منذ حوالي ساعة
سورة ذات آيات ثلاث جمعت نهج الإسلام وطريقه وأبرزت معالم الدين وأركانه وتضمنت علوم القرآن وغاياته وذكرت مراتب الكمال البشري.
نقف اليوم مع سورة عظيمة حوت الدنيا وما فيها ورسمت للمسلم منهجاً واضحاً وحياة متكاملة.
سورة ذات آيات ثلاث جمعت نهج الإسلام وطريقه وأبرزت معالم الدين وأركانه وتضمنت علوم القرآن وغاياته وذكرت مراتب الكمال البشري.
سورة في غاية الإيجاز والبيان أوضحت سعادة أو شقاوة الإنسان بأخصر عبارة وأجمل بيان وبينت أسباب الفوز والنجاح من الخسارة والخسران.
سورة قصيرة قليلة الآيات لكنها عظيمة في المعاني والألفاظ والدلالات يقول عنها الإمام الشافعي رحمه الله (لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم).
إنها سورة العصر وما أدراك ما سورة العصر!
فهيا بنا لننتقل إلى هذه السورة نتدبر بعض ما فيها من العظات ونقطف شيئا من ثمارها اليانعات وننهل من بحارها الزاخرات ونتأمل في آياتها البينات ونأخذ منها الدرر والوصايا الغاليات.
بدأ الله هذه السورة بالقسم بالعصر وهو الدهر فقال والعصر والعصر هو الدهر والدهر هو أيام الله التي يخلق الله فيها ما يشاء ويفعل فيها ما يريد ويحكم فيها بحكمته وإرادته {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
أقسم الله بالدهر لأهميته ولتبيين مكانته ولتعظيم منزلته فهو ميدان العاملين ومضمار المتسابقين فمن استغله في طاعة الله وعمل فيه على مرضاة مولاه فقد فاز بالفوز العظيم ومن ضيعه في معصية الله فذلك هو الخسران المبين.
وقال بعض المفسرين أن المراد بالعصر في هذه السورة صلاة العصر التي تكون عند منتهى النهار ومقتبل الليل وهي من أفضل الصلوات عند الله حيث خصها الله بالذكر وأقسم بها فقال والعصر وأمر بالمحافظة الخاصة عليها فقال سبحانه وتعالى {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ويقول سبحانه {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} يعني صلاة العصر يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه «من صلى البردين دخل الجنة» والبردان هما الصبح والعصر وحذر صلى الله عليه وسلم من التفريط فيها وعدم المحافظة عليها أو التكاسل عن القيام بها فقال صلى الله عليه وسلم «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله».
{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} أقسم الله على أن الإنسان – كل إنسان – في خسارة ونقصان وضياع وحرمان لأنه يُفضل العاجلة على الآجلة وتغلبه الأهواء والشهوات ويطغى عليه حب الذات والماديات. {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} {وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} .
{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} – كل إنسان – الأبيض والأسود العربي والأعجمي كلهم في خسارة وخسران ثم استثنى الله من استكمل أسباب النجاة وأخذ بأسباب النجاة وأولها الإيمان بالله وبما جاء من عند الله.
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} الإيمان تلكم الكلمة المدوية المجلجلة التي تهز الكون هزاً.
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} الإيمان أعظم كنز يمتلكه المؤمن في هذه الحياة وأعظم ثروة يكتنزها العبد للقاء الله.
الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان يزيد بالطاعات وينقص بالعصيان.
الإيمان يبعث في القلب الثقة بالله والأنس بالله والطمأنينة بذكر الله فالمؤمنون في رياض المحبة يرتعون وفي جنة العبودية يتقربون أحبهم الله فأحبوه ورضي عنهم ورضوا عنه تقربوا منه بالصالحات فتقرب منهم بالمغفرة والرحمات «وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه وإن استعاذني لأعيذنه».
إن الإيمان هو الركن الثاني من أركان الدين بعد الإسلام وله شروط صعبة لا تنطبق إلا على قليل من الناس ذكر الله جل جلاله صفاتهم في كتابه العظيم فقال {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} وقال في وصفهم {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} ويقول سبحانه {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} .
