالعبد الرباني هو الذي عرَف الله – عز وجل – وأسلم وجهه إليه، وانقاد راضيًا مستسلمًا ومسلمًا لله عز وجل، وأطاع أوامره، واجتنب نواهيَه، وأحب الله تعالى، وخاف منه، وتوكل عليه، وأخلص له الطاعة، ورجا الثواب منه وحدَه، وهو كذلك منقادٌ لله تعالى، عالِم به، داعٍ إليه، يُحبِّب الناس في ربِّهم، ويرغِّبهم في طاعته والإقبال عليه.
من كتاب: “خصيصة التدرج في الدعوة إلى الله (فقه التدرج )”
[1] مختار الصحاح ص 200.
[2] تفسير القرطبي – ص 119.
[3] المصطلحات الأربعة ص 40.
[4] مفاتيح الغيب جزء 16 ص 502.
[5] كتاب الخبرة والتربية/ مكتبة الأنجلو المصرية/ ترجمة د. محمد رفعت، ود. نجيب إسكندر ص 24.
[6] علم نفس النمو ونظرياته؛ د. محمود عبدالقادر / كلية التربية جامعة الأزهر، طبعة 1986 ص 15.
[7] المرجع السابق ص 25، 26.
[8] المرجع السابق.
[9] وأهمية ذلك بالنسبة للدعاة والمربِّين هو فهم تلك المراحل وطبيعتها؛ لتحديد “كم” و”كيف” الجرعات التعليمية أو الدعوية، ومعاملة كل فئة عمرية بما يناسبها، ومراعاة كل مرحلة من مراحل النمو النفسي والعقلي، فلا يُخاطَب الشيخ الكبير بما يُخاطَب به الطفل غير المميز، وهكذا.
[10] هناك آراء أخرى وأقوال كثيرة غير ما ذكرت، ومنها رأي ابن خلدون، وهو أن هدف التربية هو إعداد أفراد يعيشون عيشة طيِّبة، ويرى أفلاطون وأرسطو ومونيسكيو أن هدف التربية هو إعداد أشخاص يقومون بتنظيم حكومة حسنة؛ يراجع كتاب النظام الإلهي للرقي والانحطاط/ محمد تقي أمين، دار الصحوة، طبعة أولى 1988.
[11] مختار الصحاح ص 359.
[12] مفاتيح الغيب جزء 1 ص 296.
[13] مفاتيح الغيب جزء 4 ص 298.
__________________________________________________________
الكاتب: د. أمين الدميري
Source link