الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
أن الإخلاص هو قصد به وجْهَ الله تعالى بالعبادات والتوبة من أعظمها، والإخلاص محله القلب؛ وفي الصحيحين من حديث النعمان بن بشير أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن في الجسد مُضْغَةً، إذا صلَحتْ صلح لها سائرُ الجسد، وإذا فسدتْ فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب)) فصلاح القلب هو أصل الإخلاص، ويستلزم صلاح الجسد، ومن ثمّ صلاح العمل أو فساده
قال أبو هريرة: القلب ملك الأعضاء، والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابتْ جنودُه، وإذا خبُث خبثتْ جنودُه.
وتوبة القلب هو كفه عن النفاق بتحقيق الإخلاص فيقصد بتوبته وجه الله، حياء من الله تعالى لا من غيره، وهو الأصل في الاستقامة على التوبة، وعدم العوده الي المعصية.
ومن تدبر ما ذكره الله سبحانه في كتابه العزيز عن المنافقين أدرك معنى توبة القلب وإخلاصه لله؛ قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا* إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 145، 146].
فالإخلاص في التوبة هو الذي يحقق عدم العودة إلى المعصية، ويتحقق إذا كان الباعث على التوبة هو الخوف من الله، والرجاء فيما عنده من الأجر، وما أعده سبحانه للتائبين.
ومن أمثلة السنة على إخلاص التوبة لله حديث الرجل الذي قتل مائة نفس، ولم يعمل خيرًا قط، غير أنه توجه إلى القرية الصالحة، حتى إذا نَصَفَ الطريق دهمه الموت، فنأى بصدره إي إلى القرية الصالح أهلها، فقبضته ملائكة الرحمة؛ والحديث في الصحيح.
والحاصل أن التوبة هي الرجوع إلى الله، والندم على ما كان، والعزم على عدم العود، ومما يدل على إخلاص التوبة الاستقامةُ بعدها، وإصلاح ما أفسده، وعدم العودة إلى الذنب.
جاء في “المستدرك على مجموع الفتاوى” (1/ 224- 225): “… ومن هذا الباب حديث البطاقة التي قدر الكف فيها التوحيد، وضعت في الميزان= فرجحت على تلك السجلات من السيئات.
وليس كل من تكلم بالشهادتين كان بهذه المنزلة؛ لأن هذا العبد صاحب البطاقة كان في قلبه من التوحيد واليقين والإخلاص ما أوجب أن عَظُم قدره حتى صار راجحًا على هذه السيئات.
ومن أجل ذلك صار المد من الصحابة رضي الله عنهم أفضل من مثل جبل أحد ذهبًا من غيرهم.
ومن ذلك حديث البغيّ التي سقت كلبًا فغفر لها، فلا يقال في كل بغي سقت كلبًا غُفر لها؛ لأن هذه البغي قد حصل لها من الصدق والإخلاص والرحمة بخلق الله ما عادل إثم البغي وزاد عليه، ما أوجب المغفرة؛ والمغفرةُ تحصل بما يحصل في القلب من الإيمان الذي يعلم الله وحده مقداره وصفته”. اهـ.
وقال أيضًا في “منهاج السنة النبوية”(6/ 221): “… وكذلك هذا الذي نحى غصن الشوك عن الطريق؛ فَعَلَه إذ ذاك بإيمان خالص، وإخلاص قائم بقلبه= فغفر له بذلك؛ فإن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص، وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدًا، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض. وليس كل من نحى غصن شوك عن الطريق يغفر له.
قال الله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}[الحج: 37]، فالناس يشتركون في الهدايا والضحايا، والله لا يناله الدم المهراق ولا اللحم المأكول، والتصدق به، لكن يناله تقوى القلوب.
وفي الأثر: “إن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدا، وبين صلاتيهما كما بين المشرق والمغرب”.
فإذا عرف أن الأعمال الظاهرة يعظم قدرها، ويصغر قدرها بما في القلوب، وما في القلوب يتفاضل، لا يعرف مقادير ما في القلوب من الإيمان إلا الله= عرف الإنسان أن ما قاله الرسول كله حق، ولم يضرب بعضه ببعض؛ وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60]، وفي الترمذي وغيره عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: يا رسول الله، أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف أن يعاقب؟ قال: ” لا يا بنت الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق، ويخاف أن لا يقبل منه”، فخوفه من التقصير في الطاعة من كمال الطاعة”. اهـ.
هذا؛ والله أعلم.
Source link