العبادة وطموحات الروح – طريق الإسلام

فالغاية التي خُلِق الإنسان لأجلها هي العبادة، وأسْعَدُ الناس وأعقلُهم مَن قام بهذه الغاية حقَّ القيام، وفهِمها بمعناها الشمولي العام، وانشغل بها مدى الليالي والأيام.

أما بعد أيها المسلمون:

فإنَّ مَن ينظر اليوم إلى الحياة المادية المعاصرة يَجِدُ فيها ما يَشْغَل بالدنيا ويُنسي الآخرة، ويُسْعِد الأبدان ويُريحها، ويُشقي الروح ويُعَنِّيها، ويُلبِّي حاجاتِ الشهوات والأهواء، ويمنع عن القلب حاجاتِه وتطلعاته المشرقة.

 

فقد كثرت مُلْهِيات الحياة ومشكلاتها، وتعددت الصوارف عن الآخرة والاستعداد لها، وتفاقمت مطالبُ العيش الدنيوي؛ فانصرف لها كثير من الوقت والجهد والتفكير من الناس.

 

وسيطرت الفتن والاضطرابات الواقعية على مساحة كبيرة في تفكير العقول وأعمالها، وشغلتها بمصالح الأجساد عن مصالح الْمَعَادِ، وأعْمَتْها عن الطريق الصحيح إلى الله بما تُلقي في سبيل سيرها من ظلام الشُّبُهات، وضلال الشهوات، وتزيين السيئات، وتشويه أهل الطاعات، وتلميع صورة دعاة جهنم وتسليط أضواء المدح والإجلال عليهم.

 

وأظلمت كثير من الأفهام بسبب الجهل أو الغفلة، حتى ظنَّت أن العبادة مقصورة على الصلوات والصوم والحج، وبعض العبادات الظاهرة، فصارت تؤديها – إن أدَّتها – أداءً جافًّا فاقدًا روحَ العبادة، وآثارَها الحسنة على النفس والواقع.

 

أيها المؤمنون، إن للروح أشواقًا لا تنطفئ إلا على نهر العبادات، وجفافًا لا تزول قساوته إلا تحت سحابة الطاعات، وظمأً لا يخبو لهيبه إلا بالانشغال الكبير بغاية الغايات.

 

فالغاية التي خُلِق الإنسان لأجلها هي العبادة؛ قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

 

وأسْعَدُ الناس وأعقلُهم مَن قام بهذه الغاية حقَّ القيام، وفهِمها بمعناها الشمولي العام، وانشغل بها مدى الليالي والأيام، فمن منع روحَه العملَ لهذه الغاية، أو قصَّر كثيرًا فيها، فقد ظلمها وأشقاها؛ فطموحها أن تظل مُحَلِّقة في سماء العبادات.

لا تَحْبِسَنَّ طموح الروح في جَدَثٍ   ***   فإنها إن تَطِرْ في أفْقِها جَذْلَــــــــــــى 

إن كنت تحبسها فالروح تعلنهــــــا   ***   يا صاحبي راحتي في المنزل الأعلى 

 

غير أن كثيرًا من الناس – أيها الفضلاء – عن العبادة بشموليتها غافلون، وعن الانصراف إليها بعيدون؛ فلذلك قلَّت في عصرنا العبادة والعباد، والأتقياء والزُّهَّاد مقارنة بالأزمنة المشرقة الماضية، بل قد صار أهل النُّسك والزهد مخلوقاتٍ غريبةَ في عالم يعِجُّ باللهو والغفلة والاغترار.

 

وأضْحَتِ المعاصي أغلبَ في الناس من الطاعات، والعملُ للدنيا هو شغلَ الناس الشاغل في ليلِهم ونهارهم، وانتشر الفساد المتنوع في المجتمعات؛ قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، إلا بقايا من الصالحين المؤمنين، وأولياء الله المتقين.

