نعيش هذه الأيام مع واعظ الصيف، فهل أصغت قلوبنا لموعظته؟! وهل وعينا درسه؟! هلمّ فلنقف قليلًا مع الصيف وما يحمل من عبر.
لقد جعل الله تعالى في هذه الدار الفانية دار الدنيا أزمانًا وأمكنة وأوقاتًا تُذكّر بالآخرة تُذكر بالجنة وتذكر بالنار، فمن الأزمان فصل الربيع الذي يُذكّر طيبه بنعيم الجنة وطيبها، ومن الأوقات وقت السحر الذي يذكّر برده ببرد الجنة،، وفي الحديث الذي أخرجه الطبراني قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الجنة تُفتح في كلّ ليلة في السحر، فينظر الله إليها، فيقول لها: ازدادي طيبًا لأهلك، فتزداد طيبًا، فذلك برد السحر الذي يجده الناس». وروي أن داود-عليه السلام-قال: يا جبريل، أي الليل أفضل؟ قال: «ما أدري غير أن العرش يهتز إذا كان من السحر». تلكم ـ عباد الله -سبحانه وتعالى- تذكِّر بنعيم الجنة.
وأما ما يُذكّر بالنار وحرّها وزمهرير ها ـ أجارنا الله منها ـ
فنحن نعيش هذه الأيام موعظةً بليغة ودروسًا عظيمة، يشهدها الأعمى والبصير، ويدركها الأصم والسميع، إلاّ أنها لا تُؤتي أُكلها إلاّ حين تصادف من كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.
نعيش هذه الأيام مع واعظ الصيف، فهل أصغت قلوبنا لموعظته؟! وهل وعينا درسه؟! هلمّ فلنقف قليلًا مع الصيف وما يحمل من عبر.
مَن مِنا الذي لم يؤذه حر الصيف، ولا لفح وجهَهُ سَمومُه؟! كلنا وجد من ذلك نصيبًا قل منه أو كثر، فأيُّ شيءٍ تعلمناه من الحر؟
إن شدة الحر من فيح جهنم، وعند ابن ماجه بإسناد صحيح قال -صلى الله عليه وسلم-: «اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضًا، فجعل لها نَفَسين: نَفَسٌ في الشتاء، ونَفَسٌ في الصيف، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر من سمومها» (أخرجه البخاري في المواقيت الخلق (537)، ومسلم في المساجد (617) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وفيه تقديم وتأخير).
أيها الأحبة، إنّ شدة الحر التي يجدها من وقف حاسر الرأس حافي القدمين في حرِّ الظهيرة ما هي إلاّ نَفَسٌ من فيح جهنم، نعوذ بالله منها ومن حرها، كان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: «اللهم إني أعوذ بك من فتنة القبر، ومن فتنة الدجال، ومن فتنة المحيا والممات، ومن حرِّ جهنم» (أخرجه الحاكم من حديث ابن مسعود وقال صحيح الإسناد وليس كما قال إلا أنه ورد مفرقا في أحاديث جيدة الأسانيد).
في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم»، قالوا: والله إن كانت لكافية! قال -صلى الله عليه وسلم-: «إنها فُضّلت عليها بتسعة وستين جزءًا كلهن مثل حرّها».
فحقٌ على العاقل أن يسأل نفسه وهو يتقي حرّ الدنيا: ماذا أعدّ لحرِّ الآخرة ونارها؟
يا من لا يصبر على وقفة يسيرة في حرِّ الظهيرة، كيف بك إذا دنت الشمس من رؤوس الخلق، وطال وقوفهم، وعظم كربهم، واشتد زحامهم؟! روى الإمام مسلم عن المقداد بن الأسود -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله يقول: «تُدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا»، قال: وأشار رسول الله بيده إلى فيه.
تلكم نارُ الآخرة، وذاك حرُّ الموقف، فأين المتقون؟!
اللهم إن أجسادنا لا تقوى على النار، فأجرنا منها يا رحيم.
