حضارة العدل – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة

ليس النَّاس إلى حضارة العلم والابتكار، أو حضارة المدنيَّة والتقدُّم، أو حضارة الأدب والفِكْر، أو حضارة التَّرف والرفاهية، ليْسوا أحوجَ إلى كلِّ هذه الحضارات من حاجتهم إلى “حضارة العدْل”، ونصرة الضَّعيف، والأخْذ على يد الظَّالم…الع

ليس النَّاس إلى حضارة العلم والابتكار، أو حضارة المدنيَّة والتقدُّم، أو حضارة الأدب والفِكْر، أو حضارة التَّرف والرفاهية، ليْسوا أحوجَ إلى كلِّ هذه الحضارات من حاجتهم إلى “حضارة العدْل”، ونصرة الضَّعيف، والأخْذ على يد الظَّالم – مهْما كانت مرْتبته العالية في النَّاس، ومنزلته الرَّفيعة في المجتمع – وحمله على الحقّ.

 

فالعدْل يصنع الحضارات، وقواعدُه قوامها الحقيقي، وتزول الحضارات وآثارها، وتبْقى معالم القِيم والأخلاق فيها شاهدة وحدَها على أهلها.

 

وحضارة العدْل أن يتحاكم المجتمع بكلّ طبقاته إلى العدل، والعدل وحْده؛ فيكون العدل سِمَته البارزة بين أفراده حكَّامًا ومحْكومين.

 

وكان من خصائص الحضارة الإسلاميَّة العريقة “حضارة العدل”: العدل، الَّذي هو الحقُّ المنزَّل من ربِّ النَّاس جميعًا، ليكون قانونًا يتحاكمون إليْه وحْده في خصوماتِهم أو أعطياتهم، أو حتَّى في العقوبات الرَّادعة.

 

وكلُّ القوانين البشريَّة في الحضارات السَّابقة أو القائمة أو اللاَّحقة، مبْناها على الظُّلْم أو بعض الظُّلم، وإن زعَم أصحابُها وأهلها أنَّها قامت على العدْل أو للعدْل؛ إذْ واضعها هو الإنسان الَّذي لا يَخلو بحال من أهواءٍ تقودُه لمصالحه، ولو على حساب شريكِه الإنسان وظلمه.

 

وكان من أعْظَم ما أرْسى النَّبيّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – في المجتمع الدعوي قوانين العدْل بين كلِّ أفراده، بين الكبير والصَّغير، والغنيّ والفقير، والقادر والعاجز، والشَّريف والوضيع؛ بل والمسلم والكافر!

 

فكان ممَّا أنزل الله – تعالى – عليه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].

 

ولما قدِم النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – المدينة وأقطع الدورَ، وأقطع ابنَ مسعود فيمَن أقطع، فقال له أصحابُه – وفي روايات أُخرى: فقالت له قريش أو حي من بني زُهرة يقال لهم بنو عبد بن زهرة -: يا رسولَ الله نكِّبْه عنَّا، قال – صلَّى الله عليه وسلَّم -:  «فلِمَ بعثني الله إذًا؟ إنَّ الله – عزَّ وجلَّ – لا يقدِّس أمَّة لا يُعْطون الضَّعيف منهم حقَّه»؛ أخرجه الطَّبراني في الكبير والأوسط من حديث ابن مسْعود، وصحَّحه الألباني في “صحيح الجامع”.

 

أيْ: فلِمَ بعثني الله – تعالى – إذا أنا رضيتُ بالجوْر في تأخير مسلم عنكم؛ لأنَّكم أشرف جنسًا أو نسبًا؟ ثمَّ يؤسّس – صلَّى الله عليه وسلَّم – لقاعدة بناء وإعمار الحضارات، فيقول كلمةً من جوامع كلِمِه – عليْه السَّلام -:  «إنَّ الله – عزَّ وجلَّ – لا يقدِّس أمَّةً لا يعطون الضَّعيف منهم حقَّه».

 

ومعنى (لا يقدِّس)؛ أي: لا يأْبَه لهم ولا يتركهم على ظلْمِهم؛ بل يهلكهم بظلْمِهم، كما قال – صلَّى الله عليه وسلَّم – في المعنى نفسِه:  «إنَّما أهلك الَّذين من قبلكم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشَّريفُ تركوه، وإذا سرق فيهم الضَّعيفُ أقاموا عليه الحدَّ»؛ (متَّفق عليه من حديث عائشة).