 

عباد الله، إذا أرَدْنَا جزيلَ الأجر والثواب، والفوز والنجاة يوم الحساب، وإذا شئنا لذةَ الحياة ونعيمها، وصلاحها واستقامتها، وسلامتها وبركتها، والوقاية من الشيطان وتسلُّط جندِهِ، والتوفيق في جوانب الحياة المختلفة، فعلينا الإقبال الكبير على العبادة، وطول العكوف في محاريب الطاعة.

 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقول: يا بنَ آدم، تفرَّغ لعبادتي، أَمْلَأْ صدرَك غنًى، وأسُدَّ فَقْرَك، وإن لم تفعل، ملأتُ صدرك شغلًا، ولم أسُدَّ فقرك» [2].

 

إننا – معشر المسلمين – بحاجة كبيرة إلى الإكثار من العبادة، والمسارعة إلى الطاعة، صغارًا وكبارًا، رجالًا ونساء، مشغولين وفارغين؛ لأن الله تعالى أمَرَنا بها على وجه الدوام وعلى جميع الأحوال؛ قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]، وقال: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7، 8].

 

ونحن بحاجة إلى كثرة العبادة من أجل إصلاح النفس وتزكيتها وصقْلِها، وتطهيرها من أدناسها وأدْرَانها؛ فالنفس الإنسانية أمَّارة بالسوء، مليئة بالأخلاق الرَّدِيَّة، والأهواء الْمُضِلَّة، والنِّيَّات الْمُعْوَجَّة، فإذا قادها الإنسان وطهَّرها في منابع العبادة، وأطال إبقاءها فيها، زَكَتْ وطَهُرت، واستقامت واستراحت؛ قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10].

 

ونحن بحاجة إلى كثرة العبادة تحصيلًا للثواب الذي هو سبب دخول الجنة والنجاة من النار، فكم يعمل الإنسان من المعاصي، ويرتكب من المخالفات التي إذا لم يكن لدى صاحبها رصيدٌ حسناتيٌّ كبير، فقد تُوبِقه معاصيه في الجحيم، وربما يحتاج المرء يوم القيامة حسنة واحدة ولا يجدها!

 

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما يُحاسَب الناس به يوم القيامة من أعمالهم: الصلاة، قال: يقول ربنا جل وعز لملائكته وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي، أتمَّها أم نقصها؟ فإن كانت تامةً كُتبت له تامةً، وإن كان انتقص منها شيئًا، قال: انظروا هل لعبدي من تطوُّعٍ؟ فإن كان له تطوع، قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوُّعِهِ، ثم تُؤخَذ الأعمال على ذاكم» [3].

 

ونحن بحاجة إلى كثرة العبادة لإشغال النفوس بما ينفعها عما يضرها؛ لأن النفس إذا لم تشغل بالحق، شغلت صاحبها بالباطل، والفراغ سبب لضياع النفوس، وانصرافها إلى العصيان والفساد:

إن الشباب والفراغَ والجِدَةَ   ***   مَفْسَدَةٌ للمرء أي مَفْسَدَهْ 

 

والفارغون في الناس هم أكثرهم شقاءً ومشكلات، وإيذاء وعدوانًا.

 

ونحن بحاجة كبيرة إلى الإقبال على العبادة؛ لأن حَبْسَ النفس على الطاعات، وصَبْغَها بها يمنحها شروق الفهم الإنساني عن الحياة والأحياء، فتصبح حينئذٍ التصورات صحيحةً نقية، والأعمال مستقيمة زكية.

 

ونحن بحاجة إلى الإقبال الجماعي على العبادة؛ حتى تحِلَّ في واقعنا البركاتُ، وتَنْزاح عنه المصائب والمكروهات: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96].

 

فالمجتمع لا تصلح أحواله إلا بكثرة الطاعة والمطيعين، فإذا قلَّتِ الطاعة والمطيعون، وكثُر الفساد والمفسدون، نزلت الكوارث، وحلَّتِ المصائب.

