منذ حوالي ساعة
قضية التمكين تعطي إشارة إلى مرحلة سابقة من الاستضعاف والإقصاء، مرحلة من “الصراع” بين الحق وأهله والباطل وأهله، مرحلة يَبدأها دخول مجال الإيمان، ويملأ جَنباتها الصبر، ويُكلل نهايتها النصر!
آية في سورة الحج ترسم منهجًا عمليًّا لمن يريدون الصلاح والإصلاح، لكن لها خصوصية عن سائر الآيات التي تناولت هذا الموضوع؛ إذ إنها ترسم منهجًا لأولئك الذين مكَّن الله تعالى لهم، وآتاهم من الملك ما يهيئ لهم فاعلية لا تُهيَّأ لغيرهم، والحال أن البلاد التي مَنَّ الله تعالى عليها بحكام يتهيَّؤون لتطبيق شرع الله تعالى، هي محل خطاب هذه الآية، إنها خطاب للمُمكَّنين؛ يقول الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41].
وقضية التمكين تعطي إشارة إلى مرحلة سابقة من الاستضعاف والإقصاء، مرحلة من “الصراع” بين الحق وأهله والباطل وأهله، مرحلة يَبدأها دخول مجال الإيمان، ويملأ جَنباتها الصبر، ويُكلل نهايتها النصر!
وتعطي إشارة كذلك إلى مَنِّ الله تعالى على عباده المستضعفين، وإذا كان ثمة مَنٌّ ونعمة، فإن ذلك يلقي بالمسؤولية مباشرة على هؤلاء المُنعَم عليهم بالتمكين، إنها مسؤولية الشكر، وإذا قابَل العبد النعمة بالشكر، فإن كل نعمة يأتي شكرها على شَبَهٍ من جنسها، فإذا كانت نعمة العلم، كان الشكر بتعليم الجاهلين، وإذا كانت نعمة القوة، كان الشكر بنُصرة الضعفاء والمستضعفين، وإذا كانت نعمة المال، كان الشكر بالإنفاق على الفقراء والمساكين، وفي هذه الآية كانت النعمة بالتمكين، فوجَب أن يكون الشكر بتمكين دين الله، وإصلاح أمور عباده؛ {أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41].
ولكن الإصلاح الذي أشارت إليه الآية، أتى ممنهجًا بالقدر الذي يُحقق أمرين:
الأول: يوظِّف طاقة الممكَّن لهم من الحُكام وأتباعهم في المسار الأوْفق لهذه السلطة.
والثاني: يُثمر في الأرض ثمرة السعادة للرعية.
ترسم الآية في منهج الإصلاح للحكام أهمَّ المجالات التي يجب عليهم الإصلاح فيها، وهذه المجالات:
1- المجال الديني:
وهو المعبَّر عنه في الآية بإقامة الصلاة؛ وذلك لأن الصلاة هي رأس شعائر الإسلام، فإقامتها فيه معنى إقامة الدين، وهي شاملة لأجناس العبادات جميعًا، ففيها من الحج قصد الكعبة بالتوجُّه، وفيها من الصيام وجوب الامتناع عن الطعام والشراب، وفيها من الزكاة اقتطاع بعض الوقت لله، فلا يُكتسب فيه مال، ولا يشغل عنه بيع، فكأنالإنسان قد اكتسب مالاً في هذا الوقت الذي اقتطَعه لله، ثم أنفقه في سبيل الله، وفيها الشهادتان وقراءة القرآن، والذكر والدعاء.
فكان أول واجبات الحاكم الذي مكَّن الله تعالى له، أن يُقيم أمور الدين في رعيَّته، وإذا ذكرت إقامة الصلاة للتمثيل، فإن كل صغيرة وكبيرة من أمور الدين التي يجب أن تُشاهد في المجتمع، لا بد أن تقام كذلك، فمن مسؤولية الحاكم أن يتابع – أول ما يُتابع – مدى تطبيق شعائر الإسلام في مجتمعه، وهي مسؤولية لا يحملها إلا عاتق الحاكم؛ لأن مثل هذه الأمور لو تُرِكت للأفراد، لنتَج عنها شقاق كبير وفساد؛ ولذلك كان الحاكم وحده هو المخوَّل بإقامة الحدود؛ حتى لا يطغى فيها كاره على مكروه.