 

ولم يكن تحرير “العدْل” من كلِّ ما يشوبه كقانون نافذ في كلِّ أفراد المجتمع المسلم، أمرًا هيّنًا، اكتفى فيه صاحبُ الشَّريعة – صلَّى الله عليه وسلَّم – بتوْجيهات عابِرة، دون تعْميق عمليّ لها في واقع المجتمع، الَّذي كان لبنة الحضارة الإسلاميَّة العظيمة بعد هذا؛ بل لا يزال يغْرس – صلَّى الله عليه وسلَّم – قولاًَ وفعلاً في أصحابِه – رضي الله عنهُم – أُسسَ العدل المكوِّنة للحضارات، والعاصمة لها من الهاوِية والانزلاق في بحور الأهواء المظْلِمة.

 

عن عائشة – رضي الله عنْها – أنَّ قريشًا أهمَّهم شأنُ المرأة المخزوميَّة التي سرقتْ، فقالوا: ومَن يكلّم فيها رسولَ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم؟ فقالوا: ومَن يجترئ عليه إلاَّ أسامة بن زيد حِبّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم؟ فلمَّا كلَّمه أسامة فيها، تلوَّن وجْه رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقال:  «أتشفع في حدٍّ من حدود الله» ؟!)) قال أسامة: استغفر لي يا رسولَ الله، فلمَّا كان العشي قام رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – خطيبًا فأثنى على الله بما هو أهله، ثمَّ قال:  «أمَّا بعد، فإنَّما أهلك الَّذين قبلكم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشَّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضَّعيف أقاموا عليْه الحدَّ، وايم الله – أو قال: والَّذي نفسُ محمَّد بيده – لو أنَّ فاطمة بنت محمَّد سرقتْ، لقطع محمَّد يدها»، ثمَّ أمر رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – بتلك المرأة فقُطعتْ يدها، فحسنتْ توبتُها بعد ذلك وتزوَّجت، قالت عائشة: فكانت تأْتي بعد ذلك فأرْفع حاجتَها إلى رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أخرجه الشَّيخان.

 

فعظَّم – صلَّى الله عليه وسلَّم – في صدور أصحابِه حدودَ الله، الَّتي هي عين العدْل، ثمَّ حذَّرهم من الحيد والميْل عن العدْل في تطْبيق شرع الله على أفراد المجتمع، كما فعل الَّذين من قبلهم فأهلكهم الله وأضلَّهم.

 

فالعدْل الَّذي هو حدود ما أنزل الله تعالى على رسوله – صلَّى الله عليه وسلَّم – والعدْل الذي هو مساواة تطْبيق هذه الحدود بين النَّاس، العدْل في هذا وذاك هو وحْده الَّذي أصلح حالَ هذه المرْأة المخزوميَّة الَّتي سرقتْ ثمَّ تابت توبة حسنة، لتنتظم ثانيةً في المجتمع كعضو صالح فيه، وهكذا يصلح حال المجتمع كمنظومة واحدة بالعدْل، فتبنى حضارته عليه، ويكون العدل فيها أعظمَ من كلِّ حضارة مادّيَّة أخرى.

 

ولَم يزل العدْل معلمًا حضاريًّا في الأمَّة الإسلاميَّة بعد رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – فيبالغ خلفاؤه الرَّاشدون – رضِي الله عنْهم – في السَّير بالعدْل بين الرَّعيَّة على اختِلاف أجناسهم وأديانِهم، حتَّى يُضرب بعدْلِهم المثل في الأُمَم كلّها.

 

فكان من قمَّة عدْلِهم – رضِي الله عنهم – أنَّ عمر قبل مقْتله كان يجول على الولايات شخصيًّا لمراقبة العمَّال وتفقُّد أحوال الرَّعيَّة، والاطمئنان على أمور الدَّولة المترامية، قال عمر: “لئِن عِشتُ – إن شاء الله – لأسيرنَّ في الرَّعية حولاً، فإنّي أعلم أنَّ للنَّاس حوائج تُقْطَع دوني، أمَّا عمَّالهم فلا يدفعونَها إليَّ، وأمَّا هم فلا يصلون إليّ، فأسير إلى الشَّام فأقيم بها شهرَين، ثمَّ أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهْرين، ثمَّ أسير إلى الكـوفة فأقيم بها شهْرين، ثمَّ أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرَين، ثم – والله – لنعْم الحول هذا”.

