الحمد لله الغني الكريم؛ واسع الرحمة، جزيل العطاء، عظيم الهبات {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ} [النحل:96] نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على عطائه وإحسانه؛ شرع الصيام لتحقيق التقوى، وتذكر الجوعى، ومواساة الفقراء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] وخاطب سبحانه ابن آدم فقال: «أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ»، ووَصفه أعلم الناس به فقَالَ: « يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لاَ تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» ، وَقَالَ: «أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ»، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ وصفه خادمه أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه فقَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ)) صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتزودوا من رمضان ما يكون ذخرا لكم، فإنه أيام معدودات..
تدبروا فيه القرآن، وأحيوا ليله بالقيام، وصونوا ألسنتكم عن لغوا الكلام، وغضوا أسماعكم وأبصاركم عن الحرام.
صلوا فيه الأرحام، وأحسنوا إلى الجيران، وألينوا الكلام، وأطعموا الطعام، وتنافسوا في البر والإحسان {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197].
أيها الناس:
حين تنتشر الأثرة وحب النفس في الناس تقسو القلوب، فلا تتألم لمصاب غيرها، ولا يهمها إلا رفاهيتها ولو هلك الناس بأجمعهم؛ ولذا جاءت الشرائع الربانية بالمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات، وبالمواساة في أحوال الجوع والأزمات، وكان الأنبياء عليهم السلام يعيشون عيشة الفقراء للإحساس بهم، فلا يطغيهم غنى فينسيهم الإحساس بغيرهم، ولا يلهيهم شبع عن جوع سواهم، وقد ذكر أهل التفسير أن يوسف عليه السلام لما تولى خزائن الأرض في مصر، وكان يقسم بين الناس أرزاقهم؛ منع نفسه من الشبع، فَقِيلَ لَهُ: ((أَتَجُوعُ وَبِيَدِكَ خَزَائِنُ الْأَرْضِ؟ فَقَالَ عليه السلام: أَخَافُ إِنْ شَبِعْتُ أَنْ أَنْسَى الْجَائِعَ)) يا له من إحساس بالرعية، وتحمل للمسئولية، وأداء للأمانة، من نبي كريم حفيظ عليم، عليه السلام.
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد ضرب أروع الأمثلة في ذلك بما لا مزيد عليه عند أحد لا قبله ولا بعده، فجعل نفسه في مسألة الشبع والجوع من عامة الناس، بل من الفقراء، يقسم الأموال العظيمة بين الناس، ولا يبقي شيئا منها ولو يسيرا لطعامه، وكان لا يأكل طعاما طيبا لوحده أبدا، بل يدعو غيره معه، وعادة الإنسان إن صُنع له طعام طيب وهو جائع أحب أن يستأثر به على غيره، لكن أبا القاسم صلى الله عليه وسلم على العكس من ذلك، أخبر أَنَسِ رضي الله عنه: ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْتَمِعْ لَهُ غَدَاءٌ، وَلَا عَشَاءٌ مِنْ خُبْزٍ وَلَحْمٍ، إِلَّا عَلَى ضَفَفٍ)) (رواه أحمد) ، وفي شرح معناه قال أبو عبيد: لَمْ يَأْكُلْ وَحْدَهُ وَلَكِنْ مَعَ النَّاسِ.
وأعظم من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم يصاب بشدة الجوع حتى يعصب بطنه، وليس ذلك منه قصدا للجوع وطلبا له كما هو حال الرهبان والمتصوفة، وإنما كان لا يدخر شيئا، وإذا جاع لا يسأل أحدا طعاما، بل يصبر على الجوع والقلة، ولو أراد صلى الله عليه وسلم لادخر عظيم المال، ونفيس الطعام، كما يفعل غيره من الناس. ولو أراد لطلب أصحابه فتسابقوا على ملء بيته بما لذ وطاب؛ ففيهم تجار أمثال أبي بكر وعثمان وابن عوف وغيرهم، ولكنه لا يُظهر من أمره شيئا لأصحابه إلا إن فطن بعضهم لعصابة على بطنه فيعلمون جوعه؛ كما وقع ذلك لأنس رضي الله عنه حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم قد عصب بطنه من الجوع فأسرع إلى زوج أمه أبي طلحة يخبره بذلك، والحديث رواه مسلم.
