منذ حوالي ساعة
ومن أجمل القصص التي رُويت لنا عن قوة عمر رضي الله عنه أن جميع المسلمين هاجروا سرًّا إلا عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه هاجر علنًا، وفي وضَحِ النهار، وأمام مرأى ومَسْمَع من المشركين.
لم تشهدِ الدولة الإسلامية عهدًا أعظمَ من عهده؛ ولذلك فالحديث عن عمر بن الخطاب له وَقْعٌ خاصٌّ على القلب، نسترجع معه تلك الحِقبة العظيمة من الزمن؛ ففي خلافته رضي الله عنه اتسعت الدولة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، وكثُرت الفتوح الإسلامية للبلاد، ففُتح في عهده الشام والعراق وإيران وأذربيجان، ومصر وليبيا، وتسلَّم عمرُ مفاتيحَ الْمَقْدِس، وكثُر في عهده الأموال، وامتلأ بيت المال، فلم تشهدِ الدولة الإسلامية عهدًا أعظم من ذلك العهد ولا خلافةً أفضل من خلافة عمر بن الخطاب.
قوة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
ومن أجمل القصص التي رُويت لنا عن قوة عمر رضي الله عنه أن جميع المسلمين هاجروا سرًّا إلا عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه هاجر علنًا، وفي وضَحِ النهار، وأمام مرأى ومَسْمَع من المشركين.
أخرج ابن عساكر عن علي رضي الله عنه قال: “ما علمت أحدًا هاجر إلا مختفيًا، إلا عمر بن الخطاب؛ فإنه لما همَّ بالهجرة، تقلَّد سيفه، وتنكَّب قوسه – فوضعه في منكبه – وانتضى – وأخرج من كِنانتِهِ – أسهُمًا، وأتى الكعبة وأشراف قريش بفنائها، فطاف سبعًا ثم صلى ركعتين عند المقام، ثم أتى حلقهم واحدة واحدة، فقال: شاهت – وقبحت الوجوه – من أراد أن تَثْكِلَه – وتفقده – أمُّه، ويَيْتَمُ ولده، وترمَّل زوجته، فلْيَلْقَني وراء هذا الوادي”، فما تجرأ أن يتبعه أحدٌ.
وعن ابن عمر قال: “لما أسلم عمر بن الخطاب لم تعلم قريش بإسلامه، فقال: أي أهل مكة أفشى للحديث؟ فقالوا: جميل بن معمر الجمحي، فخرج إليه وأنا أتْبَعُ أثره، أعقِل ما أرى وأسمع، فأتاه فقال: يا جميل، إني قد أسلمت، فقال: فوالله ما ردَّ عليه كلمة، حتى قام عامدًا إلى المسجد، فنادى أندية قريش، فقال: يا معشر قريش، إن ابن الخطاب قد صبأ، فقال عمر: كذَب، ولكني أسلمت وآمنت بالله وصدقت رسوله، فثاوروه فقاتلهم حتى ركدت الشمس على رؤوسهم، حتى فتر عمر، وجلس فقال: افعلوا ما بدا لكم، فوالله لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركتموها لنا أو تركناها لكم.
فبينا هم كذلك قيام إذ جاء رجل عليه حُلَّةُ حريرٍ، وقميص موشَّى، فقال: ما لكم؟ فقالوا: إن ابن الخطاب قد صبأ، قال: فمَهْ، امرؤٌ اختار دينًا لنفسه، أتظنون أن بني عَدِيٍّ تُسلِّم إليكم صاحبهم؟ قال: فكأنما كانوا ثوبًا انكمش عنه، فقلت له بعدُ بالمدينة: يا أبتِ، مَن الرجل الذي رد عنك القوم يومئذ؟ قال: يا بني، ذاك العاص بن وائل”.