أما ما يقام من الدين في الخفاء بين العبد وبين ربه، فللحاكم فيه النصح، عن طريق برامج التوعية المنبرية والإعلامية؛ لتذكير المسلمين بالله كلَّ حين.
2- المجال الاقتصادي:
وهو المعبَّر عنه بإيتاء الزكاة، والزكاة قضية مالية، وهي وإن لم تكن نصًّا في البيع والشراء والمعاملات المادية، إلا أنها تلخيص لثمرة التوازن المادي في المجتمع، فالاستقرار الاقتصادي يتجلى إذا كانت الفجوة المادية في المجتمع يسيرة، حين يكفل الغني الفقير، فيتسنَّى له – بمقدارٍ – مجاراة حركات البيع والشراء، والتعاملات المادية الأخرى، فالمأمور بإيتاء الزكاة مأمور في الحقيقة بإقامة التوازن المادي في المجتمع، ومأمور كذلك بإقامة كل ما من شأنه تحقيق هذا التوازن المادي، فإقامة أمر الزكاة يُصلح جوانب الشأن الاقتصادي كله؛ وذلك لأن معالجة الأمور الاقتصادية في الإسلام، تبدأ من غاياتها، فاعتناء الإسلام بألا يَضيع الفقير في المجتمع المسلم، واهتمامه بألا تُحوِّل بعضُ المعاملات الناسَ إلى فقراء في المجتمع المسلم، كلا الاهتمامين كانا غايتين لوضع ضوابطَ اقتصادية من شأنها أن تُحقق هاتين الغايتين، وكانت الزكاة أولى هذه الضوابط التي تكفل للفقير حياة كريمة.
ومن هنا كان على الحاكم الذي مكَّنه الله تعالى أن يهتم – ثاني ما يجب أن يهتمَّ به – بأمر الإصلاح الاقتصادي، حتى يُؤَمِّن المجتمع من جريرة البخل، وظلم تفاوت الطبقات الاجتماعية.
وإن في إقامة الصلاة إقامة مصالح الدين، وفي إقامة أمر الزكاة إقامة مصالح الدنيا التي تُعتبر إقامتها وسيلة لإقامة الدين.
3- الجانب الاجتماعي:
{وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41].
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أول ضامنٍ لاستمرار أمن المجتمع، ونجاته من الهلاك القدري، وهذا المقام إن كان له مقصد ديني ظاهر، فإن له كذلك مقصدًا اجتماعيًّا ظاهرًا؛ لأن انتشار الفواحش والمعاصي في مجتمع ما، له علاقة طردية مع نقْص الأخلاق وانهيار القِيَم، وهو أمر مُؤذِن بخراب المجتمع.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – في ضوء الضوابط الشرعية للأمر والنهي – هو صمام أمان للمجتمع من الانهيار.
ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قضية مؤثرة في استقرار المجتمع، بحيث يمكن أن ينتج توظيفها الخاطئ بلاءً ووبالاً في المجتمع، كان لا بد أن يتولاَّها الحاكم بما مكَّن الله تعالى له، وبما خصَّه من سلطة عُظمى، ولقد قدَّمت “الحِسبة” في التاريخ الإسلامي نموذجًا رائعًا في أدب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك في ثماره، فيجب على الحاكم الذي مكَّن الله له أن يُنشئ هيئة لمتابعة المنكر، والذي يختلف من مقام لمقام، متدرجًا في تطبيقه في مجتمع لم يشهد من قبلُ هذه الأنظمة.
فالبلطجة مثلاً لا يقوم لها جهاز الشرطة وحده؛ حتى يسانده جهاز “الحِسبة”، والجريمة التي بدأت تجاهر برؤوسها في المجتمع لا بد من كبْتها بيدٍ صمَّاء؛ حتى لا يَترهَّل أمْن المجتمع، ويَهترئ نظامه.
كانت هذه الأمور الثلاثة التي حثَّت عليها الآية الكريمة، والتي أرى أنها ترسم منهجًا إصلاحيًّا واجب التطبيق.
ومَن مكَّن الله له، وجَب عليه أن يُمكِّن لدين الله.
_________________________________________________
الكاتب: د. محمد شلبي محمد
Source link