 

وقد طبَّق عمرُ شيئًا من هذا، خصوصًا في ولاية الشَّام؛ حيث سار إليها عدَّة مرَّات، وتفقَّد أحوالها، ودخل بيوت وُلاتها وأمرائها؛ ليعرف أحوالهم من كثَب، فقد دخل دار أبي عُبيدة وشاهد حالتَه وتقشُّفه، ودار بيْنه وبين امرأة أبي عُبيدة حوار شديد، ألْقت فيه اللَّوم على عمر؛ نتيجة ما يعيشون فيه من تقشّف، كما زار دار خالد بن الوليد ولَم يجِد عنده شيئًا يلفت النَّظر سوى أسلحته الَّتي كان منشغلاً بإصلاحها، وقد كان عمر في أثناء دخولِه على هؤلاء يدخل فجأة؛ إذ يصْحبه رجل فيطرق الباب على الوالي، فيتكلَّم الرَّجُل ويطْلب الإذن بالدّخول له ولِمَن معه دون أن يعلموا أنَّه عمر، وحينما يدْخل عمر إلى الدَّار يقوم بالتَّمحيص فيها، والاطّلاع على ما فيها من أثاث، وقد سمِع عمر – رضِي الله عنْه – أنَّ يزيد بن أبي سفيان ينوّع في طعامه، فانتظر حتَّى إذا حان وقت عشاء يزيدَ، استأذن عليْه، فلمَّا رأى طعامَه نَهاه عن الإسراف في الطَّعام، ولم يكتفِ عمر بالمراقبة عن طريق هذه الزّيارات؛ بل عمد إلى طريقة أُخرى؛ وهي إرسال الأموال إلى الولاة، وإرْسال مَن يراقبهم؛ حتَّى يعرف كيف تصرَّفوا فيها، فأرْسل إلى أبي عُبيدة بخمسمائة دينار، فعمَد إليْها أبو عبيدة فقسَّمها كلّها، فكانت امرأتُه تقول: والله، لقد كان ضرر دخول الدَّنانير عليْنا أكثر من نفعها، ثمَّ إنَّ أبا عُبيدة عمَد إلى خلق ثوب كنَّا نصلّي فيه فيشقّقه، ثمَّ جعل يصبّر فيه من تلك الدَّنانير الذَّهب ويبعث بها إلى مساكين، فقسَّمها عليهم حتَّى فنيت.

 

وعمل عمر الشَّيء نفسه مع ولاة آخرين في سفرته تلك إلى الشَّام.

 

ولَم يكتف عمر بمراقبته للعمَّال في أثناء سفره؛ بل كان يستقْدِمهم إلى المدينة ثمَّ يوكل مَن يراقبهم في أكْلِهم وشربهم ولباسهم، ويفعل ذلك بنفسِه أيضًا.

 

وتذهب الخلافة الرَّاشدة من الأمَّة، ولم يذهب معها العدْل بمجيء المُلك، فكان معاوية – رضي الله عنه – يقول وهو أكبر ملوك الأرض حينها: “إنّي لأستحْيي أن أَظلم مَن لا يجد عليَّ ناصرًا إلا الله”؛ “عيون الأخبار”.

 

وهكذا بقِي العدْل في الأمَّة “حضارة وحده”، حضارة تستحقّ كلَّ تقْدير، وتحوز كلَّ إعجاب، بقِي العدل في الأمَّة ما كان الدّين فيها ظاهرًا ومهيمنًا، واهتزَّ العدل لمَّا ضعف الدّين، فلمَّا نُحّي الدّين عن الحياة واستوردت المناهج التَّغريبيَّة بديلاً عنْه في أزمِنَتنا النحسة النَّكدة، ذهب آخر العدْل، وانهارت “حضارة العدل” التي شيَّدها المسلمون قرونًا طويلة شاهدة على تجربتهم الفريدة.

___________________________________________________
الكاتب: حسن عبدالحي

 

والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهُمَّ وسلِّم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح ما يفعل من رأى الرؤيا أو الحلم

منذ حوالي ساعة الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان؛ فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه؛ فلينفث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *