منذ حوالي ساعة
فمن لا يعرف أي عمله هو الأخير، فليجعل كل عمل يقوم به وكأنه آخر عمل يقدمه بين يدي الله عز وجل، ومن لا يعرف أي أيامه ولحظاته هي الأخيرة، فَلْيَعِشْ في الدنيا حياةَ الغريب أو عابر السبيل…
لكل واحد منا دعاءٌ يلامس روحه، ويلتقي مع أمنيات قلبه، ومن أجمل الأدعية التي كانت وما زالت تلامس قلبي هذا الدعاء: ((اللهم اجعل خيرَ عمري آخرَه، وخيرَ عملي خواتِمَه، واجعل خير أيامي يوم ألقاك))، حيث لخَّص في جُمَلِه القصيرة رحلةَ العبد في هذه الدنيا.
إن المتأمل في هذا الدعاء المبارك يجد فيه ثلاث دعوات يرجوها كل مسلم، لو توقفنا مع كل دعوة فيه، وأمعنا فيها النظر بقلوبنا وعقولنا، لوجدناها ترسم لنا غايات الحياة، وتخطُّ لنا طريق النجاة.
((اللهم اجعل خيرَ عمري آخرَه، وخيرَ عملي خواتِمَه)) آخر لحظة في عمرنا مَن مِنَّا يعرفها؟ من يعرف أي أيامه هو الأخير؟
أي صباح سيكون آخر مرة نرى فيها شمسه؟!
هل هناك أحد يعرف أيُّ صلاته هي الأخيرة، وأي رمضانه سيكون الأخير، وأي عمل صالح هو الأخير، أي كلمة طيبة وحضن دافئ لأبنائنا، وعمل بر لوالدينا سيكون الأخير؟!
أتُرانا نعرف أي نظرة لمن نحبهم ستكون هي نظرة الوداع؟
وها هي أحداث غزة دليلٌ حاضر تشهده القلوب، وتبكيه العيون.
جعلتنا هذه الأحداث نعيد الحسابات ونفكِّر ونتأمل، ففي غزة نرى الدنيا تتكشَّف لنا على حقيقتها؛ فالراحلون رحلوا بأجَلٍ معلوم؛ قد يرحل الأب وتبقى الأم وأطفالها، وقد ترحل الأم والأطفال ويبقى الأب، قد يرحل الجميع ويبقى ذلك الطفل الرضيع بمفرده، وقد خرج من بين الأنقاض، وقد رحل أهله جميعهم.
علَّمتنا أحداث غزة أننا نمسي على حالٍ ونصبح على نقيضه، أو نصبح ونمسي وقد تبدلت حولنا ملامح الحياة.
هذه العِبَرُ التي نراها وتنخلع لها القلوب، تدفعنا لنفكر ونتأمل ونأخذ منها ما يقوِّي عزمنا، وينهض بنا لنقوم بأدوارنا في الحياة كما ينبغي، ونعيد النظر في رحلتنا في هذه الدنيا.
ولأننا لا نعرف متى تأتي تلك اللحظات الأخيرة، فقد يتساءل سائل ويقول: ماذا أفعل إذًا وأنا لا أعرف تلك اللحظات والأيام حتى أجتهد فيها؟!
يأتينا الجواب الشافي من سُنَّة الحبيب صلى الله عليه وسلم، الذي لم يتركنا في الدنيا دون أن يبين لنا ما ينبغي علينا فعله لنحقق هذه الدعوات.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبي، فقال: «كُنْ في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل».
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: “إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخُذْ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك”؛ (رواه البخاري).
وحين جاءه رجل فقال: ((يا رسول الله، علِّمني وأوجِزْ، قال: «إذا قمتَ في صلاتك، فصلِّ صلاة مودِّعٍ»؛ (حديث حسن).
فمن لا يعرف أي عمله هو الأخير، فليجعل كل عمل يقوم به وكأنه آخر عمل يقدمه بين يدي الله عز وجل، ومن لا يعرف أي أيامه ولحظاته هي الأخيرة، فَلْيَعِشْ في الدنيا حياةَ الغريب أو عابر السبيل، فالغريب وعابر السبيل يجمعهم أنهم لا يركنون إلى أي أرضٍ نزلوا فيها، فهم يعلمون أنهم عنها راحلون، كذلك أنهم خفيفو الظل، خفيفو الحِمْلِ، لا يأخذون معهم إلا ما يكفيهم من زادِ الطريق، يمرون على الناس كرامًا، يتلطَّفون في وجوههم؛ فهم يعلمون أن بقاءهم على تلك الأرض لن يطول.
وقد فهِم ابن عمر رضي الله عنهما حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي لامس قلبه، والنبي يمسك بمنكبيه ليوصيه هذه الوصية العظيمة، التي لخصت لنا كيف نسير في الحياة، فإذا أصبحنا فلا ننتظر المساء، وإذا أمسينا فلا ننتظر الصباح.
فالمسلم يحتاط لسائر عمره ولحظاته، فينظر أن هذه اللحظة وهذا اليوم هو الأخير، ويفكر كيف سيُحسن فيه؟
فالمغبون من فرَّط في يومه؛ لأن الأمس لا يعود، والغد لا نضمن إن أتى أن نكون من أهله.
ولو تأملنا آخر دعوة في هذا الدعاء المبارك: ((واجعل خير أيامي يوم ألقاك))، نجد كأن الدعوتين اللتين قبلها كانتا لأجل هذه الدعوة؛ لنُعِدَّ أنفسنا ليوم اللقاء، لتكون تلك الليلة، أو ذلك اليوم الذي نلقى الله فيه هو خير أيامنا.
فإن صلحت تلك الليلة وذلك اليوم، فيا سعدنا بعدها بإذن الله تعالى!
لذا كان علينا دومًا – إخوتي – أن نتفقد أعمالنا وأعمارنا؛ فيم أنفقناها؟ وكيف أمضيناها؟ لنكتب بعد فضل الله تعالى وتوفيقه نهايةً سعيدة، ورحلة مختومة بختمِ رضاه سبحانه وتعالى، فينادى على تلك النفس ساعة رحيلها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27، 28].
اللهم ارزقنا حسن العلم، وحسن العمل، وحسن الختام.
_____________________________________________________________
الكاتب: تهاني سليمان
Source link