 

أيها الإخوة الفضلاء، بابُ العبادة بابٌ واسع، لكن سنذكر في هذا المقام أمثلة منها، بها استقامة النفوس والعلاقات، وصلاح الدنيا والآخرة لمن قام بها على حسب مراد الله.

 

فمن العبادات: الصلاة؛ فالصلاة صِلَةٌ بين العبد وربِّه، وقرةُ عينٍ، وراحة بال، فكم لهذه العبادة من آثار حسنة على الإنسان إذا أقامها وأدَّاها بشروطها وواجباتها، وأركانها ومستحبَّاتها، في أوقاتها، وفي المساجد، ولا سيما إذا كانت مصحوبة بالخشوع والإتقان، واستشعار مُصلِّيها عِظَمَ الوقوف بين يدي الْمَلِكِ الدَّيَّان.

 

قال وكيع: “كان الأعمش قريبًا من سبعين سنة لم تَفُتْه التكبيرة الأولى، واختلفت إليه قريبًا من سنتين، فما رأيته يقضي ركعة”[4].

 

وكم من الآثار الحسنة على النفس والروح جرَّاء المحافظة على نوافل الصلاة القبلية للفريضة والبعدية، وصلوات الضحى والوِتْرِ وقيام الليل.

 

قال ثابت البناني رحمه الله: “ما شيءٌ أجِده في قلبي ألذَّ عندي من قيام الليل“، وقال سفيان رحمه الله: “إذا جاء الليل فرِحتُ، وإذا جاء النهار حزِنت”، وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: “لَأهْلُ الطاعة بليلهم ألذُّ من أهل اللهو بلهوِهم، ولولا الليل ما أحببتُ البقاء في الدنيا”[5].

 

الصيام عبادة من العبادات العظيمة التي تؤثر في النفوس صلاحًا ونقاء وسعادة، إذا صام الصائم صيامًا شرعيًّا، وقام بمقصود الصيام الأعظم، وصامت مع بطنه جميع جوارحه؛ ولذلك كتب الله على هذه الأمة صيام شهر رمضان، وشرع صيام أيام أخرى استحبابًا طوال العام؛ لأن الصيام مؤدِّبٌ ومربٍّ للنفس، وباعث لها على التقوى، ولأجل ذلك سارع إليه العُبَّاد، وواظبوا عليه.

 

قال ابن أبي عدي: “صام داود الطائي أربعين سنة، ما علِم به أهله، وكان خزَّازًا، وكان يحمل غذاءه معه ويتصدق به في الطريق، ويرجع إلى أهله يُفطِر عشاء لا يعلمون أنه صائم”[6].

 

الذِّكْرُ عبادة من العبادات الْمُصْلِحة للنفوس، وهي عبادة سهلة قيامًا وقعودًا، في البيت والسوق والعمل، وغير ذلك.

 

هذه العبادة – معشر المسلمين – مَشْغَلة عن ذكر الناس، وانشغال برب الناس؛ تهليلًا وتكبيرًا، وتحميدًا وتسبيحًا، واستغفارًا وحسبلة وحوقلة.

 

فكم لها من الآثار الطيبة على نفس الذاكر، إذا أكْثَرَ منها ليلًا ونهارًا، وكان حاضرَ القلب والعقل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].

 

وما أحسن أن يكون لسانك – أيها المسلم – رَطْبًا بذِكْرِ ربِّك، وأن تكون مستحضرًا للأذكار المشروعة في الأزمنة والأمكنة والأحوال، فتقولها فيها، فمتى قُلْتَها، كنت من الذاكرين الله كثيرًا، الذين وُعِدوا بالمغفرة والأجر العظيم.

 

عن عبدالله بن بسر رضي الله عنه قال: قال أعرابيٌّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثُرت عليَّ، فأخبرني بشيء منها أتشبَّثُ به، قال: «لا يزال لسانك رَطْبًا من ذكر الله عز وجل» [7].

