الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فالحديث المشار إليه رواه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يقول الله عز وجل: “الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني في شيء منهما عذبته”.
وليس ظاهر الحديث أن لله عز وجل إزارًا ورداء من جنس الأزر والأردية التي يلبسها الناس؛ فاللباس كما يكون سترًا للعورة الجسدية للإنسان، يكون أيضًا لستر لعوراته النفسية؛ كما قال تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]، والفطرة السليمة تنفر من انكشاف سوآتها الجسدية والنفسية، وتحرص على سترها ومواراتها، ولباس التقوى هو: العمل الصالح والإيمان، والسمت الحسن والورع وخشية الله.
فرداء الكبرياء الحاجب لله سبحانه يمنع من إدراكه وإحاطته سبحانه، ولا يمنع من مجرد رؤيته؛ لأن فالله سبحانه يكشف لأهل الجنة حجاب الكبرياء المخلوق عن وجهه فيراه أهل الجنة بغير إحاطة ولا إدراك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه “بيان تلبيس الجهمية”(6/ 271-277)، فاقضًا كلام أبي عبدالله الرازي في كتاب أساس التقديس، ومبينًا خطأه في ردّ حديث السابق: “وليس ظاهر هذا الحديث أن لله إزارًا ورداء من جنس الأزر والأردية التي يلبسها الناس، مما يصنع من جلود الأنعام، والثياب كالقطن والكتان، بل الحديث نصٌّ في نفي هذا المعنى الفاسد:
فإنه لو قال عن بعض العباد: إن العظمة إزاره والكبرياء رداؤه، لكان إخباره بذلك عن العظمة والكبرياء اللذين ليسا من جنس ما على ظهور الأنعام، ولا من جنس الثياب، ما يبين ويظهر أنه ليس المعنى أن العظمة والكبرياء هما إزار ورداء بهذا المعنى. فإذا كان المعنى الفاسد لا يظهر من وصف المخلوق بذلك؛ لأن تركيب اللفظ يمنع ذلك ويبين المعنى الحق، فكيف يدعي أن هذا المعنى ظاهر اللفظ في حق الله تعالى؟! الذي يعلم كل مخاطب أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبر عنه بلبس الأكسية، وثياب القطن والكتان، التي يحتاج إليها لدفع الحر والبرد وستر العورة، وهذا أقبح ممن يزعم أن قوله إن خالدًا سيف من سيوف الله سلًَّه الله على المشركين، أن ظاهره أن خالدًا من حديد، وأقبح ممن يزعم أن قوله عن الفرس: “إن وجدناه لبحرًا”، ظاهره أن الفرس ماء كثير، ونظائر هذا كثيرة.
وإذا كان هذا المعنى الفاسد ليس ظاهر الحديث، بل نص الحديث الذي هو أبلغ من مجرد الظاهر ينافيه، كان ما ذكره باطلاً. يبقى أن يقال: فالتعبير عن هاتين الصفتين بإضافة الرداء والإزار إليه فهذا لا يحتاج إليه في رد ما قال، لكن فيه زيادة الفائدة.
يحتاج أن يعرف: أن جنس اللباس في كل ما يضاف إليه بحبسه، فبنو آدم يذكر لهم اللباس الذي على أبدانهم الذي يقيهم الحر والبرد، والسلاح، ويستر عوراتهم، وهو المذكور في قوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [الأعراف 26]. ثم الصفات التي تقوم بالإنسان التي هي لباس له بها يكون من المتقين؛ كما قال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف 26]، وليس قوله: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} مما يقال فيه إنه خلاف الظاهر، فيحتاج إلى تأويل؛ فإنه لم يجرد لفظ اللباس، بل أضافه إلى التقوى، وهذا قد يعم اللباس الظاهر الذي يتقى به، والأخلاق والأعمال الصالحة؛ ولهذا تجعل هذه الصفات ظرفًا للموصوف كما قد يجعل هو محلاً لها، فيقال: فلان في علمه وحكمه وصدقه وعدله من خيار الناس.
ولباس الإنسان منه ما لا يصلح مشاركة غيره فيه كالإزار، والرداء، والسراويل، ونحو ذلك.
بل مشاركة الإنسان فيه يوجب له من النقص والضرر ما يدعوه على أن يمنع طالب الشركة في ذلك والكبرياء والعظمة لا تصلح إلا لله رب العالمين الرب الخالق الباري الغني الصمد القيوم دون العبد المخلوق الفقير المحتاج والكبرياء فوق العظمة كما جعل ذلك رداء وهذا إزارًا ولهذا كان المشروع في العبادات الله أكبر دون الله أعظم وذلك في الصلاة والأذان والأعياد والمناسك وعلى الأشراف حتى لو قال المؤذن الله أعظم أو الله الكبير أو الله الأكبر لكان قد بدل شريعة الإسلام عند جميع المسلمين.
وهما مع أنهما لا يصلحان إلا لله فيمتنع وجود ذاته بدونهما بحيث لو قدر عدم ذلك للزم تقدير المحذور الممتنع من النقص والعيب في ذات الله فكان وجودهما من لوازم ذاته وكمالها التي لا ينبغي أن تعرى الذات وتجرد عنها كما أن العبد لو تجرد عن اللباس لحصل له من النقص والعيب بحسب حاله ما يوجب أن يحصل له لباسًا وأيضًا فاللباس يحجب الغير عن المشاهدة لبواطن اللابس وملامستها وكبرياء الله وعظمته تمنع العباد من إدراك البصر له ونحو ذلك؛ كما في الحديث الصحيح الذي في صحيح مسلم عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال جنات الفردوس أربع ثنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما وثنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلاَّ رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن فهذا الرداء الحاجب الذي قد يكشفه لهم فينظرون إليه سماه رداء الكبرياء فكيف ما يمنع من إدراكه وإحاطته أليس هو أحق بأن يكون من صفة الكبرياء”. اهـ.
إذا تقرر هذا، علم أن لله سبحانه وتعالى، وتقدست أسماؤه له حجاب مخلوق يمنع من مجرد رؤيته، فإذا كشفه رأوه بأبصارهم في جنة الخلد، وهو المذكور في حديث أبي موسى السابق، وفي غيره من الأحاديث كحديث أَبِي مُوسَى في الصحيح، قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ”، وَفِي رِوَايَةِ حجابه النَّارُ.
وتكون الرؤية دون الإدراك والإحاطة؛ لأن صفة الكبرياء غير المخلوقة، والعظمة غير المخلوقة= تمنع رؤيته بإحاطة، ولا تمنع مجرد رؤيته! وهي الواردة في الحديث موضع السؤال،، والله أعلم.
Source link