النقد (أَمْرٌ بمعروف، أو نهيٌ عن منكر) غرضه الإصلاح والارتقاء بالمجموع، وما كان غرضه الإصلاح قد يؤلم، لكنه لا يهدِم، ولهذا جاءتْ به الشرائع وشدَّدتْ على ضرورته
النقد (أَمْرٌ بمعروف، أو نهيٌ عن منكر) غرضه الإصلاح والارتقاء بالمجموع، وما كان غرضه الإصلاح قد يؤلم، لكنه لا يهدِم، ولهذا جاءتْ به الشرائع وشدَّدتْ على ضرورته، وضبطتْه بضوابط شرعية، تحفظ له حيويته، وتمدُّه بالاستمراريَّة، مِن جهة، ومن جهة أخرى تحفظ له نصاعته؛ فلا تشوبه شائبة حقْد، ولا يُكَدِّره دخان هوًى.
فالنَّقْد على هذا رسالة من «رسائل الإصلاح»، وليس ساحةً للانتقام، أو ميداناً لإخراج ما قد يكون بين الناقد وبين الآخرين مِن أحقاد.
يقولُ الْإِمَامُ أبو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ – رحمه الله -: «كلُّ مَنْ لم يَتَكَلَّم في هذا الشَّأْنِ عَلَى الدِّيانةِ؛ فإِنَّما يعطبُ[1] نفسَهُ، كلُّ مَنْ كَانَ بينه وبين إنسان حقدٌ أَوْ بلاءٌ يجوز أن يذكره. كَانَ الثَّوْرِيُّ، ومَالِك يَتَكَلَّمُون في الشيوخ عَلَى الدِّين؛ فنفذ قولهم، ومَن لم يَتَكَلَّم فيهم عَلَى الدِّيَانَة[2] يرجع الأمر عَلَيْه»[3].
وقَالَ الْإِمَامُ الْخَلِيلِيُّ – رحمه الله -: «ويحتاجُ في هذا الأمر إِلَى الدِّيَانَةِ»[4].
وقَالَ الْإِمَامُ الْآجُرِيُّ: في ذِكْرِ صِفَةِ الْعَالِمِ في طَلَبِ الْعِلْم: «فَطَلَبَ الْعِلْمَ؛ لينفي عن نَفْسه الْجَهْل، وَلْيَعْبِدِ الله كما أَمَرَهُ، لَيْس كما تهوى نَفْسُهُ، فَكَانَ هذا مُرَادُهُ في السَّعْي في طَلَب الْعِلْم، مُعْتَقِداً الْإِخْلَاص في سَعْيِهِ»[5].
وقَالَ الْإِمَامُ حَمَّادُ بن زَيْد – رَحِمَهُ اللهُ -: «كَلَّمْنَا شُعْبَةَ أَنَا وعَبَّادُ بنُ عَبَّاد وجَرِيرُ بن حَازِم في رَجُل، قُلْنَا: لو كَفَفْتَ عَنْهُ؟ قال: فَكَأَنَّهُ لَانَ وأَجَابَنَا. قال: فَذَهَبْتُ يَوْماً أُرِيدُ الْجُمْعَةَ فَإِذَا شُعْبَة يُنَادِيني من خَلْفِي، فقال: ذاك الَّــذِي قُلْتُــم لــي فيــه لا أراه يَسَعُنِي»[6].
وَقَدْ سُمِّيَ الرَّجُل المذكور في رواية أُخْرَى، عن حَمَّاد بن زَيْد قال: «أَتَيْتُ أَنَا وعَبَّاد بن عَبَّاد إِلَى شُعْبَة بن الْحَجَّاج فَسَأَلْنَاهُ أَنْ يَكُفَّ عَنْ أَبَان بن أبي عَيَّاش[7]، ويسكت عَنْهُ، فَلَمَّا كَانَ من الْغَد خَرَجْنَا إِلَى مسجد الْجَامِع، فَبَصُر بنا، فنادانا، فقال: يا أبا مُعَاوِيَة![8] نظرتُ فيما كَلَّمْتُمُونِي فوجدتُ لا يَسَعُنِي السكوت. قال حَمَّاد: وَكَانَ شُعْبَة يَتَكَلَّم في هذا حِسْبَةً»[9].
