غيرة هدهد أطاحت بمملكة كفران فحولتها إلى عرش توحيد وإيمان

منذ حوالي ساعة

فانظر لهذه الغيرة على التوحيد من الهدهد، تلك الغيرة العجيبة التي أطاحت بمملكة كفران فحوَّلتها إلى مملكة توحيد وأمن وإيمان، فالحمد لله رب العالمين.

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:

فقد لا ننازع في أن التوحيد أو شهادة “لا إله إلا الله” هي أصل الدين، وهي الفرقان بين المسلمين والكافرين، ولكن قد لا ترى التوحيد ظاهرًا أو باديًا، ولا مستحضرًا في منهاج بعض المسلمين! فلا أثر له ظاهر في أفعالهم أو تروكهم! وكذلك فقد لا يأبهون لضلال وانحراف الآخرين، وملخص هذا الداء والوباء ألا غيرة على التوحيد والدين!

 

ولن نُمثِّل بغيرة نبي أو صدِّيق أو صالح من الصالحين، ولكنا سنمثل بغيرة طائر، لو لم يحك لنا ربنا تبارك وتعالى قوله لكنا بأمره جاهلين، وعما جاء به من الحق والغيرة لله ودينه غافلين! نعم هو الهدهد! ذلك الطائر الغريب عنا أطوارًا وأحوالًا، لكنه الغيور على عقيدة التوحيد، فصار بذلك منا قريبًا، بعد إذ كان بعيدًا في زمان ومكان سحيق:

فلما حشر لسليمان جنوده: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل: 20]، فحينئذٍ لم يره سليمان مع المحشودين ولا الحاشدين، ورعايةً منه لجنده ورعيته -ولأن الهدهد لم يستأذن ولم يستعلن عن غيبته- كان الأمر عند سليمان وفي شرعته أن قد باء بإثم مبين، هو ذنب يقتضي عقوبةً حال لم يكن له عذر مع أولي الأعذار والمعتذرين، بل وقد يكون بجرمه هذا من المذبوحين، وكما قال سليمان: ﴿ { لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل: 21].

 

فهنا أسقط في جناح الهدهد! فلم يكن له بد إلا أن يقول الحق، ثم يدخل من باب يحبه سليمان ويرتضيه: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22].

 

وهذا أسلوب تستمال بمثله القلوب، وتصغي إليه الأسماع، ثم أردف قوله الهدهد، فقال منبهًا على كفران النعمة قبل كفران العبادة عند قوم قد رآهم في بعيد الأرض عن مملكة سليمان وجنده الغالبين، فقال: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23].

 

ولعل في تقديمه الملكة -ذكرًا- على مملكتها تنبيهًا على أنه استغرب كيف يحكم هذا الملك العظيم وتلك البلاد القوية بامرأة! والحق هو أن الملك لا يقوم بامرأة، ولو قام فذو اعوجاج وصائر إلى زوال قريبًا كان أم بعيدًا، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بسنة الله في حكم النساء، وكما روى ذلك البخاري في صحيحه (4425) من حديث الحسن، عن أبي بكرة، قال: «لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الجَمَل، بعد ما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم، قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس، قد ملكوا عليهم بنت كسرى، قال: «لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأةً».

 

وكذلك الحال كان في مملكة سبأ وسياسة ملكتها؛ لذا فقد ظن الهدهد أنها كانت تحكم تلك البلاد بقبضة من حديد، بل ولم يكونوا بها محكومين، وإنما كانوا لها مملوكين؛ لذا وصف الهدهد الحال بأجمل بيان، فقال: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23]، وهذا تعبير غاية في إثبات قوة السلطان.

 

وهذه النعمة والرزق الوفير يقتضيان الشكر العظيم المشوب بإخلاص العبادة والتوحيد، ولكن كل هذا لم يكن! لذا عجب الهدهد لهذا الكفران، فقال: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} [النمل: 24].

 

فأعجب من كفران النعمة -عند الهدهد- كفران الألوهية والعبادة، فقال: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 25، 26].

 

وهذا استدلال بالربوبية لإثبات الألوهية والعبادة، فهو استدلال بعظيم علمه وعظيم مخلوقاته سبحانه وتعالى، وتدبيره لجميع أمر ما غاب وما شهد، وما ظهر وما استكن، والأمر عنده في ذلك سيان لمن كان في باطن الأرض أو أعلى السماء والجنان، استدلال بهذا كله لإثبات غيب لا يغيب إلا عن المعرضين الجاهلين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

ثم لما ذكر العرش العظيم وذكر به، فهو استدلال بالأسماء والصفات، وبعظيم القدرة والآيات، استدلال طرق للإقرار بعظمة الخالق، فمن قارن وقايس بين ما رأى من عرش مخلوق ذي نقص وعوار وبين ما لم يره من عرش عظيم لا يرى بالعيان، وإنما تشهد لعظمته الآيات الظاهرات، والعقول والأفئدة والجنان، فمن قلب البصر والنظر في هذه الآيات علم -حينئذٍ- الحق والفرقان بين خلق الله وما سواه، فشتان ما بينهما لا يستويان.

 

فانظر لهذه الغيرة على التوحيد التي ذهب بعدها الهدهد إلى ما ذهب إليه من موت وفناء، بل وذهب من قبله أو بعده داود وسليمان وملكهما وجندهما قد ذهبوا كلهم أجمعون! وبلقيس معهما كذلك قد ذهبت، وذهب معها عظيم الملك والسلطان موليًا، واضمحل عرشها وجندها، كأن لم يكونوا يومًا من الأيام! فلم يبق إلا قول الهدهد مثبتًا مسطرًا في كلام الله العظيم القرآن، يقص علينا تلك الغيرة العجيبة التي أطاحت بمملكة كفران فحوَّلتها إلى مملكة توحيد وأمن وإيمان، فالحمد لله رب العالمين.

 

ومن عجيب الأمر أن الهدهد لم يعجب من تلك المملكة العظيمة التي أوتي أهلها حظًّا كبيرًا من العلم والعمران، واجتمع لهم كثير من الأسباب والسلطان، فلم يعجب -لعظيم غيرته وعبوديته لخالقه- إلا بما أخبرنا به الحق سبحانه وتعالى: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} [النمل: 24]! نعم هذا الذي أعجبه فاستغربه وحفظه لنا ربنا من قوله وأثبته: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 25، 26].


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

خطر الإلحاد (2) – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة السفر إلى بلاد الكفار للدراسة أو غيرها دون التقيد بالضوابط الشرعية -القراءة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *