ونظراً إلى هذه الأهمية الكبيرة وانتهاجا لمنهج السلف في خدمتها والاعتناء بها ووصلاً للخطى بالخطى اهتمت الجامعة الفاروقية بهذه اللغة الشريفة منذ أول عهدها إلى يومنا هذا
الكاتب: أ. عبد اللطيف معتصم
أستاذ الحديث النبوي الشريف، ورئيس قسم التخصص في الأدب العربي، بالجامعة الفاروقية كراتشي (المقر الثاني)
المحامد الزكية لله رب العالمين، والصلوات العاطرة المعطرة على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فلا شك في أن للغة العربية مكانة كبيرة ومنزلة سامية وأهمية بالغة، لا سيما في فهم العلوم الإسلامية؛ لأن بناء الإسلام قائم على أساسين رئيسيين هما : القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، فالقرآن والسنة هما المصدران الأساسيان للشريعة الإسلامية وهما باللغة العربية، فالقرآن الكريم عربي، والسنة النبوية عربية، ولا يمكن فهم علومهما واستنباط أحكامهما واستخراج كنوزهما إلا باللغة العربية.
وقد بيَّن الله تعالى هذه الأهمية بأبلغ بيان ووضح هذه المكانة بأجمل توضيح فقال في القرآن المجيد والفرقان الحميد: {﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِي مُّبِينٍ ﴾} [الشُّعَرَاء : ۱۹۲ – ۱۹۵] وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أحبوا العرب لثلاث : لأني عربي، والقرآن عربي، ولسان أهل الجنة عربي».
وقد اهتم المسلمون باللغة العربية اهتماماً كبيرا وأولوها عناية بالغة في كل عصر من عصور التاريخ منذ بدء الإسلام إلى يومنا هذا، فقد روي عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه قال: “تعلموا العربية؛ فإنها من دينكم، وتعلموا الفرائض؛ فإنها من دينكم”. وروي عنه أيضا أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري – رضي الله عنهما – : “أما بعد، فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأَعْرِبُوا القرآن فإنه عربي”. وروي عن عبد الله بن عباس – رضي الله عنه – أنه قال : ” إذا خَفِي عليكم شيء من القرآن، فابتغوه في الشعر؛ فإنَّه ديوان العرب”. وروي عن الإمام الشافعي – رحمه الله تعالى – أنه قال: “علماء العربية جن الإنس، يبصرون ما لا يبصره غيرهم”. وقال أيضا: ” لا أسأل عن مسألة من مسائل الفقه، إلا أجبت عنها من قواعد النحو “. وقال أيضًا: “ما أردت بتعلم اللغة العربية إلا الاستعانة على الفقه “.
فللغة العربية مكانة عظيمة وأهمية كبيرة في فهم علوم القرآن والسنة، ولا يستطيع أحد أن يفهم القرآن والسنة فهما صحيحا سليماً إلا إذا كان ماهرا في علوم اللغة العربية، متمكنا من قواعدها وبلاغتها، عارفاً بأساليبها وأسرارها.
ونظراً إلى هذه الأهمية الكبيرة وانتهاجا لمنهج السلف في خدمتها والاعتناء بها ووصلاً للخطى بالخطى اهتمت الجامعة الفاروقية بهذه اللغة الشريفة منذ أول عهدها إلى يومنا هذا، وخطت خطوات عظيمة في سبيل خدمتها، وأسهمت إسهامات جادة في طريق نشرها وتعميمها في هذه البلاد، فكانت خدماتها مشتلمة على جوانب مختلفة ومجالات شتى وسنلخص في مقالتنا هذه بعضا من تلك الخدمات والجوانب فيما يلي:
1- إنشاء معهد اللغة العربية في الجامعة الفاروقية:
كانت اللغة العربية غريبة أجنبية في باكستان لا سيما في المدارس الإسلامية الأهلية، وكان العلماء لا يهتمون بها ولا يرون حاجة إليها، فكان خريج الجامعات الإسلامية يقضي ثمانية أعوام من عمره في المنهج النظامي الذي جميع كتبه باللغة العربية، لكنه بعد التخرج لا يقدر التكلم والمحادثة باللغة العربية لعدم الممارسة والتدريب عليها، حتى إن مشايخ العرب كانوا يستغربون من عدم قدرة كبار العلماء في شبه القارة الهندية على النطق والمحادثة باللغة العربية مع تضلعهم في العلوم الأخرى!!
ونظرا إلى هذا النقص الموجود والفراغ الملموس في المدارس الإسلامية وطلابها أسَّس فضيلة شيخنا العلامة الدكتور محمد عادل خان -رحمه الله تعالى- “معهد اللغة العربية” في الجامعة الفاروقية سنة ۱۹۸۸م، لتهيئة بيئة اللغة العربية في المدارس الإسلامية ونشرها في المجتمع المسلم.
ولم تكن -آنذاك- ظروف المدارس الإسلامية مناسبة لذيوع هذه اللغة وقبولها كلغة درس ومحادثة وكتابة..، ولكن الجهود الجبارة والمساعي المتواصلة من مسؤولي الجامعة لا سيما فضيلة الأستاذ الدكتور محمد عادل خان قد أثمرت، وازدهر المعهد في مدة يسيرة حتى بلغ إلى أوج الكمال.
ولا يزال هذا المعهد العلمي منذ ربع قرن تقريبا يلعب دورا فعّالاً في نشر علوم اللغة العربية والثقافة الإسلامية على كافة المستويات، وقد تخرج في معهدنا هذا رجال أكفياء وكتاب بارعون يحملون في قلوبهم حباً صادقاً للغة العربية وقامو بدور عظيم في خدمة هذه اللغة ونشرها، وأسسوا معاهد ومدارس عربية خالصة، وهكذا امتدت شبكة الإدارات العربية وانتشرت في جميع أنحاء البلاد طولا وعرضا.
2- إصدار مجلة (الفاروق) العربية الغراء:
لم تقتصر خدمات الجامعة الفاروقية على إنشاء المعهد لتعليم اللغة العربية في داخل أسوار الجامعة فقط، بل كان لها دور كبير وأثر إيجابي قوي في نشر اللغة العربية على صعيد المجتمع ومستوى الدولة، حيث أصدرت إلى جانب معهد اللغة العربية مجلةَ (الفاروق) العربية الغراء التي أسهمت إسهامات جادة في إحياء اللغة العربية ونشرها في المجتمع الباكستاني المسلم.
وهي -فيما أعلم- أول مجلة عربية رفعت لواء اللغة العربية في هذه البلاد وأسهمت إسهامات بارزة في إحيائها ونشرها في المجتمع، وقد قدّمت من خلال نشراتها المتتالية -المشتلة على ربع قرن تقريبا- مايمثِّل الأدب الإسلامي الجم والثقافة العربية الخالصة، وأبرزت إلى الصحافة العربية رجالاً أكفياءَ وكتاباً بارعينَ يحملون في قلوبهم حبا صادقا للُّغة العربية وآدابها، وقاموا بدورٍ عظيمٍ في خدمة هذه اللغة، وبثها في المجتمع.
3- إصدار مجلة (واحة الأطفال) للصغار والناشئين:
إن مرحلة الطفولة من أهم المراحل التي يمر بها الإنسان في حياته، فالإنسان في طفولته يكون مثل جوهرة نفيسة خالية من كل نقش وصورة، ويكون قابلا لكل ما ينقش عليه، وقابلا ليميل إلى كل جانب يمال به إليه، والأطفال هم قادة الغد وبناة المستقبل، فيحتاجون في طفولتهم إلى رعاية كاملة وتربية صحيحة؛ ليصبحوا في المستقبل ثروة صالحة للأمة، وعُدّة مُعَدّةً لخدمتها في شتى ميادين الحياة.
وإن أكبر وسيلة فطرية لتربية الطفل وتعميق القيم الدينية في مخيلته هي اللغة، واللغة العربية باعتبارها لغة القرآن والسنة أحق ما ينبغي أن تنال اهتمامَ الطفل المسلم منذ بواكير حياته؛ ليترسّخ حبُّها في قلبه منذ الصغر، وتختلط مفرداتها وتراكيبها بلحمه وعظمه، فيتعلمها في صغره بمهارة وإتقان، ليسهل عليه في مستقبله فهم معاني القرآن والسنة والتراث الديني العربي بروحه وفحواه مباشرةً دون أي وسيط أو مترجم.
ولم تكن في باكستان مجلة عربية للصغار والناشئين، فكانت الحاجة ماسة إلى مجلة عربية تربوية للصغار والناشئين، تربطهم باللغة العربية، وتثقفهم بالثقافة الإسلامية، وتعلمهم مبادئ الدين الإسلامي الحنيف، وعقائده السمحة وآدابه الرفيعة العالية.
فنظرا إلى هذه الأهمية الكبيرة والحاجة الشديدة، خطت الجامعة الفاروقية خطوة عظيمة مبتكرة في هذا المجال، وأصدرت مجلة عربية تربوية للصغار والناشئين باسم (واحة الأطفال).
وهذه المجلة هي أول مجلة عربية تربوية للأطفال والناشئين على مستوى باكستان، والهدف الأساسي من وراء إصدارها هو ربط الأطفال والناشئين بلغة القرآن والسنة، وترسيخ حبها في قلوبهم، وتربيتهم بالتربية الدينية الصحيحة وتنشئتهم على العقيدة الإسلامية الخالصة، وتعميق القيم الدينية والآداب الإسلامية في نفوسهم، كل ذلك بلغة عربية سهلة وأسلوب أدبي ميسر، يوافق أذواقهم ومستوياتهم، ويرتقي بآفاقهم الفكرية والعلمية، جزى الله القائمين عليها، ويرفقهم لكل ما فيه خير ونفع لأبنائنا الناشئة وأجيالنا الجديدة.
4- عقد الدورات التدريبية للغة العربية على مستوى باكستان:
إن الجامعة الفاروقية تمتاز من بين الجامعات الأخرى بخصائص كثيرة وميزات شتى، وإن أهم ما تمتاز به الجامعة الفاروقية عن شقيقاتها هو اهتمامها البالغ وتفكيرها الدائم عن اللغة وجهودها المستمرة في سبيل نشرها وتعزيزها، واستمرارا على خدمة اللغة العربية ومتابعة لأداء دورها الريادي تهتم الجامعة الفاروقية بعقد دورات تدريبية للعلماء والمتخرجين في عطلات شهر شعبان المعظم، استغلالا لفرصة الإجازات السنوية في تعلم اللغة العربية وتعليمها، حيث يشارك فيها جمع غفير وعدد وفير من العلماء والمتخرجين ومديري الجامعات الإسلامية، ويكون القصد من وراء عقد هذه الدورة هو أعطاء المشاركين فكرةَ إحياء اللغة العربية ونشرها في الأوساط العلمية، وتصقيل مواهبهم وتنمية قدراتهم في اللغة العربية، ليتمهورا في اللغة العربية مهاراتها الأربع (السماع، والتكلم، والقراءة، والكتابة) ثم يؤدوا دورا فعالا في تعليمها للأجيال الناشئة.
وقد كان لهذه الدورات دور فعال وأثر إيجابي في نشر اللغة العربية، حيث تدرب فيها كثير من أساتذة الجامعات الإسلامية، ثم ذهبوا إلى مدارسهم جامعاتهم وأسسوا فيها المعاهد العربية والبيئة العربية لطلابهم، مما أدى إلى انتشار اللغة العربية والمعاهد العربية في المدارس الإسلامية الأهلية.
فهذه نبذة يسيرة وملامح خاطفة وغيض من فيض خدمات الجامعة الفاروقية للغة العربية ودورها الفعال وجهودها الجبارة في سبيل نشرها وتعميمها، ولعلي لا أذيع سراً إذا قلت: إن الجامعة الفاروقية هي أول جامعة إسلامية أهلية -على مستوى جمهورية باكستان الإسلامية- اهتمت باللغة العربية وخطت في سبيل نشرها خطوات مهمة أخذت فيما بعد صورة حركة أدبية علمية قوية تجاه اللغة العربية، ثم تتابعت المدارس والجامعات الأهلية الأخرى وسارت على خطتها وانتهجت منهجها، بيد أن تلك المدارس والجامعات لها دورها وجهودها، إلا أن الجامعة الفاروقية هي سباقة الغايات في هذان الميدان.
وهذا إذا كان يدل على شيء فإنما يدل على أن الجامعة الفاروقية جامعة علمية راقية، ذات فكرة هادفة ودور فعال في إذاعة اللغة العربية وترويجها في بلاد الأعاجم، وأنها لم تلعب في ذلك دورا تقليديا، بل كانت بيدها القيادة والسيادة في جميع أدوارها…
والفضل في ذلك كله يرجع إلى فضيلة شيخنا العلامة الدكتور محمد عادل خان -رحمه الله تعالى-؛ لأنه هو الذي سعى سعيه الحثيث -بالأمس الغابر- في إنشاء معهد اللغة العربية بالجامعة الفاروقية، وعمل ليل نهار في تطوير منهجه ورفع مستواه باستجلاب الأساتذة الماهرين في اللغة العربية وتكوين البيئة الملائمة لذيوعها وانتشارها، وهو الذي بذل جهوده الجبارة ومساعيه المتواصلة في خدمة اللغة العربية ونشرها وترويجها على كافة الأصعدة والمستويات، ففتح المعاهد ووضع المناهج وأصدر المجلات، وعقد المؤتمرات وابتكر الأساليب، وأعد الرجال واستنهض الهمم لتعلم هذه اللغة وتعليمها ونشرها وترويجها، و بذل في تحقيق هذا الهدف كل مرتخص وغال، مما تسبب فيما بعد لقيام ثورة قوية تجاه اللغة العربية، وانتشرت الإدارات العربية والمعاهد الأدبية في جميع البلاد.
أسأل الله تعالى أن يتقبل هذه الجهود المبذولة من قبل شيخنا الدكتور محمد عادل خان -رحمه الله تعالى- ومن قبل مسؤولي الجامعة في خدمة اللغة العربية، ويجزل مثوبتهم، ويوفقهم للمزيد من التقدم والازدهار في هذا المجال، إنه سميع مجيب، ولا حولا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
Source link