إن آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها، والنصرة من الله تعالى، لا يستحقها المسلمون إلا إذا نصروا الله بإقامة دينه الذي أوجبه عليهم، والدعوة إليه بالجد والنصح والبذل للنفوس والأموال في سبيل ذلك…
إن آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها، والنصرة من الله تعالى، لا يستحقها المسلمون إلا إذا نصروا الله بإقامة دينه الذي أوجبه عليهم، والدعوة إليه بالجد والنصح والبذل للنفوس والأموال في سبيل ذلك، إذا كنا نريد العزة والقوة فلنغير ما بأنفسنا من الوهن وكراهية الموت، ولنقبل على الله صادقين.
إن أحوال أكثرنا لا تُرضي الله ولا يرجى معها نصره، فمثلاً إذا سبرنا حال طالب العلم الذي يؤمل أن يكون أفضل الناس، فإذا هو يمضي في دراسته ما يزيد على عشرين عاماً؛ ستة أعوام في الابتدائي، وستة أخرى في المتوسط والثانوي، وأربعة في الجامعي، وستة في العالي أو أكثر، ثم إذا تحصل على أعلى شهادة وجدته غير متميز عن العوام وسائر الناس لا في مشيته ولا في هيئته، ولا في سمته ونطقه، بل قد لا يتميز عنهم حتى في هيئة صلاته، وهذا هو الغالب على طلابنا، والسبب في ذلك أنهم لم يطلبوا العلم للعمل به، والتقرب إلى الله، وإنما طلبوه للدنيا، فسلبوا نوره وبركته، فإذا كان هذا حال طلبة العلم، فكيف ببقية الناس، ولهذا أصبنا بالاختلاف وتنافر القلوب، وأصبحنا غثاءً كغثاء السيل.
قال ابن مسعود: لو أن أهل العلم صانوا علمهم ووضعوه عند أهله، لسادوا به أهل زمانهم، ولكنهم بذلوه لأهل الدنيا لينالوا به من دنياهم فهانوا على أهلها سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «من جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله هم آخرته، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها وقع» [1]. وكان السلف كما قال أبو قلابة: إذا أحدث الله لك علماً فأحدث له عبادة، وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم كان أحدهم لا يتجاوز عشر آيات حتى يتعلم ما دلت عليه ويعمل بهن، فتعلموا العمل كما يتعلمون العلم.
وقال عبد الله بن عباس: لو أن حملة العلم أخذوه بحقه وما ينبغي، لأحبهم الله وملائكته والصالحون، ولهابهم الناس، ولكن طلبوا به الدنيا، فأبغضهم الله، وهانوا على الناس[2].
قال الشعبي: كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به، وكنا نستعين على طلبه بالصوم[3]، وقال الإمام مالك: إن حقًا على من طلب الحديث أن يكون له وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعاً لآثار من مضى قبله. وعلى كلٍ الواجب على طالب العلم وغيره تقوى الله تعالى وحفظ حدوده وحقوقه، وأوامره ونواهيه، كما وصى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس بقوله: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك» ؛ فيحفظ حدوده فلا يتجاوزها، ويحفظ أوامره فيمتثلها، ونواهيه فيجتنبها، وبذلك يستحق وعد الله تعالى في مثل قوله تعالى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 32 – 35]، فسر الحفيظ في هذه الآية بالحافظ لحدود الله، وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها، ولا منافاة بينهما.
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث ابن مسعود مرفوعاً: الاستحياء من الله حق الحياء، أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وحفظ الرأس وما وعى يلزم منه حفظ السمع والبصر واللسان، من سماع المحرمات والنظر إليها فلا يستمع إلى ما فتن به أكثر الناس اليوم من الأغاني، ومزامير الشيطان فإنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتنبت في القلب النفاق وحب الباطل، وكراهية الحق وأهله، ولا تجتمع الأغاني في قلب مع كلام الله تعالى لأنهما متضادان، فكلام الله فيه الهدى والنور، وحياة القلوب، والأغاني تميت القلب نهائياً وتجعله منكوساً، فيصبح الحق عنده باطلاً مكروهاً، والباطل مرداً له محبوباً.
ولا ينظر إلى ما حرم الله، أو ما هو داع إلى مواقعة الحرام، كالنظر إلى النساء المحرمات عليه، ونحو ذلك مما يدعو النظر إليه إلى ما هو أعظم من الفواحش، وكالصور الخليعة التي قصد بها هتك أخلاق الشباب المسلم، وإيقاعهم في حبائل الشيطان بإثارة غرائزهم، وكوامن شهواتهم، أو النظر إلى الداعيات إلى الدعارة والفجور اللاتي يعرضن أنفسهن في التلفاز، عاريات، أو شبه عاريات، وأقل ما يقال في ذلك أن المرء يجب عليه أن يعرض عنه بنفسه، ومن يستطيع حمايته من هذا الوباء الفتاك الذي يقضي على أخلاق المجتمعات[4].
ولمَّا كان مبدأ الفساد من قبل النظر المحرم؛ أمرَ الله – تعالى – المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم، وأخبرهم أنه تعالى عليم بأعمالهم، مطلع عليها ليستحيوا منه تعالى.
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنظرة سهم من سهام إبليس، والنظر يتولد عنه الأفكار الرديئة، ثم لا تزال تلك الأفكار الرديئة بصاحبها حتى تكون إرادات وعزائم، فيسعى بذلك إلى عمل الخنا والفجور حتى يقع فيه، ثم يصبح أسيراً للشيطان وشهواته، فيهلك مع الهالكين.