الشدة واللين في قلب عمر بن الخطاب:
لعل قوة عمر كانت توحي دائمًا بشدته، لكن في الواقع لقد امتزجت شدة عمر بن الخطاب باللين امتزاجًا عجيبًا، فهو والله شخصية عظيمة؛ إذ تجعلك منجذبًا له مع كل صفة نذكرها من صفاته وأخلاقه، لما وَلِيَ عمرُ الخلافة نادى بالصلاة جامعة، ثم صعِد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: “بلغني أن الناس هابوا شِدَّتي، وخافوا غلظتي، وقالوا: قد كان عمر يشتد علينا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، ثم اشتد علينا وأبو بكر والينا دونه، فكيف وقد صارت الأمور إليه؟ ومن قال ذلك، فقد صدق؛ فقد كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت عبده وخادمه، وكان من لا يبلغ أحدٌ صفته من اللين والرحمة، وكان كما قال الله عز وجل: {﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾} [التوبة: 128]، فكنت بين يديه سيفًا مسلولًا حتى يغمِدني أو يَدَعني فأمضيَ، فلم أزَلْ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى توفَّاه الله وهو عني راضٍ، والحمد لله على ذلك كثيرًا، وأنا به أسعد.
ثم وَلِيَ أمرَ المسلمين أبو بكر، فكان من لا ينكرون دَعَتَه وكرمه ولينه، فكنت خادمه وعونه، أخلط شدتي بلينه، فأكون سيفًا مسلولًا، حتى يغمِدني أو يدعني فأمضي، فلم أزل معه كذلك حتى قبضه الله عز وجل وهو عني راضٍ، والحمد لله على ذلك كثيرًا، وأنا به أسعد.
ثم إني قد وليت أموركم أيها الناس، فاعلموا أن تلك الشدة قد أُضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والقصد، فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض”؛ هذه كانت كلمات أمير المؤمنين في أول خلافته؛ وهكذا قال الله عز وجل في كتابه العزيز: { ﴿ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾} [الفتح: 29]، هكذا كان عمر بين الشدة واللين، فلم ينكر عمر رضي الله عنه ما قاله الناس عن شدته، وكيف ينكر تلك الشدة وهي تُستعمل على أهل الظلم والتعدي على المسلمين؟
لا يخاف في الله لومةَ لائمٍ:
تخرَّج عمر بن الخطاب في المدرسة المحمدية، واتصف بالكثير من الصفات، آخذًا خِصالَ العدل من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد عرَف عنه العدل، فالعدل عنده منهج رباني يسير عليه بخُطى ثابتة، فقيل عنه: إنه لا يخاف في الله لومة لائم، ويقيم الحدود على القريب والبعيد، المسلم والكافر، حتى إنه لَيُضرب به المثل في ذلك الأمر.
فإذا ذُكِرَ عُمَرُ ذُكِرَ العَدلُ، وإذا ذكر العدل ذكر عمر.
فهل رأيت شخصًا بلغ عدله أن قضى بالحق لصاحبه وإن كان يهوديًّا، فشهِدوا له بذلك؛ روى الإمام مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب “أن عمر بن الخطاب اختصم إليه مسلم ويهودي، فرأى عمر أن الحق لليهودي فقضى له، فقال له اليهودي: والله لقد قضيت بالحق”.
لو كنت سمعت هذا الحديث على رجل عادي لكنت تعجبت، ولكنه حقًّا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلا أتعجب من عدله، فقليلٌ من هُمُ اليوم في مثل عدل الفاروق.
وها هو رسول كسرى يشهد بعدل عمر حينما قال مقولته المشهورة: “عَدَلت فأمِنتَ فنِمتَ”.
قال حافظ إبراهيم:
قد راع صاحب كسرى أن رأى عمرًا
بين الرعية عطلًا وهو راعيها
وعهدُه بملوك الفرس أن لها
سورًا من الجند والأحراسِ يحميها
رآه مستغرقًا في نومه فرأى
فيه الجلالةَ في أسمى معانيها
فوق الثرى تحت ظل الدَّوح مشتملًا
ببُردةٍ كاد طولُ العهد يُبليها
فهان في عينه ما كان يكبره
من الأكاسرِ والدنيا بأيديها
وقال قولةَ حق أصبحت مثلًا
وأصبح الجيلُ بعد الجيل يرويها
أمِنتَ لما أقمتَ العدل بينهم
فنمتَ نومَ قريرِ العين هانيها
بقلم / فاطمة الأمير
Source link