ويؤكد هذا قول شُعْبَة في بعض روايات القصة عِنْدَ العقيلي في «الضُّعَفَاء»: «لا يحل الكف عَنْهُ؛ لأَنَّ الأمرَ دِين»، وفي رواية لابن حبان في «المجروحين»: قال شُعْبَة: «إِنَّك سَأَلْتَني أَنْ أَكُفَّ عن أَبَان، وإِنَّه لا يحل الكف عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ يَكْذِب عَلَى رَسُول الله – صلى الله عليه وسلم -».
فظهرَ مِن ذَلِكَ أن شُعْبَة: إِنَّمَا كَانَ يَتَكَلَّم في رواة الْأَحَادِيث حِسْبَةً للهِ – عز وجل – حَتَّى لا يُنْسَب الْوَهْم والْكَذِب والْخَلَل إِلَى شريعةِ الله، أَوْ ينتشرَ الْكَذِب عَلَى رَسُوله – صلى الله عليه وسلم -، وأَنَّ بيانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَات الدِّين التي لا بد مِنْها، صيانةً للسُّنةِ.
قَالَ ابنُ رَجَب الْحَنْبَلِيُّ – رَحِمَهُ اللهُ -: «ولهذا كَانَ شُعْبَة يقول: تعالَوا حَتَّى نَغْتَاب في الله سَاعَة؛ (يَعْنِي: نذكر الْجَرْح والتَّعْدِيل). وذكرَ ابنُ الـْمُبَارَك رجلاً، فقال: يَكْذِب. فقال له رجلٌ: يا أبا عَبْد الرَّحْمَن! تغتاب؟ قال: اسكت! إِذَا لم نُبَيِّن؛ كَيْفَ يُعْرَف الْحَقُّ مِن الْبَاطِل؟ وكذا رُوِيَ عن ابن عُلَيَّة[10]؛ أنه قال في الْجَرْح: إنَّ هذا أمانة، لَيْس بغِيبَة»[11].
قالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ – رَحِمَهُ اللهُ -: «وَقَدْ أخبر النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – بأن في أمته ممن يجيء بعده كذابين، فحذَّر مِنْهُم، ونهى عن قبول رواياتهم، وأَعْلَمَنَا أَنَّ الْكَذِبَ عَلَيْه لَيْس كالْكَذِب عَلَى غيره، فوجبَ بذلك النَّظَر في أحوال المحدِّثين، والتفتيش عن أُمُور الناقلِين، احتياطاً للدين، وحفاظاً للشريعة من تلبيس الملحدين»[12].
وأطالَ الْخَطِيْب الْبَغْدَادِيّ – رحمه الله – الاستدلال لهذا المبحث بالْأَحَادِيثِ والآثار، وأَبَانَ – رحمه الله – الفرقَ بين الغِيبة المحرَّمة شرعاً، وبين الْجَرْح والتَّعْدِيل اللازم لحفظ الدِّيَانَة، وبيان الثِّقَة من الضعيف، والصادق من الْكَاذِب، وأن الغيبة: «ذِكْر الرَّجُل عيوب أخيه؛ يقصد بها الْوَضْع مِنْهُ، والتَّنَقُّص له، والإِزْرَاء به، فيما لا يعود إِلَى حُكْم النَّصِيْحَة، وإيجاب الدِّيَانَة؛ مِن التَّحْذِيرِ عَنِ ائْتِمَانِ الْخَائِن، وقبولِ خبرِ الْفَاسِقِ، واسْتِمَاعِ شهادةِ الْكَاذِبِ»[13].