ومما يجب حفظه اللسان، فيجب أن يحفظ عن قول الزور، والسباب والشتم، والنميمة والغيبة، وقول الباطل، وكل ما لا فائدة فيه، فإن ذلك عمل اللسان، وهو محفوظ عليه مسجل، قال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17، 18]، وقال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10، 11].
وقد كثر وقوع غالب الناس في الغيبة والنميمة، حتى فشت في طلبة العلم، مع ظهور الأدلة على تحريمها، وعظم الوعيد عليهما كما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة نمام»، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12]، يعني أن اغتياب الإنسان لأخيه كأنه يأكل لحمه بعد موته، وهذا في غاية الشناعة والقبح، فكيف يقدم العاقل على ذلك.
وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الغيبة بأوضح ما يكون فقال: «الغيبة ذكرك أخاك بما يكره» وذلك في حالة غيبته، قالوا: أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته»، أما النميمة فهي نقل الحديث إلى الغير على وجه الإفساد، وعلى كل فخطر اللسان عظيم، وهو أولى الأعضاء بالحفظ والمراقبة، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد ليتكلم الكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في نار جهنم»،
وفيهما أن أبا هريرة سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن العبد ليتكلم بالكلمة، ما يتبين ما فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق»، وفيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت»، فخطر اللسان عظيم، فمن كان تعز عليه نفسه فلا يطلق لسانه بكل ما يخطر له، فإنه بذلك يورده المعاطب وانظر إلى ما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله تعالى: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، قد غفرت له، وأحبطت عملك» وجاء أن هذا القائل كان عابداً مجتهداً، فأحبط عمله بكلمة واحدة، ربما قالها غيرة على محارم الله، وغضباً لله تعالى ومع ذلك ذهبت تلك الكلمة بدنياه وآخرته، كما قال أبو هريرة رضي الله عنه.
فعلى المؤمن أن يكون حذراً خائفاً، حافظاً للسانه وسائر جوارحه من الوقوع بما يسخط الله عز وجل، وإذا تكلم يكون كلامه فيما ينفع من ذكر الله تعالى، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه؛ أضمن له الجنة»، وما بين اللحيين يتناول ما يتكلم به وما يأكله، فمن حفظ منطقه من الكلام السيئ، وحفظ مطعمه من الحرام فقد حفظ ما بين لحييه، وحفظ الفرج يترتب على حفظ البصر والسمع عن الحرام، وكذلك حفظ القلب من الأفكار الرديئة، بأن يطردها بخوف الله ومراقبته، وبذلك يحفظ فرجه، أما إذا أطلق نظره، ولم يمتثل قول الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]، وأطلق سمعه إلى سماع الأغاني فإنها تدعوه إلى الفجور.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: «الأجوفان، الفم والفرج» [5]، قال الترمذي حسن صحيح.
كذلك مما يجب على العبد أن يحفظه بطنه، فلا يدخل فيه محرماً من المآكل والمشارب فإن الجسد الذي يتغذى بالسحت فإن النار أولى به.
وأكل الحرام وشربه يحول بين العبد وربه، فلا يستجيب دعاءه، ولا يقبل عمله، كما في الحديث المشهور، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «حينما ذكر الرجل الذي يطيل السفر، يرفع يديه يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام، فأنى يستجاب له» يعني بعيد جداً أن يستجاب له، وكثير من الناس واقع في هذا الأمر العظيم، ولاسيما المتعاملين مع البنوك، وقد عظم الله جرم الربا، حتى جعل آكله محارباً لله ورسوله، وتوعد عليه بأشد الوعيد والعقاب، ونفى الإيمان عمن لا يجتنبه، وكذا المشارب المحرمة من الخمور بأنواعها، وكل مسكر فهو خمر، سواء شرب أو أكل، أو غير ذلك.
وقد فتن بهذه المحرمات خلائق من الشباب وغيرهم لا يحصيهم إلا الله تعالى، فعلى العبد المؤمن أن يتقي الله، ويراقبه، ويعلم أن حياته هذه منقضية عن قرب فيجتهد في تحصيل ما يرفع درجته عند ربه، ويبتعد عن كل ما هو سبب للبعد عن الله تعالى؛ فإن الأمر قريب جداً والله المستعان.
فالمؤمن ينبغي له أن يعرف الشر ومرتبته في دينه، كما ينبغي أن يعرف الخير ومرتبته أيضاً، ويفرق بين أحكام الأمور الواقعة، التي عملها الناس، وبين التي يراد إيقاعها ليقدم ما هو أكثر خيراً وأقل شراً، ويدرأ أعظم الشرين باحتمال أدناهما، ومن لم يعرف أحكام الله في عباده أصبحت أقواله وأعماله بجهل، ومن عَبَدَ الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح، وبذلك أفسد الدين وغيرت السنن، بل وعبد غير الله، فلا بد أن يقترن العلم بالعمل، وأن يكون أصل العمل وأساسه محبة ما يحبه الله ورسوله، وبغض ما يبغضه الله ورسوله.
[1] ابن عبد البر في جامع بيان العلم ج1 ص 187.
[2] المصدر السابق ص88.
[3] المصدر السابق ج2 ص11.
[4] وقد وجد ما هو أدهى وأمر من التلفاز، هذه الأطباق التي تنقل بواسطتها محطات أوروبا وأمريكا، وغيرها مما هو مدمر للأخلاق وناشر للعهر والفجور.
[5] ج3 ص245.
Source link