 

أيها الإخوة الكرام، ومن العبادات العظيمة عبادة الدعاء؛ فباب الدعاء بابُ خيرٍ يُصلِح أمر الدنيا والآخرة، إنه مِعْرَاجٌ كريم تصعَد عليها دعوات الرغبة والرهبة إلى الربِّ السميع القريب، الكريم الغني، القادر المجيب.

 

فكم يعود الداعي منه براحةٍ واطمئنان، وثقةٍ وأمان، لا سيما إذا دعا بقلب خاشع وذهن حاضر، وأتى بآداب الدعاء وشروطه، فبالدعاء تتعلق القلوب بخالقها، ويفتح من الحياة مغالقها، ويثبت على طريق الداعي إشاراتٍ ضوئية من التوفيق والإعانة، ويبُثُّ فيها حُرَّاسًا من الثقة واليقين الحسن برب العالمين: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].

 

وقراءة القرآن أيضًا من العبادات المصلحة للنفوس؛ فهي طاعة تُدْخِلُ القارئ المتدبِّر روضةً من السعادة واللذة، وواحة خضراءَ مُفْعَمَةً بالتربية والتعليم، والتصبير والتثبيت، فكيف ستكون نفس التالي المتدبِّر إذا كان يُكْثِرُ من قراءة القرآن في ليله ونهاره، ولا سيما إذا أدرك مقاصد الآيات ومعانيها؟

 

كم من الأثر الجميل لتدفُّق هذا السلسبيل على الروح لدى من يختم في يومه ختمة، أو يقرأ عشرين جزءًا أو عشرة أو خمسة؟

 

أي قلب سيكون ذلك القلب الذي يُسقَى كل يوم بأجزاء من القرآن، تُطفِئ أُوَارَ الروح وشقاءها، وتُذِيب قساوة النفس وعناءها، وتفتح للقلوب أبوابًا من المعرفة والتأثير عليها؟

 

طُوبَى لأولئك العُبَّاد الذين عاشوا مع القرآن، وقلما يفارقونه ليلًا ونهارًا، ويا سعادتهم يوم يبادرهم الوفاء بوفائه لهم يوم رحيلهم عن الدنيا؛ قال أبو بكر العطوي: “كنت عند الجنيد حين مات، فختم القرآن، ثم ابتدأ في ختمة أخرى، فقرأ من البقرة سبعين آية، ثم مات”[8].

 

إنَّ استماع المواعظ أو قراءتها – معشر الكرام – والقلب مفتوح، والنفس مستعدة للتأثُّر، والذهن حاضر – عبادة جليلة، لها أثرها الكريم على صلاح القلب والجوارح.

 

فكم في الحياة من صوارفَ عن شواطئ الحق والهدى، ودواعٍ إلى الغرق في أمواج اللهو والرَّدَى، فتأتي تلك المواعظ النافعة قواربَ إنقاذٍ، تنتشل الروح من أسباب هلاكها!

 

عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: ((صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ذات يوم، ثم أقبل علينا بوجهه، فوَعَظَنا موعظةً بليغةً، وجِلت منها القلوب، وذرَفت منها العيون))[9].

 

قال ابن رجب: “كانت مجالس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه عامَّتُها مجالس تذكير بالله، وترغيب وترهيب؛ إما بتلاوة القرآن، أو بما آتاه الله من الحكمة والموعظة الحسنة، وتعليم ما ينفع في الدين، كما أمره الله تعالى في كتابه أن يذكُرَ ويَعِظَ ويقُصَّ”[10].