فظهر مِن هذا؛ أَنَّ الْكَلامَ في الرُّوَاة جرحاً وتعديلاً مِنَ الْوَاجِبَاتِ الشَّرْعِيَّة لحفظ الشَّرِيعَة، ومِن الأمرِ بالْمَعْرُوف والنَّهْي عن الْمُنْكَر، حِسْبَةً للهِ – تعالى – ودفاعاً عن دينه.
ويؤكِّدُ هذا: قَوْلُ الإِمَامِ عَبْدِ الرَّحْمَن بن مَهْدِيّ – رَحِمَهُ اللهُ -: «كَانَ شُعْبَة يَتَكَلَّم في هذا حِسْبَةً»[14].
وقَالَ أَحْمَدُ بن سنان الواسطي: «قُلْتُ لعبد الرَّحْمَن بن مَهْدِيّ: لِمَ تَرَكَت حَدِيث حَكِيم بن جُبَير؟ فقال: حَدَّثَنِي يَحْيَى الْقَطَّان، فقال: سَأَلْتُ شُعْبَة عن حَدِيثٍ من حَدِيث حَكِيم بن جبير، فقال: أخاف النَّار». فَعَلَّقَ الإِمَام ابنُ أَبِــي حَــاتِم – رحمهما الله – عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ إيراد القصــة، فقـال: «فَقَد دَلَّ أَنَّ كلامَ شُعْبَة في الرِّجَال حِسْبَةً يَتَدَيَّن به، وَأَنَّ صورةَ حَكِيمِ بنِ جُبَيْر عنده صورةَ مَنْ لا يَسَع قبول خَبَرِه ولا حَمْل الْعِلْم عَنْهُ؛ فَيُلْحَقُ برَسُول الله – صلى الله عليه وسلم – ما لم يَقُلْه»[15].
ولهذا كَانَ الشَّافِعِيُّ – رحمه الله – يقــول: «لولا شُعْبَــة ما عُرِفَ الْحَدِيث بالعراق، كَانَ يجــيء إِلَـى الرَّجــُل، فيقــول: لا تُحَدِّث! وإلَّا اسْتَعْدَيْتُ عَلَيْكَ السُّلْطَان».
وقال وَكِيع: «إِنِّي لأَرْجو أنْ يرفعَ اللهُ لشُعْبَة دَرَجَات في الْجَنَّة بِذَبِّهِ عَنْ رَسُولِ الله – صلى الله عليه وسلم -»[16].
وقَالَ الْإِمَامُ يَزِيد بن هَارُون (ت 206) – رَحِمَهُ اللهُ -: «لولا أَنَّ شُعْبَةَ أَرادَ اللهَ – عَزَّ وَجَلَّ – ما ارْتَفَعَ هكذا». قال: ابنُ أبي حاتم: «يَعْنِي: بكلامِهِ في رُوَاةِ الْعِلْم»[17].
فالنقد للرجال أو لغيرهم دِينٌ، يتقيَّد فيه الناقد بقيود الدين، ويتعلَّق بأهداب النصوص، وليس مِن حقِّه ولا يسعه أن يتجاوز الشريعة؛ فيضبط لنفسه ضوابط خاصة، أو يسلك سُبُلًا مخترَعة مِن لدُنه، يتوصَّل بها إلى إلحاق الأذى بالآخرين تحت مُسمَّى النقد، أو يتقيَّأ حِقْدَه على آخر ويسميه غَيْرةً على الشريعة؛ إِذِ الشريعة في غِنًى عن الغَيْرَةِ عليها بإخراج الضغائن والأحقاد، أو الدفاع عنها بذِكْر المثالب والعيوب الخارجة عن ميدان النَّقْدِ ومطلوبه.
