إن معظم كلام الناس يحسب عليهم ولا يحسب لهم ، معظم مجالس الناس حجة عليهم لا حجة لهم ، معظم لقاءات الناس تأخذ منهم ولا تعطيهم ..
أما بعد فيقول رب العالمين سبحانه وتعالى {﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنسَٰنَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِۦ نَفْسُهُۥ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ ﴾ ﴿ إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴾﴿ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾}
وعن أم المؤمنين جُويْريَةَ بنت الحارِث رَضِيَ اللهُ عنها: «أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خرجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِيْنَ صَلَّى الصُّبْحَ وَهِيَ في مَسْجِدِها، ثُمَّ رَجَعَ بَعدَ أنْ أضْحَى وَهِيَ جَالِسَةٌ، فقالَ» : (( «مَا زِلْتِ عَلَى الحالِ الَّتي فَارقَتُكِ عَلَيْهَا؟» )) قالت: نَعَمْ، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:
«(ألا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهَا؟ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ اليَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبحَانَ الله عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبحَانَ الله عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبحَانَ الله عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ الله رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ الله زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللهِ زِنَةَ عَرشِهِ، سُبْحَانَ الله زِنَةَ عَرشِهِ، سُبْحَانَ الله مِدَادَ كَلِمَاتِهِ، سُبْحَانَ الله مِدَادَ كَلِمَاتِهِ، سُبْحَانَ الله مِدَادَ كَلِمَاتِهِ))» .
أيها الإخوة الكرام: إن معظم كلام الناس يحسب عليهم ولا يحسب لهم ، معظم مجالس الناس حجة عليهم لا حجة لهم ، معظم لقاءات الناس تأخذ منهم ولا تعطيهم ..
من هنا كان حديثنا في يومنا هذا عن كلمة تحسب لك ولا تحسب عليك ، وعن جلسة هى حجة لك لا حجة عليك وعن لقاء يعطيك ولا يأخذ منك شيئاً..
إنها مجالس العلم ، إنها مجالس الذكر ، إنها لقاء الصالحين الذين ينتقون أطايب الكلام كما ينتقدون أطايب الثمر ..
قال النبي عليه الصلاة والسلام «{ إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن رِضْوانِ اللَّهِ، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه» } .
خطب سيدنا يحيى عليه السلام الناس يوماً فقال أيها الناس: إن الله عز وجل أمرني بكلمات أعمل بها، وآمركم أن تعملوا بها.. أن تعبدوا الله وحده بلا شريك.. فمن أشرك بالله وعبد غيره فهو مثل عبد اشتراه سيده فراح يعمل ويؤدي ثمن عمله لسيد غير سيده.. أيكم يحب أن يكون عبده كذلك..؟
وآمركم بالصلاة لأن الله ينظر إلى عبده وهو يصلي، ما لم يلتفت عن صلاته.. فإذا صليتم فاخشعوا.. وآمركم بالصيام.. فان مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك جميل الرائحة، كلما سار هذا الرجل فاحت منه رائحة المسك المعطر.
وآمركم بذكر الله عز وجل كثيرا، فان مثل ذلك كمثل رجل طلبه أعداؤه فأسرع لحصن حصين فأغلقه عليه.. وأعظم الحصون ذكر الله.. ولا نجاة بغير هذا الحصن.
أما الكلمة التي تحسب لك ولا تحسب عليك، الكلمة التي يرجى ثوابها ويؤمن وزرها هى الكلمة الطيبة، الكلمة البناءة، الكلمة التي تجمع ولا تفرق، الكلمة التي تثقل ميزان صاحبها يوم القيامة..
قال الله تعالى ﴿ { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى ٱلسَّمَآءِ ﴾ ﴿ تُؤْتِىٓ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍۭ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } ﴾
وأما الجلسة التي هى حجة لك لا حجة عليك، هى جلسة الذكر والشكر لله رب العالمين، هى جلسة الفكر في آيات الله تعالى وفي خلق الله تعالى، هى جلسة التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، رياض الجنة كما وصفها النبي عليه الصلاة والسلام، هى جلسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الجلسة التي هى حجة لك لا حجة عليك، هى جلسة التأليف بين القلوب المتنافرة، والإصلاح بين النفوس المتهاجرة قال ربنا سبحانه وتعالى { ﴿ لَّا خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَٰحٍۭ بَيْنَ ٱلنَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾}
وأما اللقاء الذي يعطيك الحسنة ولا يأخذ منك حسنة : فهو لقاء الإيمان مع المؤمنين مع الطيبين مع الصالحين، لقاء الأمل في رحمة الله تعالى، لقاء الرجاء في عفوه سبحانه وتعالى وغفرانه..
