أحداث متصاعدة على الصعيد الداخلي في بلدان الساحل الإفريقي ألقت بظلالها سريعًا على المجالين الإقليمي والدولي، وكانت البداية من الانقلابات العسكرية المتتالية التي بدأت في مالي 2020، وتبعتها بوركينا فاسو2022، ثم النيجر2023، وأزيحت على إثرها الحكومات المنتخبة، وجاءت مجالس عسكرية سيطرت على الحكم.
هذه الانقلابات العسكرية لم تكن كسابقتها من حيث السيطرة على الحكم ثم مسايرة الواقع الإقليمي والدولي، بما يتيح لها القبول ومن ثم الاستمرار في الحكم وفقط، إذ يبدو أن لها توجهات سياسية مغايرة كثيرًا للسياق التاريخي المستمر منذ رحيل الاستعمار عن بلادها التي ظلت رهينة يد بعض القوى الأوروبية، لاسيما فرنسا.
ولعل السمة المشتركة لهذه الانقلابات ومجالسها العسكرية أنها مناوئة لذلك الوجود الفرنسي في بلادها، وتراه السبب الرئيس في تدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية والسياسية، ومن ثم ارتأت أن تتخلص سريعًا من هذا الإرث الاستعماري البغيض وأن تعيد صياغة تحالفاتها الإقليمية والدولية.
على الصعيد الإقليمي، عانت تلك الدول، وعقب وقوع الانقلابات العسكرية من عقوبات اقتصادية وسياسية من قبل منظمة المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) في محاولة ظاهرية لإجبار هذا الدول على العودة للنظام الدستوري، وتحديد مواعيد قريبة ودقيقة لعملية انتقال السلطة إلى المدنيين، وصلت إلى حد التهديد بالتدخل العسكري المباشر عقب انقلاب النيجر لإعادة الرئيس المخلوع محمد بازوم.
هذه العقوبات والتهديدات لم تجد صدى يذكر لدى المجالس العسكرية، التي قرأت هذه العقوبات والتهديدات على اعتبار أنها خضوع من قبل إيكواس “المختطفة” من قبل بعض القوى الإقليمية، خاصة نيجيريا الرئيس الحالي للمنظمة والكوت ديفوار الصديق المخلص لفرنسا، للقوى الغربية، لوقف مسار التحرر الثاني من السيطرة الاستعمارية.
راحت هذه الدول الثلاثة تتخذ من الإجراءات على الصعيد الإقليمي ما يضمن لها مواجهة أية تهديدات عسكرية، قد تستهدفها واحدة تلو الأخرى، خاصة من قبل إيكواس، فأعلنت انسحابها من مجموعة دول الساحل الخمس G5 والذي يضم: بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر، وأعلنت في سبتمبر 2023عن تحالف أمني وعسكري جديد.
وتزامن ذلك مع تغيرات على الصعيد الدولي، حيث سارت هذه الدول في مسار تفكيك علاقاتها مع فرنسا، على المسارين السياسي والعسكري..
على وقع هذا السياق التاريخي الممتد منذ وقوع الانقلابات، جاء القرار الذي لم يكن مفاجئًا على الإطلاق من هذه الدول الثلاث مالي والنيجر وبوركينافاسو بمغادرة إيكواس بصورة فورية في يوم الأحد 28يناير 2024، وتبعه في يوم الاثنين 29يناير التقدم بمذكرة رسمية من مالي وبوركينافاسو بمغادرة المنظمة.
ففي المسار العسكري، أجبرت القوات الفرنسية على مغادرة أراضيها، ففي 15 أغسطس 2022 أكلمت فرنسا سحب قواتها من مالي، وفي 19 فبراير 2023 أعلنت بوركينافاسو انتهاء عمليات القوات الفرنسية على أراضيها، تنفيذا لقرار السلطات البوركينية إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وفي 22 ديسمبر 2023 أعلن الجيش النيجري في احتفال أقيم في قاعدة نيامي الجوية أن القوات الفرنسية اأجزت انسحابها بالكامل من البلاد.
وفي المسار السياسي، قلصت تلك الدول من الوجود السياسي الفرنسي على أرضيها، حيث أعلن التلفزيون الرسمي المالي في 31 يناير 2023 أن المجلس العسكري الحاكم قرر طرد السفير الفرنسي من البلاد، وفي 3 يناير 2023 طرد المجلس العسكري الحاكم في بوركينا فاسو السفير الفرنسي، وغادر السفير الفرنسي لدى النيجر البلاد، في 27سبتمبر 2023، بعد نحو شهر من صدور أمر من المجلس العسكري الحاكم بطرده.
وعلى الصعيد الدولي، تم فتح مسار لتحالف دولي جديد مع روسيا، حيث يعد البديل الروسي، في منظور هذه الدول أفضل حليف دولي على الساحة في هذا التوقيت لاعتبارات منها:
أولًا: أن روسيا قوى دولية ليس له ماض استعماري في إفريقيا جنوب الصحراء، ومن ثم لا توجد لها أجندة خاصة، سياسية أو اقتصادية ظاهرة كفرنسا والقوى الغربية الأخرى.