والنقد ليس عملًا منفصلًا عن الشريعة، وإنما هو عملٌ يسير وَفْقَ رؤيتها وضوابطها التي حدَّدَتها له، لا يخرج عنها، ولا يسعه الخروج عن حُكْم الشريعة، وإلا صار عملًا مُجَرَّماً شرعاً، تسري عليه نصوص التجريم الشرعية حسْب درجة الجُرْم المتوفِّر فيه؛ فينال عقابه حسْب إثمه وما اقترفه، ويخرج بهذا عن صراط الإصلاح إلى ساحة التجريم، وشتَّان بين الأمرين.
وبناءً عليه يلزم الناقدَ أن يضبط نفسه وما يصدر عنه بضابط الشرع لا غير، فلا مجال للهوى أو الضغائن والأحقاد تحت مُسمَّى النقد.
وقد ركب بعضُهم قطار الحقْد والهوى، في رسوم الناقد العدل، فما لبث أنْ انكشف عواره، وظهرتْ دَخِيلَةُ نفسِه، فارْتَدَّ عليه نَقْدُه، وتعثَّرت قدماه، وصار المشكوُّ في حقِّه سالماً، لم تثبتْ عليه تهمةٌ أو جناية، وهكذا عهدنا الحقد يهدم صاحبه، ويجعله أول المكتوين بنارِه.
وفي «لسان العرب» لابن منظور: قال يزيد بن الحَكَم الثَّقَفِيُّ:
وما بَرِحَتْ نفْسٌ لَجُوجٌ حُشِيتَها
تُذِيبُكَ حتى قِيلَ: هل أَنتَ مُكْتَوي؟
فالسعيد مَن كان مِن أهل هذه الآية الكريمة التي قال الله – عز وجل – فيها: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: ٠١].
كذلك لا مجال للتساهل في نقْل الشائعات وتداوُلهـا، أو الاحتجاج بشُيوعها؛ فإِنَّ شَيْعُوعَة الفعل ليست دليلًا على صحَّتِه، وصاحبُ الكذبة وناقلُها العالمُ بإفكِها قد تعاونا على إثْم الكذبة وعدوانها؛ فتُلصق بهما تهمة الافتراء والبُهتان، ومَن احْتَرَف النَّقْل بغير تَثَبُّت لدغَتْه عقارب الأكاذيب، و«كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْماً أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ»[18]، وعلى السَّامِع أن يفحصَ مسموعاته. قال – عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: ٦] فإِذا سَمِعَ عن إخوانه شَرّاً أَحْسَنَ بهم ظَنَّه، ولم يُبادر بالتصديق والاتهام حتى تَثْبُت التهمة بيقين، قال – سبحانه وتعالى -: {لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْـمُؤْمِنُونَ وَالْـمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إفْكٌ مُّبِينٌ} [النور: ٢١].
كذلك يجب على الناقد أن يُفَتِّش مسألته ويُتأَهَّب لها قبل الخوض فيها، بكثير مِن التدبُّر والتفكير والاستشارة والتحرير لمقصودها وأركانها وأحوالها، حتى تتضح له معالمها، فَيَصلَ إلى مطلوبه مِن النَّقد؛ لأن الحكم على الشيء فَرْعٌ على تصوُّره، فإذا حصل قصورٌ في التصور حصل مثله في النتيجة حتماً، وأضرَّت النتيجة بأبرياء وآذتهم مِن حيثُ لا يشعر الناقد؛ فلا هو حصَّل مطلوبَه مِن نقْدِه، ولا سَلِم مِنه الأبرياء.
وقد رأينا بعض الذين تصدَّوا لنقْد الآخرين قد فقدوا تصوُّر مطلوبهم، فجاءت نتائجهم على غير محلِّها، منافية لحقائق الواقع وطبائع الأمور، فوقع أذاهم على الأبرياء.
