الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فإن من الْقَوَاعِد الْكِبَار في الدين الإسلامي الحنيف، بله جميع الشرائع السماوية السابقة: أَنه لَا يجوز أَن يكون غير الله محبوبًا مرَادا لذاته؛ كَمَا لَا يجوز أَن يكون غير الله مَوْجُودا بِذَاتِهِ، فلَا ربّ إِلَّا الله، وَلَا إِلَه غَيره، والإله هُوَ المعبود الَّذِي يسْتَحق أَن يحب لذاته، ويعظم لذاته، وله كَمَال الْمحبَّة وكمال التعظيم وكمال الذل.
وحتى تضح المسألة يتعين تقديم شرح يظهر وجه الجواب:
فأقول من المعلوم بداهة أن كل عمل للإنسان يصدر عن إرادة ومحبة المحبة، فهما متقدمان على أي عمل شرعي أو غير شرعي، ومن ثمّ كان طبيعيًا أن تنقسم إلى محبوب لله وغير محبوب ككل عمل وحركة، كما أن المحبة -محمودة أو غير محمودة – لها وجد ووصال وصدود، وسرور وحزن.
كما أن اللذه تتبع المحبة وهي ادراك المحبوب، كحب الإنسان للأكل وللنساء والأبناء والأموال غير ذلك؛ كما هو ظاهر من قوله تعالى: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14]، ولكن كل ما في الوجود من لذائذ وشهوات لا يحب لذاته وإلا كان كفرًا، وإنما يحب لغيرة كمن يحب المال لأنه عصب كل شيء، وليس لذات المال، ومن يحب زوجته لجمالها وأخلاقها ونحوهما.
“فليس في الوجود ما يستحق أن يحب لذاته من كل وجه الا الله تعالى، وكل ما يحب سواه فمحبته تبع لحبه فإن الرسول عليه الصلاة والسلام انما يحب لأجل الله، ويطاع لأجل الله، ويتبع لأجل الله؛ كما قال تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]. متى كان يحب غير الله لذاته، أو يلتفت إلى غير الله أنه يعينه= كان عبدا لما أحبه، وعبدًا لما رجاه بحسب حبه له ورجائه إياه”. قاله شيخ الإسلام ابن تيمية ثم قال: “فإن محبة الشيء لذاته شرك فلا يحب لذاته إلا الله، فإن ذلك من خصائص إلهيته فلا يستحق ذلك إلا الله وحده وكل محبوب سواه إن لم يحب لأجله أو لما يحب لأجله فمحبته فاسدة. والله تعالى خلق في النفوس حب الغذاء وحب النساء لما في ذلك من حفظ الأبدان، وبقاء الإنسان؛ فإنه لولا حب الغذاء لما أكل الناس ففسدت أبدانهم ولولا حب النساء لما تزوجوا فانقطع النسل. والمقصود بوجود ذلك بقاء كل منهم ليعبدوا الله وحده ويكون هو المحبوب المعبود لذاته الذي لا يستحق ذلك غيره. وإنما تحب الأنبياء والصالحون تبعا لمحبته فإن من تمام حبه حب ما يحبه وهو يحب الأنبياء والصالحين ويحب الأعمال الصالحة، فحبها لله هو من تمام حبه وأما الحب معه فهو حب المشركين الذين يحبون أندادهم كحب الله، فالمخلوق إذا أحب لله كان حبه جاذبا إلى حب الله وإذا تحاب الرجلان في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه؛ كان كل منهما جاذبا للآخر إلى حب الله…