وفي حفر الخندق مكثوا ثلاثة أيام بلا طعام، ورأى جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبطنه معصوب بحجر من شدة الجوع، والحديث في الصحيحين.
وفي الحادثتين كلتيهما صنع أبو طلحة وجابر طعاما أرادا أن يخصا به النبي صلى الله عليه وسلم، ويكتماه عن غيره، ولكن كان إحساسه صلى الله عليه وسلم بغيره أشد من إحساسه بنفسه، وكان إيثاره لأصحابه أشد من إيثارهم هم له؛ ففي حادثة أنس وقف يريد أن يُسار النبي صلى الله عليه وسلم بالطعام، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم جميع من كانوا معه، وكان يباشر بيده الكريمة تقطيع الطعام لهم، ويدخلون مجموعة مجموعة حتى شبعوا ثم أكل صلى الله عليه وسلم بعدهم.
وفي حادثة جابر فعل مثل ذلك فدعا أهل الخندق كلهم، وكان يباشرهم بالطعام وبطنه معصوب بالحجر حتى شبعوا فأكل صلى الله عليه وسلم..
وأشد شيء عليه أن يرى أهل فاقة وجوع لم يواسهم أحد من الناس، كما وقع له حين جاءه أهل مضر، فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ، فخطب الناس يحثهم على الصدقة فكان مما قال صلى الله عليه وسلم «تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ –حَتَّى قَالَ– وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» فتتابع الناس بالصدقة حتى كثرت، وسُدت حاجتهم، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم من الفرح.
ولم يكن تمعره صلى الله عليه وسلم بسبب جوعهم فالجوع بلاء قد أصابهم، ولكنه تمعر لعدم مواساة إخوانهم لهم، وغفلتهم عن حاجتهم، ولما واسوهم تهلل وجهه من الفرح.
إنها تربية على الشعور بحاجة المحتاجين، وإيقاظ لحس الإخوة بين المؤمنين، وتعويد على المواساة في المجاعات.
هذه التربية العملية طالت أهل بيته صلى الله عليه وسلم ، فكان يربيهم على إيثار غيرهم، والصبر على حاجتهم؛ ومن ذلك أن عليا وفاطمة احتاجا إلى خادم يحمل عنهما بعض ما يجدانه من مشقة العمل، فجاءا إليه، وكلماه صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عَلِيٌّ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ سَنَوْتُ حَتَّى اشْتَكَيْتُ صَدْرِي، وَقَالَتْ فَاطِمَةُ: قَدْ طَحَنْتُ حَتَّى مَجَلَتْ يَدَايَ، وَقَدْ جَاءَكَ اللَّهُ بِسَبْيٍ وَسَعَةٍ فَأَخْدِمْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ لَا أُعْطِيكُمَا وَأَدَعُ أَهْلَ الصُّفَّةِ تَطْوَى بُطُونُهُمْ، لَا أَجِدُ مَا أُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنِّي أَبِيعُهُمْ وَأُنْفِقُ عَلَيْهِمْ أَثْمَانَهُمْ» (رواه أحمد.)
لقد أثمرت هذه التربية جيلا مؤمنا صادقا، يقدم غيره على نفسه، ويؤثر غيره بطعامه، ويحس أنه مسئول عن غيره، ومن ذلك:
أنه لما غلا السَّمْنُ في عهد عمر رضي الله عنه اكتفى بالزيت؛ فَيُقَرْقِرُ بَطْنُهُ منه، فَيَقُولُ عمر: ((قَرْقِرْ مَا شِئْتَ، فَوَاللَّهِ، لَا تَأْكُلُ السَّمْنَ حَتَّى يَأْكُلَهُ النَّاسُ)).
ومرض ابن عمر فاشتهى عنبا فاشتري له، فسمع سائلا يسأل فقدمه على نفسه وهو مريض، ودفع إليه العنب.