ومِن تصوُّر الأمور على حقيقتها أيضاً: التفريق بين الانتماء الاسمي والانتماء العقدي، فقد ينتمي الإنسان – اسماً – إلى حزْب أو جهة ما، لكنه لا يتفق مع هؤلاء في العقيدة ضرورةً؛ ففي أتباع المذاهب الأربعة مِن ينتسب إلى أهل السُّنة، ومنهم مَن انتسب لهذه المذاهب مِن حيثُ الفقه، وخالفها في اعتقاده، كابن الجوزي الحنبلي، والسبكي الشافعي، وغيرهم مِن المنتسبين للمذاهب الفقهية، مع مخالفتهم لأئمتها في العقيدة، مَع أننا لا نُبَرِّئ أحداً انتمـى لغيــر الحـــق (اسماً أو صفةً)؛ ففي الانضواء تحت مُسمَّى الباطل تكثيرٌ وإعانةٌ له، وفيه تغــريرٌ ظــاهرٌ بالعامــة، لكن لا يحول إثمه في انتمائه الاسمي عن الاعتراف له بما فيه مِن بقيَّة خير، وسلامة اعتقاد في جوانب عديدة، كما أنَّ انتماء الإنسان لاسم الحق لا يكفل له العصمة الدائمة، والواجب: العدل والإنصاف مع الجميع، وتحرير الأمور على حقائقها حيثُ هي لا حيث نتمنى لها أن تكون.
وأخيراً؛ فمِن تصوُّر الأمور على حقيقتها، والتنزُّه عن الأحقاد والأضغان في النقد، عدم تشتيت الهدف المقصود من النقد، والخروج به عن مطلوبه المُعْلَن في عنوانه، إلى مطلوبات تشي برغبة عارمة في هدم المشكوِّ في حقِّه، وقد وقفتُ في هذا الباب على أعاجيب وغرائب، أعلن أصحابها عن نقدهم لجوانب ثم أسهبوا في أخرى، وغالباً ما تُخْرِج الضغينة الناقدَ عن مساره العلمي ليُسْهب في مسار شخصيٍّ بعيداً عن الدين والعلم؛ كأنْ يتحدَّث عن شأن عالم أو مُحَقِّق أو رجل في مسألة غير التي يتعرَّض لها الناقد؛ فيبدأ كلامه بنقد بحث أو كتاب، لا يلبث أن يتركه، وربما نسيه إلى أنْ ينتهي بثلب مؤلِّف البحث أو الكتاب في شخصــه وعِلْمــه؛ فلا يدعه حتى يُجَرِّدَه مِن كل فضيلة (شخصية أو مَزِيَّة علميَّة).
فالواجب على الناقد أن يتحلَّى بالإنصاف والتجرُّد والعدل، وأن يُحَرِّرَ مقصوده ومطلوبه مِن نقده، ويُعَيِّن قضيته التي يريد الوصول إليها، ويعلم أَنَّ المواهب أرزاق؛ فمَنْ رزَقَهُ الله – عز وجل – جودة التأليف في علوم الحديث فقد يَحرِمه دركَ الصواب في الفقهيات؛ فليس مِن العدْل والإنصاف أنْ يُجَرِّده الناقد من علمه بالحديث إذا ما أخطأ في مسألة فقهيَّة معينة؛ إِذ الجهة مُنفكة، ولا تلازم بين الخطأ في مسألة والإصابة في أخرى، وعلى الناقد أن يُحْسِن تخليص هذه مِن تلك، فيميز بينهما، حتى لا تطغى واحدةٌ على أخرى؛ فيعترف بالصواب في ما أصاب فيه مَنْ وقع عليه النقد واللوم في مسألة قد أخطأ فيها بيقين؛ إِذْ ليس شرطاً أن يحيط به الخطأ على الدوام؛ فالكذوب قد يصدق والضعيف قد يُرَجَّح على الأقوى منه ثقة وعدالة، وكما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الشيطان لما صَدَقَ أبا هُريرة – رضي الله عنه -: «صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ»[19].
وَفَّقَ الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وصلِّ اللهمَّ وسلِّم وبارك على عبدك ونبيك محمد! وارضَ اللهمَّ! عن آله وأصحابه أجمعين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] يعطب: يهلك.