ثانيًا: أنها حليف يمكن الاعتماد عليه في مجال التسليح العسكري لمواجهة ظاهرة الإرهاب المسلح، حيث تمتلك من التسليح والمعدات ما يمكن أن تدعم به هذه الدول، إلى جانب وجود قوات غير نظامية يمكنها المساهمة بفاعلية في وقف التمدد الإرهابي، حيث فشلت فرنسا في وقف هذا النشاط، بل كانت –على حسب رواية هذه الدول- أحد الأضلع المساهمة في انتشاره واستمراره.
ثالثًا: أن مساعداتها الاقتصادية لا تأتي مشروطة أو مرتهنة بمطالب سياسية محددة، كما هو الحال في المساعدات الاقتصادية الفرنسية والغربية التي ترتبط بمشروطية سياسية مجحفة، وتدخل سافر في شؤون البلاد الداخلية.
على وقع هذا السياق التاريخي الممتد منذ وقوع الانقلابات، جاء القرار الذي لم يكن مفاجئًا على الإطلاق من هذه الدول الثلاث مالي والنيجر وبوركينافاسو بمغادرة إيكواس بصورة فورية في يوم الأحد 28يناير 2024، وتبعه في يوم الاثنين 29يناير التقدم بمذكرة رسمية من مالي وبوركينافاسو بمغادرة المنظمة.
ميثاق إيكواس ذاته، لا يتيح لأية دولة عضو من أعضائه الـ 15 الانسحاب الفوري، فبموجب المادة 91 من ميثاق المنظمة لا يجوز لأي دولة عضو الانسحاب إلا بعد تقديم إشعار كتابي، مع الالتزام بأحكام المنظمة خلال فترة النظر في قرار الانسحاب ومدته عام كامل، ويمكن التراجع عن طلب الانسحاب في غضون 12 شهرًا، وهو أمر ربما فرصة تحققه ليست بكبيرة في ضوء ما أعلنته هذه الدول من سبب مغادرتها للتكتل الإقليمي والذي يتلخص في انحراف إيكواس عن مُثُل الآباء المؤسسين وروح الوحدة الإفريقية، والفشل في مساعدتهم في قتالهم ضد الجماعات المسلحة المتمردة وإنهاء انعدام الأمن، والخضوع لتأثير بعض القوى الأجنبية التي تعمل ضد أهداف المجموعة في إشارة واضحة لفرنسا، كما أنها تشكل تهديدًا لسيادة هذه الدول ومصالحها الحيوية بما تفرضه من عقوبات مجحفة.
ويبدو أن هناك بعض الأسباب غير المعلنة من جانب قادة هذه الدول، منها محاولة رفع الرصيد الشعبي للمجالس العسكرية من خلال اللعب على وتر الخطاب المناهض للنفوذ الغربي والذي تمثله إيكواس ومن بقي فيها من دول التكتل، والسعي نحو تحالفات جديدة تكسر هيمنة النفوذ الغربي على المنظمات الإقليمية في منطقة الساحل، وهو ما يبدو ظاهرًا في سعي هذه الدول لإنشاء تحالفات إقليمية خاصة بها، مثل تحالف دول الساحل، وتحالف خارجي متصاعد مع روسيا.
ولا يخلو هذا القرار الصادم من تأثيرات على المستوى الداخلي لـ مالي والنيجر وبوركينافاسو، حيث يتوقع أن تزيد صعوبة الوضع الاقتصادي على هذه الدول كونها غير ساحلية، وتعتمد في صادراتها ووارداتها على بقية دول المجموعة، كما سيعوق من حركة التجارة والإعفاءات الضريبية مع الدول الأعضاء في المنظمة، وسيشكل عائقًا أمام حركة المواطنين الذين سيفقدون ميزة نظام المرور دون تأشيرات إلى بقية دول التكتل، وهي كلها تأثيرات ستمس عصب اقتصاد المواطن ومعيشته.
أما التأثير الإقليمي المنتظر لقرار الانسحاب، فيتمثل في فتح الباب أمام بعض الدول الأخرى التي ترى أن المنظمة “المختطفة” للانسحاب هي الأخرى، وهو ما يمثل ضربة للتكامل الإقليمي في غرب إفريقيا، ويزيد من إضعاف إيكواس، وربما يقود في النهاية إلى تفككها، أو بقاء هياكلها فقط دون تأثير يذكر، لاسيما وأن الدول المنسحبة تشكل عصب المنظمة وقواها الفاعلة.
إن الدول الثلاث الواقعة في غرب إفريقيا دخلت معتركًا صعبًا للغاية وهي تحاول الفكاك من فم الأفعى الفرنسية، التي ترى غنيمتها الباردة تذهب بعيدًا عنها، وهي تحاول بشتى الطرق والوسائل غير المشروعة أن تبقيها في حظيرتها دون جدوى..
فهل تفلح محاولة تلك الدول في تفكيك الخطر الفرنسي وأدواته المتمثلة في التكتلات الإقليمية وفي مقدمتها إيكواس ورسم خريطة للتحرر الثاني من الاستعمار؟
Source link