رأى عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قومًا في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل، وتوقوا الغبار، فأبكاه حال الإنسان يألف النعيم والبهجة، حتى إذا وسِّد قبره فارقهما إلى التراب والوحشة، وأنشد:
من كان حين تُصيبُ الشمـــس *** جبهته أو الغبارُ يخافُ الشَينَ والشَعثا
ويألف الظلَّ كي تبقى بشاشته *** فسوفَ يسكنُ يومًا راغمًا جدثًـــــــــــا
في ظل مقفرةٍ غبراءَ مظلمـــةٍ *** يُطيلُ تحت الثرى في غمها اللبثـــــــــا
تجهزي بجهازٍ تبلغين بــــــــــه *** يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثـــــــا
هل سألت أخي المصلي عن الأعمال والعوازل؛ التي تنجّي صاحبَها من حر شمس يوم القيامة، وتحفظه في ظل الله يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه؟
إنها عوازلُ أخبر بها رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- هي أعمالٌ صالحة أُمِرْنا بالتحلّي بها لنستظلّ بسببها تحت ظل عرش الرحمن في ذلك اليوم العصيب؛ ومن استظل تحت ظل العرش، سيمر عليه يوم القيامة كقَدْرِ الانتظار ما بين الظهر والعصر. فقد أخرج الحاكم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا قال: «يوم القيامة على المؤمنين كقدْر ما بين الظهر والعصر».
العازل الأول: إنظارُ المعسِر حتى يسدد دينه أو تخفف الدين عنه؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من أنظر معسرًا، أو وضع له، أظله الله يوم القيامة، تحت ظل عرشه، يومُ لا ظلَّ إلا ظلُّه» (رواه الإمام أحمد، والترمذي). وفي رواية أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن أول من يستظلُّ في ظل الله يوم القيامة لرَجُلُ أنظر معسرًا أو تصدق عنه» (رواه الطبراني بإسناد حسن). وروى أبو قتادة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ نَفَّسَ عن غريمه أو مَحَا عنه؛ كان في ظل العرش يوم القيامة» (رواه مسلم وأحمد).
العازل الثاني: الجهاد في سبيل الله بالمال؛ فقد روى سَهل بن حُنَيف عن أبيه -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من أعان مجاهدًا في سبيل الله، أو غارمًا في عُسْرَتِه، أو مكاتَبًا في رَقَبَتِه، أظله الله يوم لا ظل إلا ظله» (رواه أحمد، والحاكم).
العازل الثالث: التحاب في الله-عز وجل-وليس لأجل مصلحة دنيوية؛ فقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يقول الله تعالى يوم القيامة: أين المتحابون لجلالي، اليوم أظِلُّهم في ظلِّي يوم لا ظل إلا ظلي» (رواه الإمام مسلم، وأحمد). وروى معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «المتحابون في الله على منابر من نور في ظل العرش يومَ لا ظلَّ إلا ظله» (رواه أحمد، والطبراني).
العازل الرابع: حفظُ سورتي البقرة وآل عمران؛ فقد روى بُرَيْدَة الأسْلَمي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «تعلّموا البقرةَ وآلَ عمران فإنهما الزَّهْراوان يُظلاّن صاحبَهما يوم القيامة كأنهما غَمامَتان أو غَيايَتان أو فِرقان من طيرٍ صوافَّ» (صحيح مسلم (804) عن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- ).. وروى النواس بن سمعان -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «يأتي القرآنُ و أهلهُ الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمُه سورةُ البقرة وآلُ عمران يأتيان كأنهما غَيابتَان وبينهما شَرْقُ أو كأنهما غَمامَتان سَوداوان، أو كأنهما ظُلَّتان من طَيرٍ صَوَافَّ يجادلان عن صاحبهما» (رواه مسلم، وأحمد، والترمذي). فاحفظ ـ أخي المصلي ـ هاتين السورتين بدلًا من حفظ الأغاني التي لا تزيد القلب إلا نفاقًا وفسقًا وبعدًا عن الله.
العازل الخامس: الصدقة على الفقراء والمحتاجين؛ فقد روى عُقْبَة بن عامر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «الرجل في ظل صدقته حتى يُقْضَى بين الناس» (رواه أحمد، وابن خزيمة). وفي رواية قال -صلى الله عليه وسلم-: «كلُّ امرئٍ في ظلّ صدقتِه حتى يُقضى بين الناس». فَحَرِيٌّ بكل مسلم أن يكثر من الصدقات ليستظل بها في يومٍ؛ شديدٌ كرُبه؛ يغرق فيه الناسُ في عَرقهم».
ومن العوازل ما ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي أخرجه الشيخان وأحمد والنسائي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
«سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادل، وشابٌ نشأ في عبادة الله، ورجلٌ قلبه معلقٌ بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله فاجتمعا على ذلك وافترقا عليه، ورجلٌ ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجلٌ دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجلٌ تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».
فكُن أخي أحدهم تفز بظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله.