[2] كانت في نشرة «الضُّعَفَاء»: «عَلَى غير الدِّيَانَة» كذا، والمثبت هُوَ الظاهر بحذف «غير»، ولَعَلَّها: «ومن يَتَكَلَّم فيهم عَلَى غير الدِّيَانَة» بإسقاط «لم», والله أَعْلَم.
[3] «الضُّعَفَاء لأبي زُرْعَةَ وأجوبته عَلَى أسئلة البرذعي»، أبو زُرْعَةَ وجهوده للهاشمي:2/329.
[4] «الْإِرْشَاد» لِلْخَلِيلِيِّ: 1/408.
[5] «أخلاق الْعِلْماء» للآجُرِّيّ: ص/47، ت: إِسْمَاعِيل الْأَنْصَارِيُّ، ط: مكتبة التوعية الإِسْلامية القاهرة بدون تاريخ ورقم الطبعة.
[6] «الْجَرْح وَالتَّعْدِيل» لابنِ أَبِي حَاتِم: 1/171، 2/21.
[7] متروك الْحَدِيث.
[8] وهي كُنْيَة عَبَّاد، وهو: عَبَّادُ بنُ عَبَّاد بن حَبِيْب البصري، أبو مُعَاوِيَة، تُوفِّي سنة 181هـ وقيل: 180هـ، وَكَانَ – رحمه الله – رجلاً فاضلاً عاقِلاً أَدِيباً مَعْرُوفاً بِطَلَبِ الْعِلْمِ حَسَنَ الْهَيْئَةِ، ترجمتُه في «تهذيب الكمال» للمِزِّيِّ، ومِنْها استفدتُ ما ذكرتُه بشأْنِه هنا.
[9] «تَقْدِمَة الْمَعْرِفَة لِكِتَابِ الْجَرْح وَالتَّعْدِيل» لابن أَبِي حَاتم، ص:171. والقصة مشهورة من غير وجه في: «الْعِلَل ومَعْرِفَة الرجَال» لأحمد: 2/536، رقم: 3541، و«الضُّعَفَاء» للعقيلي: 22، و«المجروحين» لابن حبان: 1/89 -90، ت: السَّلَفي، 1/96، ت: زايد، و«الكامل» لابن عدي: 2/58، و«الكفاية» للخطيبك: 89 -90، و«تهذيب الكمال» لِلْمِزِّيّ: 2/21.
[10] وهو الإِمَام إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم، وعُلَيَّة أُمُّه – رَحِمَهُ اللهُ – ولكِنْ غَلَبَتْ عَلَيْه النِّسْبَة إليها.
[11] «شرح الْعِلَل» لابن رَجَب: 1/348 – 349، ت: د. همام سَعِيد، ويُنْظَر لذلك: «الضُّعَفَاء للعقيلي»: 1/11، 15، و«الكفاية» للخطيب: 78 – 92، باب وجوب البحث والسُّؤَال للكشف عن الأُمُور والأحوال، والباب التالي له.
[12] «الكفاية» للخطيب، ص: 78
[13]المصدر السَّابِق، ص: 85. وَقَدْ أطال ابن حبان في مقدمة «المجروحين»، وغيره، في بيان هذا الأصل، فراجِعه عندهم.
[14] «الْجَرْح وَالتَّعْدِيل» لابن أبي حاتم: 2/21.
[15] «الْجَرْح وَالتَّعْدِيل» لابن أَبِي حَاتِم: 1/171 – 172، 2/22.
[16] «المجروحون» لابن حبان: 1/34، ت: السَّلَفي، 1/31، ت: زايد.
[17] «الْجَرْح وَالتَّعْدِيل» لابن أَبِي حَاتِم: 1/171، 2/21.
[18] صحيح ابن حبان.
[19] رواه البخاري 2311.
Source link