وكان أويس القرني إذا أمسى تصدق بما في بيته من فضل الطعام والثياب، ثم يقول: اللهم من مات جوعاً فلا تؤاخذني به، ومن مات عرياناً فلا تؤاخذني به.
وَكَانَ بَعْضُهم يقول عِنْدَ كُلِّ أَكْلَةٍ: اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِحَقِّ الْجَائِعِينَ.
وفي ليلة شاتية تصدق محمد بن عبدوس المالكي بقيمة غلة بستانه كلها-وكانت مئة دينار ذهبي- وقال: ما نمت الليلة غمَّاً لفقراء أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
فأين هذه القلوب الحية، والمشاعر الفياضة تجاه الغير من حالنا اليوم، ونحن في شهر الصوم، ونحس بالجوع في النهار لنشبع في الليل بما لذ وطاب، وألوف من المسلمين في غزة يموتون من الجوع، والمجاعة تزحف على الحدود، فأين مواساتكم لإخوانكم في شهر المواساة؟! وتالله ما جعل الله تعالى الجوع في نهار الصوم إلا لنحس بهم، ونواسيهم في مصابهم، فلا حاجة لله تعالى في جوعنا، وقد قال تعالى في الحديث القدسي «يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي».
ألا وإن الله تعالى يستطعمكم الآن في غزة، فأطعموا إخوانكم تجدوا ذلك عند ربكم سبحانه وتعالى.
أيها المسلمون:
اعلموا أن في غزة مخمصة شديدة، وموتا ذريعا، بسبب الجدب والجوع.. لقد بلغت بهم المجاعة إلى حد أن ثلث أطفالهم مهدد بالموت جوعا، ومنهم نصف مليون طفل على شفير القبر، وتنقل الشاشات نزوح أرتال من البشر وهم يقطعون مئات الأميال على أقدامهم هربا من الجوع إلى مصير مجهول.
لقد نقلت الصور والشاشات شكل أرضهم وقد تشققت من الجفاف والجدب، وصور أطفال وقد قضوا من الجوع والمرض، وآخرين منهم هياكل عظمية ينازعون الموت، قد ضعفت أصواتهم من الجوع فلا يقدرون على البكاء ولا على الحركة.. صورهم تعبر عن حالهم حين عجزوا عن النطق بما في نفوسهم، ونقلت صور مواشيهم وأنعامهم وقد نفقت من الجوع.
ما أشد قسوة البشر وهم يشاهدون صور ذلك ثابتة ومتحركة! وتنقل إليهم قصصه ومآسيه فلا تتحرك قلوبهم.. كيف يهنئون بنوم؟ وكيف يتلذذون بطعام؟ لولا موت الإحساس وقسوة القلوب..
وتصيح امرأة منهم فتقول: نحن نموت جوعا، أين هو العالم الإسلامي؟! أرجوكم ساعدونا..
وذكر أحد من زارهم أن المرضى يتركون في العراء بانتظار الموت بلا أي رعاية صحية، ويموت في أحد المخيمات التي زارها الأطفال نتيجة الجوع، وسوء التغذية، وانتشار المرض.
ونحن يا عباد الله في شهر الإنفاق، وإطعام الطعام، وبذل الإحسان.. وكان رسولنا صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان، وكان أجود بالخير من الريح المرسلة، فتأسوا به في الجود، وضاعفوا جودكم في رمضان، ولا سيما أنه صادف هذا العام مسغبة شديدة في غزة، وقد خص الله تعالى الإطعام في المسغبة بالذكر فيما ينجي من العذاب {فَلَا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد:11-14].
وقد دخلت النار عجوز في هرة حبستها فلم تطعمها ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض، فكيف ببني آدم؟! وكيف بمسلم له حرمة وولاء وأخوة ونصرة؟!
فخافوا الله تعالى أن يسلب نعمكم، ويرفع أمنكم، إن أنتم تخاذلتم عن إطعام إخوانكم، وإغاثتهم بفضول أموالكم، واحتسبوا الأجر من الله تعالى في هذا الشهر الكريم، وكونوا كمن وصف الله تعالى بقوله {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:7-10].
وصلوا وسلموا على نبيكم…
________________________________________________
فريق محتوى طريق الإسلام
Source link