الإيمان كما فسره جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره».
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
– فبعد أن ذكر الله أن الشرط الأول للنجاة هو الإيمان {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} ذكر الشرط الثاني فقال {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} لا يكفي الإيمان فقط بل لابد بعد الإيمان من العمل إذ لا يصح الإيمان إلا بالعمل الصالح ولهذا قرن الله بينهما في كثير من الآيات في كتابه العظيم {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ﴾ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وغيرها من الآيات الكثيرات التي تذكر الإيمان والعمل الصالح وتقرن بينهما.
فليعلم من يشرك بالله أو يقطع الصلاة أو يمنع الزكاة أنه لا إيمان إلا بالعمل الصالح وعلى قدر إيمان العبد يكون عمله الصالح فمن كان إيمانه قوياً كان عمله الصالح كثيراً ومن كان إيمانه ضعيفاً كان عمله ضعيفاً.
ثم ذكر الله الشرط الثالث للنجاة فقال {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} التواصي هو التناصح فالدين النصيحة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم «الدين النصيحة» قالوا لمن يا رسول الله قال «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» يقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه (المؤمنون نصحة والمنافقون غششة) فمن أراد النجاة فإن من أسباب النجاة التي ذكرها الله في هذه السورة العظيمة التناصح والتواصي بالحق والحق هو الشيء البين الواضح والمقصود به في هذه الآية الكريمة أداء الطاعات وترك المنكرات فيجب علينا إن أردنا النجاة أن نتناصح فيما بيننا وأن يوصي بعضنا بعضاًَ وأن نُفعل هذه الفضيلة العظيمة فضيلة النصيحة والتناصح بالأسلوب الحسن وباللين والرفق والستر عبر جميع الوسائل المتاحة {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: ((تعمدني بنصحك في انفرادي – وجنبني النصيحة في الجماعة – فإن النصح بين الناس نوع – من التوبيخ لا أرضى استماعه ـ فإن خالفتني وعصيت قولي – فلا تجزع إذا لم تعط طاعة).
{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} يوصي بعضنا بعضاَ بالصبر والصبر هو النفس على طاعة الله وحبسها عن معصية الله وحبسها عن التسخط من أقدار الله فالمؤمن لن يستطيع مواصلة الطريق إلا بالصبر فالإيمان يحتاج إلى صبر والعمل الصالح يحتاج إلى صبر والنصيحة تحتاج إلى صبر والمعاصي تحتاج إلى صبر حتى لا يقع الإنسان فيها ولهذا ذكر الله جل جلاله الصبر في أكثر من تسعين موضعاً من القرآن الكريم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
فالصبر يجعل المؤمن لا يخاف إلا من الله ولا يلجأ إلا لله ولا يخضع لأحد سوى الله صابراً على طاعة الله صابراً عن الوقوع في معصية الله صابراً على أقدار الله المؤلمة {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} يقول السعدي رحمه الله فالإيمان والعمل الصالح يُكمل الإنسان بهما نفسه والتواصي بالحق والتواصي بالصبر يُكمل الإنسان بهما غيره وبتكميل الأمور الأربعة يكون الإنسان قد سلم من الخسارة وفاز بالربح العظيم.
هذه وقفات سريعة مع هذه السورة العظيمة التي جمعت خيراً كثيراً.
يذكر ابن كثير رحمه الله في التفسير أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا إذا التقوا قرأ بعضهم على بعض سورة العصر) رواه الطبراني والبيهقي وصحح الهيثمي إسناده.
عباد الله:
إن هذه السورة تريد أن تؤكد لنا أمراً مهماً وهو أنه لا نجاة للإنسان على امتداد الأزمان وفي كل البلدان إلا بمنهج واحد هو منهج الرحمن الذي رسمت هذه السورة حدوده ووضحت معالمه وما عدا هذا المنهج فإنما هو حرمان وضياع وخسران.
_______________________________________________________
الكاتب: د. مراد باخريصة
Source link