أيها المؤمنون: لئن كنا نتقي الحرَّ بأجهزة التكييف والماء البارد والسفر إلى المصائف، وكل هذه نعمٌ تستوجب الشكر، فهل تأملنا وتفكرنا كيف نتقي حرَّ جهنم؟ كيف ندفع لفحها وسمومها عن أجسادنا الضعيفة ووجوهنا المنعمة؟
يقول -صلى الله عليه وسلم-: «من صام يومًا في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم حرَّ جهنم عن وجهه سبعين خريفًا» (رواه النسائي بإسناد صحيح).
صيام الهواجر ومكابدة الجوع والعطش في يوم شديدٍ حرُّه بعيدٍ ما بين طرفيه، ذاك دأب الصالحين وسنة السابقين، والمحروم من حُرم. يقول أبو الدرداء -رضي الله عنه-: «صوموا يومًا شديدًا حره لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور».
أيها المؤمنون: إن من أعظم ما يُدفع به العذاب وتُتقى به النار الاستكثار من الحسنات والتخفف من السيئات، فذاك هو الزاد، وتلك هي الجُنّة، واللهِ لَلَّه أرحم بنا من أمهاتنا، ولكنه يريد التائب المقبل المنيب.
عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: « لقد رأيتنا مع رسول الله في بعض أسفاره، في اليوم الحار الشديد الحر، وإن الرجل ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما في القوم أحد صائم إلا رسول الله وعبد الله بن رواحه». (رواه ابن ماجه بإسناد صحيح).
خرج ابن عمر-رضي الله عنهما-في سفر معه بعض أصحابه، فوضعوا سفرة لهم، فمر بهم راعٍ، فدعوه إلى أن يأكل معهم، فقال: إني صائم، فقال ابن عمر: في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وأنت صائم؟! فقال: أُبادر أيامي هذه الخالية.
نزل الحجاج في بعض أسفاره بماءٍ بين مكة والمدينة، فدعا بغدائه ورأى أعربيًا، فدعاه إلى الغداء معه، فقال: دعاني من هو خير منك فأجبته، قال: ومن هو؟ قال: الله تعالى، دعاني إلى الصيام فصمت، قال: في هذا الحر الشديد؟! قال: نعم، صمتُ ليوم أشدّ منه حرًّا، قال: فأفطر وصم غدًا، قال: إن ضمنت لي البقاءَ إلى غدٍ، قال: ليس ذلك إليَّ، قال: فكيف تسألني عاجلًا بآجل لا تقدِر عليه؟!
فهلموا ـ عباد الله -سبحانه وتعالى- نبادر أيامنا الخالية، حتى تلتذ أسماعنا، وما ألذه من مقال، يوم يُقال: {كُلُوا واشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} ﴾ [الحاقة: 24].
لما مرض معاذ بن جبل -رضي الله عنه- مَرَضَ وفاته قال في الليلة التي تُوفي فيها: «أعوذ بالله من ليلةٍ صباحها إلى النار، مرحبًا بالموت، حبيبًا جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الليل ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلَقِ الذكر».
هنيئًا لك ـ يا معاذ ـ أن يكون هذا أسفك على الدنيا، وهذا حُزنك على فراقها.
في غزوة تبوك اُبتلي الناس بالخروج للجهاد، في زمن عُسْرة وشدة من الحرِّ وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، فخرج المؤمنون الصادقون، وقعد الذين في قلوبهم مرض، {ولَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ولَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا ولْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة: 81-82].
عباد الله، إن هذا الحر له غاية مهما طالت أيامه، فبعد الحر يأتي الجو البارد، وهكذا الدنيا لا يدوم لها حال، وهذا أعظم تنبيه للمسلم كي يدرك أن الشيء لا يدوم في هذه الدنيا، فالدنيا حر وبرد، غنى وفقر، قوة وضعف، عز وذل، صحة ومرض، حياة وموت، ضيق وفرج، وفي هذا تنبيه للظالم أن ينتظر دوران الدائرة عليه، وتسلية للمكروب المبتلى الذي ينتظر فرج الله، وكثير من المسلمين اليوم في بقاع شتى يعيشون ظلمًا واضطهادًا ولا يعلم مداه إلا الله، فلهم بشرى فإن الحال لا تدوم.
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها *** فُرجت وكنت أظنها لا تفرج
هذا وصلوا – عباد الله: – على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. [الأحزاب: 56] اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين…
___________________________________________________
الكاتب: د. أمير بن محمد المدري
Source link