وهكذا إذا كان الحب لغير الله كما إذا أحب كل من الشخصين الآخر بصورة: كالمرأة مع الرجل فإن المحب يطلب المحبوب والمحبوب يطلب المحب بانجذاب المحبوب فإذا كانا متحابين صار كل منهما جاذبا مجذوبا من الوجهين فيجب الاتصال ولو كان الحب من أحد الجانبين لكان المحب يجذب المحبوب والمحبوب يجذبه لكن المحبوب لا يقصد جذبه والمحب يقصد جذبه وينجذب وهذا ” سبب التأثير في المحبوب ” إما تمثل يحصل في قلبه فينجذب وإما أن ينجذب بلا محبة: كما يأكل الرجل الطعام ويلبس الثوب ويسكن الدار ونحو ذلك من المحبوبات التي لا إرادة لها. وأما ” الحيوان ” فيحب بعضه بعضا بكونه سببا للإحسان إليه وقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها لكن هذا في الحقيقة إنما هو محبة الإحسان لا نفس المحسن ولو قطع ذلك لاضمحل ذلك الحب وربما أعقب بغضا فإنه ليس لله عز وجل. فإن من أحب إنسانا لكونه يعطيه فما أحب إلا العطاء ومن قال: إنه يحب من يعطيه لله فهذا كذب ومحال وزور من القول وكذلك من أحب إنسانا لكونه ينصره إنما أحب النصر لا الناصر. وهذا كله من اتباع ما تهوى الأنفس فإنه لم يحب في الحقيقة إلا ما يصل إليه من جلب منفعة أو دفع مضرة فهو إنما أحب تلك المنفعة ودفع المضرة وإنما أحب ذلك لكونه وسيلة إلى محبوبه ((وليس هذا حبا لله ولا لذات المحبوب)) وعلى هذا تجري عامة محبة الخلق بعضهم مع بعض وهذا لا يثابون عليه في الآخرة ولا ينفعهم بل ربما أدى ذلك إلى النفاق والمداهنة فكانوا في الآخرة من الأخلاء الذين بعضهم لبعض عدو إلا المتقين. وإنما ينفعهم في الآخرة الحب في الله ولله وحده وأما من يرجو النفع والنصر من شخص ثم يزعم أنه يحبه لله فهذا من دسائس النفوس ونفاق الأقوال”. اهـ. مجموع الفتاوى (10/195- 610).
وتأمل قول الإمام: “وليس هذا حبا لله ولا لذات المحبوب” يعني لا هو طاعة ولا كفر، وإنما مباح وقد ينقلب لمحرم كما بين رضي الله عنه.
وقال في كتابه “الاستقامة” (1/ 447): “… وعلى هذا يجري الأمر على محبة الإنسان للشئ الجميل، من الصورة والنظر إليه، وما يدخل في ذلك من قوة الحب والزيادة فيه التي تسمى العشق= فإن ذلك إذا خلا عن المفسدة الراجحة، مثل أن يحب الإنسان امرأته وجاريته حبًا معتدلاً، أو يحب ما لا فتنة فيه، كحبه للجميل من الدواب والثياب، ويحب ولده وأباه وأمه، ونحو ذلك من محبة الرحم – كنوع من الجمال – الحب المعتدل= فهذا حسن.
أما إذا أحب النساء الاجانب أو المردان ونحو ذلك، فهذا الحب متضمن للمحبة الحيوانية، وليس في ذلك مجرد محبة الجمال، والمحبة الحيوانية مما يبغضها الله ويمقتها، وتوابعها منهى عنها مع ذلك، سواء كان مع المحبة فعل الفاحشة الكبرى، أو كانت للتمتع بالنظر والسماع، وغير ذلك؛ فالتمتع مقدمات الوطء.
فإن كان الوطء حلالاً حلت مقدماته، وإن كان الوطء حرامًا حرمت مقدماته.
وإن كان في ذلك رفض للجمال، كما فيه رفض للذة الوطء المحرم، فإن ما في ذلك مما يبغضه الله ويمقت عليه أعظم مما في مجرد الجمال من الحب المتضمن؛ وذلك متضمن لتفويت محاب الله: من التقوى والعفاف والإقبال على مصالح الدين والدنيا، أعظم بكثير مما فيها من مجرد حب الجمال؛ فلهذا كانت هذه مذمومة منهيًا عنها حتى حرّم الشارع النظر في ذلك بلذة وشهوة وبغير لذة وشهوة، إذا خاف الناظر الفتنة، والفتنة مخوفة في النظر إلى الأجنبية الحسنة والأمرد الحسن في أحد قولي العلماء، الذي يصححه كثير من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما”. اهـ.
إذا تقرر هذا، ظهر لك الفرق بين الحب لله والحب لله، وبين الحب الطبيعي بقسميه الحلال والحرام، وأن حب غير الله لا يكون شركًا إلا إذا كان حباب لذات المحبوب،، والله أعلم.
Source link