 

إن المسلم اليومَ بحاجة كبيرة إلى أوقاتٍ يُسلِم نفسه فيها إلى موعظة مرئية أو مسموعة أو مقروءة، ترغِّبه أو ترهِّبه، مهما كانت مكانته الدنيوية، وحاله العبادية، ومنزلته العلمية، فالعلم وحده لا يكفي في زكاء النفس وصلاحها، ما لم يُتَوَّج رَبُّه بسلوك روحيٍّ مستقيم؛ ليجتمع به العلم والعمل.

 

قال ذو النون المصري: “كان الرجل من أهل العلم يزداد بعلمه بغضًا للدنيا، وتركًا لها”[11].

 

فالإنسان غير غنيٍّ عن رقائق القلوب، ومفاتيحِ إصلاح النفوس، وعواملِ شَحْذِ الهمم إلى العمل للدار الآخرة.

 

أيها الأحبة الكرام، الإحسان إلى الناس وبذل المعروف لهم، وإدخال السرور عليهم، وقضاء حاجاتهم، وتفريج كروبهم، والسعي في إبعاد الأذى عنهم – هذه عبادة من أجَلِّ العبادات، وقُربة من أعظم القُرُبات التي تُصلِح النفس وتُسعدها، وتدفع عنها الشر وتنجدها، وتُحبِّبها إلى النفوس وتُعلي شأنها، وتُكسبها الإجلال ولسانَ الصدق في الحياة وبعدها.

 

فقد قالت خديجة رضي الله عنها يومَ رَجَعَ رسول الله من غار حراءٍ يرجُف فؤاده فَرَقًا: ((كلا، أبْشِرْ فوالله لا يُخزيك الله أبدًا؛ فوالله إنك لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصدُق الحديث، وتَحمِل الكَلَّ، وتَكسِب المعدوم، وتَقْرِي الضيف، وتُعين على نوائب الحق))[12].

قال الشاعر:

لا تحقِرَنَّ من المعروف أصغره   ***   أحْسِنْ فعاقبةُ الإحسان حُسناه 

وكل أمر له لا بد عاقبـــــــــــة   ***   وخيرُ أمرِك ما أحمدت عُقبــــاه 

 

فإن المسارعة إلى تلك العبادات الماضية ونحوها لا تكفي في القبول والنجاة، والتأثير الحسن على باطن الإنسان وظاهره، إلا إذا كان العمل لتلك الصالحات خالصًا لوجه الله العظيم، وموافقًا لهَدْيِ رسوله الكريم.

 

وتمام التأثير وحصول جميل الأثر بتمام إحسان تلك العبادات وإتقانها، والمداومة عليها، والإكثار منها.

 

عن شداد بن أوس رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اكْتَنَزَ الناسُ الدنانيرَ والدراهمَ، فاكتنزْ هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثباتَ في الأمر، والعزيمة على الرُّشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لِما تعلم، إنك أنت علَّام الغيوب» [13].

 

عباد الله، فبعد هذا، تعالَوا قارنوا بين رجلين في صلاح النفس والعلاقات في هذه الحياة؛ قارنوا بين رجلين: رجلٍ مقيم للصلوات الخمس بآدابها، ومحافظ على نوافلها في ليله ونهاره، ورجل لا يصلي أو يصلي بعضًا ويَدَعُ بعضًا، أو يصلي الفرائض ويدع النوافل، كيف ستكون نفس هذا وصلاحها، ونفس ذاك الآخر؟

 

وقارنوا بين رجلين: رجل من أهل الذكر، المداومين عليه؛ ذكر المناسبات، والذكر المطلق، ورجل آخر لا يذكر الله إلا قليلًا، ولسانه مشغول بذكر الناس عن ذكر رب الناس، كيف ستكون الحالة العبادية لهذا، وكيف ستكون لذاك؟

 

وقارنوا بين رجلين: رجل كثير الضَّرَاعة والدعاء، ممدود الكفِّ إلى ربه في السراء والضراء، لا يفتر عن الدعاء داخل صلاته وخارجها، ورجل آخر مُعرِضٍ عن دعاء ربه، أو لا يدعو إلا قليلًا، أو لا يدعو إلا عند حاجة دنيوية، كيف سيكون قلب هذا وواقعه، وقلب ذاك وواقعه؟