عن أَبي هريرة رضي الله عنه قال:
قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( «إنَّ للهِ تَعَالَى مَلائِكَةً يَطُوفُونَ في الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فإذا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللهَ- عز وجل، تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، فيحفونهم بأجنحتهم حتَّى يَمْلَؤُوا ما بيْنَهُمْ وبيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعِدُوا إلى السَّمَاءِ.. فَيَسْألُهُمْ رَبُّهُمْ- وَهُوَ أعْلَم: مَا يقولُ عِبَادي؟ قَالَ: يقولون: يُسَبِّحُونَكَ، ويُكبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، ويُمَجِّدُونَكَ، فيقول: هَلْ رَأَوْنِي؟ فيقولونَ: لا واللهِ مَا رَأَوْكَ. فيقولُ: كَيْفَ لَوْ رَأوْني؟! قَالَ: يقُولُونَ: لَوْ رَأوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا، وأكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا.. فَيقُولُ: فماذا يَسْألونَ؟ قَالَ: يقُولُونَ: يَسْألُونَكَ الجَنَّةَ. قَالَ: يقولُ: وَهل رَأَوْها؟ قَالَ: يقولون: لا واللهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا. قَالَ: يقول: فَكيفَ لَوْ رَأوْهَا؟ قَالَ: يقولون: لَوْ أنَّهُمْ رَأوْهَا كَانُوا أشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وأشدَّ لَهَا طَلَبًا، وأعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً.. قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يقولون: يَتَعَوَّذُونَ مِنَ النَّارِ؛ قَالَ: فيقولُ: وَهَلْ رَأوْهَا؟ قَالَ: يقولون: لا واللهِ مَا رَأوْهَا. فيقولُ: كَيْفَ لَوْ رَأوْهَا؟! قَالَ: يقولون: لَوْ رَأوْهَا كانوا أشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وأشَدَّ لَهَا مَخَافَةً. قَالَ: فيقولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُم، قَالَ: يقولُ مَلَكٌ مِنَ المَلاَئِكَةِ: فِيهم فُلاَنٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمُ الجُلَسَاءُ لا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ)»
قلت: وهذه منقبة جليلة لمجالس العلم والذكر والدعاء والرجاء لا تعدلها منزلة من المنازل، يغفر الله تعالى لأهلها ولمن جالسهم، ولمن أحبهم، ولمن اقتدى بهم، مجالس المؤمنين، مجالس الصالحين هى حجة لأصحابها لا حجة عليهم، وهى مما يحسب للمسلم لا مما يحسب عليه..
قال ربنا سبحانه وتعالى {﴿ لَّا خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَٰحٍۭ بَيْنَ ٱلنَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾}
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير.
الخطبة الثانية {﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَٰلُكُمْ وَلَآ أَوْلَٰدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ ﴾﴿ وَأَنفِقُوا۟ مِن مَّا رَزَقْنَٰكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَآ أَخَّرْتَنِىٓ إِلَىٰٓ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ﴾ ﴿ وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَآءَ أَجَلُهَا ۚ وَٱللَّهُ خَبِيرٌۢ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾}
أيها الإخوة الكرام: إذا كنا نتفق أن الكلمة الطيبة، وجلسة الذكر، وجلسة العلم، ولقاء المسلم الصالح بأخيه المسلم الصالح يجني من وراءها المسلم الأجر، والذكر الحسن في الدنيا والآخرة.. فإن من المجالس مجالس شر.. يحضر فيها الكذب وتحضر فيها الغيبة والنميمة والغمز واللمز ..
مثل هذه المجالس تكون حسرة على أهلها يوم القيامة، مثل هذه المجالس تهدم جبالاً من الحسنات، وتفسد مئآت من الأعمال الصالحات..
قال بعض السلف: وإنه ليؤتى بالعبد يوم القيامة ومعه جبال من الحسنات فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها..
وما من مجلس يجلس الناس فيه لا يذكرون الله عز وجل ولا يصلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كان هذا المجلس عليهم حسرة يوم القيامة..
فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله في أنفسكم وأعمالكم زكوها ولا تضيعوها بفلتات اللسان وسقطاته فإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه..
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا جميعا من الزلل وأن ينجينا برحمته من سوء العمل إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير ..
Source link