 

وقارنوا بين رجلين: رجل عاكف على تلاوة ربه، متدبِّر لِما يقرؤه، عامل بما يدعوه إليه كلام موالاه، ورجل آخر لا يقرأ القرآن، أو لا يقرأ إلا في رمضان، أو يقرأ بدون تأمُّل ولا عمل، كأنما يقرأ للقراءة فقط، فهل يستوي الرجلان في ميزان التقوى، ويلتقيان في حسن العمل؟

 

وقارنوا بين رجلين: رجل يستمع العِظات، فيُتْبِعها بالإقبال على الصالحات، والكف عن السيئات، ورجل آخر لا يستمع موعظة، ولا يقرأ عِبرة، بل هو مشغول باستماع اللهو والكلام الفارغ عن الهدى والصلاح، فهل يستوي قلب هذا وقلب ذاك، وهل يتفق عمل هذا وعمل ذاك؟

 

وقارنوا بين رجلين: رجل محسن للناس بقوله أو بفعله بقدر طاقته، وهو حريص على إيصال الخير للناس ما أمكنه ذلك، وسيرته بين الناس عَطِرة، وبينه وبينهم جُسُور من الثقة والمحبة، ورجل آخر مؤذٍ للناس حاضرًا وغائبًا، يسعى في شقائهم وإدخال المضرة عليهم، وبينه وبينهم حبال وثيقة من الكراهية وتدهور العلاقات، فهل يستوي هذا وهذا؟

 

{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فاطر: 19 – 22].

 

فيا أيها المسلمون، الجِدَّ الجِدَّ في الإقبال على العبادة الخالصة؛ إكثارًا وإتقانًا ومداومة، ولا يُلْهِيَنَّكم عنها زهدٌ فيها، وفتور عنها، وانصراف إلى غيرها، فالزمان يمضي ولا يعود، وما يُستطاع اليوم منها قد لا يُستطاع غدًا، فاغتموا زمن الْمُهْلة، وفرصة القدرة، وغنيمة العمر القصير؛ فإن الآجال خطَّافة، والْمَنِيَّةَ مترصِّدة، والآمال لا تُدرَك دائمًا.

اغتنم في الفراغ فضل ركــوع   ***   فعسى أن يكون موتك بَغْتَهْ 

كم صحيح قد مات قبل سقيمٍ   ***   ذهبت نفسه النَّفِيسة فَلْتَــهْ[14] 

 

نسأل الله أن يوفِّقنا للمسارعة إلى مراضيه في كل آنٍ، وأن يجعلنا من عباده الصالحين في كل مكان.

 

هذا، وصلوا وسلِّموا على خير الورى.

 


[1] أُلقيت في مسجد الشوكاني في: 19/ 9/ 1445هـ، 29/ 3/ 2024م.

[2] رواه أحمد، وابن ماجه، وهو صحيح.

[3] رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وهو صحيح.

[4] المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (8/ 113).

[5] لطائف المعارف، لابن رجب (ص: 43).

[6] صفة الصفوة (2/ 78).

[7] رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وهو صحيح.

[8] مدارج السالكين، لابن القيم (3/ 121).

[9] رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وهو صحيح.

[10] لطائف المعارف، لابن رجب (ص: 15).

[11] المدخل لابن الحاج (2/ 126).

[12] متفق عليه.

[13] رواه ابن حبان، والبيهقي، وهو صحيح لغيره.

[14] التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول (ص: 317).

___________________________________________________________
الكاتب: عبدالله بن عبده نعمان العواضي


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

خطر الإلحاد (2) – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة السفر إلى بلاد الكفار للدراسة أو غيرها دون التقيد بالضوابط الشرعية -القراءة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *