منذ حوالي ساعة
مخطئ من يظن أن الحراك الطلاب في الجامعات الأمريكية يتعلق فقط، كما هو مرفوع من شعارات بما يحدث في غزة من مجازر، بل الأمر يتعداه إلى ما يمكن تصوره إلى أنه ثورة على مفاهيم وقيم وأفكار تأسست عليها الولايات المتحدة.
إذا كانت فرضية أن الحراك الطلابي الأمريكي لم يعد يتعلق فقط بالحرب الدائرة في غزة فلنا أن تتساءل عن دافع هذه المظاهرات، ومن الطبيعي أن يكون السؤال الذي يجب أن يتبع هذه الفرضية: هل تستطيع هذه المظاهرات أن تحسم من يحكم أمريكا في الرئاسة والكونجرس في الانتخابات القادمة؟
لقد أصبح هناك صراع فعلي بين اللوبي الصهيوني الذي يأتي سواء بالرئيس أو بالكثيرين من أعضاء الكونجرس بمجلسيه النواب والشيوخ عن طريق التمويل، وبين المظاهرات وانتشارها. فهل لهذه التظاهرات قدرة على تغيير الرأي العام تجاه الكيان الصهيوني، وإسقاط كل من يؤيدها في الكونجرس في أي انتخابات قادمة، ومن هنا تفقد ورقة الكونجرس كداعم للكيان الصهيوني قيمتها؟
ولكن آخرين يرون في هؤلاء الطلبة المتظاهرين مجرد شباب في العشرينات من العمر، ولن يستطيعوا أن يكونوا فئة حاسمة بانتخابات الكونجرس، خاصة أن معظمهم عرب ومسلمون، وأقلية بيضاء تنتمي إلى التيار اليساري الأمريكي الليبرالي، فهم يعبرون عن شريحة ليست كبيرة في المجتمع الأمريكي.
ولذلك لفهم تلك التساؤلات ينبغي في البداية محاولة إدراك ومعرفة من يحرك هذه المظاهرات؟ من هي المجموعات التي تمثل لب القوة المحركة، ما خلفيتها الفكرية والثقافية، وما وضعها داخل المجتمع الأمريكي؟
مظاهرات واعتصامات مشهد بدا غير مألوف في الولايات المتحدة، الآلاف من الطلاب يتظاهرون داخل الجامعات ويعتصمون داخلها، وبعض هذه الجامعات يُطلق عليها جامعات النخبة. وسرعان ما امتدت شرارة الاحتجاجات من أقصى الولايات المتحدة في الشمال الشرقي في ولاية ماساتشوستس إلى أقصى الغرب حيث كاليفورنيا، حتى بلغ عدد الجامعات في آخر الأسبوع الماضي أكثر من 40 جامعة وكلية أمريكية، والمثير في الأمر أن هناك جامعات في العالم قد انضمت إلى احتجاجات الطلاب الأمريكيين تجاه حملات التطهير العرقي الصهيوني في غزة.
فاندلعت مظاهرات واعتصامات في جامعات في أستراليا وكندا وفرنسا وألمانيا. والملاحظ أنه كلما تعرضت الاعتصامات في الجامعات الأمريكية للقمع وازداد الضغط الأمني، كلما امتدت شرارة المظاهرات واتسعت، وتشير صحيفة واشنطن بوست لاعتقال 900 متظاهر على الأقل في احتجاجات الجامعات الأمريكية بالأيام الـ 10 الماضية.
من هؤلاء الشباب؟ ومن أين جاءوا؟ وما نسبتهم من الشباب داخل أمريكا؟ قبل شهر ونصف، أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة غالوب الأمريكية والمتخصصة في ذلك المجال، أن 58% من الأمريكيين لا يزال لديهم رأي إيجابي تجاه إسرائيل مقابل 68% صوتوا لدعمها العام الماضي و75% في عام 2021. وبحسب الاستطلاع كان هناك انخفاض حاد خاصة بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18-34 عاما، حيث أظهر 38% منهم وجهة نظر إيجابية تجاه إسرائيل، مقارنة بـ 64% العام الماضي. أما بين كبار السن الذين تزيد أعمارهم على 55 عاما، فلم يحدث أي تغيير ملحوظ. وأشار منظمو الاستطلاع إلى أن هذه هي أدنى نسبة دعم لإسرائيل منذ أكثر من عقدين.
بينما بيّن الاستطلاع الذي أجراه مركز بيو للأبحاث في نفس الفترة، أن نحو نصف سكان الولايات المتحدة لا يعرفون الطرف الذي خسر عدداً أكبر من الضحايا. ولكن توافق استطلاع بيو على ما أجراه مركز غالوب في أن نسبة الشباب من الأمريكيين والذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاماً قد بلغت 60% والذين عبروا عن وجهات نظرهم المفضلة تجاه الشعب الفلسطيني، بينما كان لدى 36% وجهات نظر مفضلة تجاه الإسرائيليين.
وبالبحث في مواقع التواصل على من هم الفئة أو المجموعات التي بدأت ذلك الحراك، وجدنا أن الجميع يكاد يتفق على أن مبدأ تلك الاحتجاجات هما مجموعتان من أصول فلسطينية: هذه الركيزة تتمثل في المهاجرين البيض البروستانت والذين أسسوا أمريكا وحكموها، حيث تحولت فلسطين في الضمير البروتستانتي من الأرض المقدسة للنصارى إلى أرض الشعب المختار، تمهيداً لقدوم المسيح في مفهومهم المنحرف المجموعة الأشهر والأكبر تأثيرًا هي طلاب من أجل العدالة لفلسطين أو (Students for Justice in Palestine)، ونظمت المجموعة بعض المعسكرات التي انتشرت في الحرم الجامعي في الأسبوع الماضي، ومنذ 7 أكتوبر، تم حظر أو تعليق بعض فروع المجموعة في الحرم الجامعي من قبل المسؤولين الذين يقولون إن مظاهراتهم وشعاراتهم وهتافاتهم الاحتجاجية تنتهك سياسات الجامعات، بعد أن رفع الطلاب شعارات تشمل سحب الاستثمارات من الإبادة الجماعية الصهيونية الآن، والمجد لشهدائنا، وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وتمتاز هذه المجموعة بعدم مركزية الحركة واستقلالية فروعها في كل جامعة، من دون أن يعني ذلك بالضرورة عدم التعاون فيما بينها، كما أن العضوية لا تقتصر على الفلسطينيين أو الأشخاص من أصول فلسطينية، بل إن أعداداً كبيرة من أعضائها ليسوا فلسطينيين، وإنما يجمعهم الفكر الداعم لحقوق الإنسان والمعارض لاحتلال فلسطين ودعم مقاطعة الاحتلال.
وهناك مجموعة أخرى أقل تأثيرا تُسمى حركة الشباب الفلسطيني أو (Palestinian Youth Movement). وهذه المجموعات تعمل منذ سنين في أمريكا، وهي التي نظمت في البداية المظاهرات في الشوارع الأمريكية ثم تمكنت من نقلها إلى داخل الجامعات الأمريكية حيث تعاطف معها العديد من الطلاب سواء من البيض أو الأمريكان من أصول أجناس أخرى. بل انضمت لهم مجموعة يهودية من الذين يرفضون الصهيونية وتدعى الصوت اليهودي من أجل السلام أو (Jewish Voices for Peace). وفي إحدى بيانات تلك المجموعة اليهودية تقول فيه: علينا أن نكون على استعداد لفعل أي شيء من أجل فلسطين، وليس فقط بالكلمات. علينا أن نكون مثل إخواننا، جنودنا في غزة، جنود المقاومة، فحماس ليست إرهابية.
إنهم الوحيدون الذين يقاتلون من أجل الفلسطينيين. وتقول أيضا: إن فكرة “الإسرائيليين المدنيين” هي مجرد أسطورة. لا يوجد مدنيون إسرائيليون، ويمكن معاملة جميع الإسرائيليين كجنود في ساحة المعركة: والمستوطنون الصهاينة هم إما جنود حاليون أو مستقبليون في احتياطيات قوات الاحتلال الإسرائيلي أو قدامى المحاربين.
دوافع ثورة الجامعات الأمريكية لماذا ثار طلاب الجامعات الأميركية وأساتذتهم؟ لماذا يضحون حتى بمستقبلهم الوظيفي ومصالحهم الشخصية من أجل شعبٍ بعيد يقع في العالم الثالث كما يحلو لهم تقسيم العالم؟ لا شك أن هناك سردية أو ركيزة فكرية قامت عليها أمريكا منذ ظهورها منذ قرنين من الزمان. هذه الركيزة تتمثل في المهاجرين البيض البروستانت والذين أسسوا أمريكا وحكموها، حيث تحولت فلسطين في الضمير البروتستانتي من الأرض المقدسة للنصارى إلى أرض الشعب المختار، تمهيداً لقدوم المسيح في مفهومهم المنحرف.
ومما قوّى هذه الأفكار التجارب التي مر بها المهاجرون البروتستانت من أوروبا إلى أمريكا، حينما قارنوا بينها وبين التجارب التي مر بها اليهود القدماء عندما فروا من ظلم فرعون إلى أرض فلسطين. ثم جاء دور الرؤساء الأمريكيين في دعم الحركة الصهيونية، وزاد هذا الدعم في بداية الأربعينيات مع انتقال مركز الثقل في النظام العالمي إلى الولايات المتحدة.
وكما عبّر الكاتب اليهودي الأمريكي جون بيتر عن واقع أمريكا سابقاً ولاحقاً بقوله: إن الرؤساء الأمريكيين ومعاونيهم ينحنون أمام الصهاينة كما ينحني العابد أمام قبر. ولكن ما الذي غير تلك الفكرة الراسخة في الوجدان الأمريكي؟ لا شك أن طوفان الأقصى ورد فعل الكيان الصهيوني عليه بزعامة نتانياهو هو الذي أحدث زلزالا وانقلابًا على كل تلك الأفكار والسرديات الراسخة. يلخص السفير الأمريكي الأسبق لدى دولة الكيان تشارلز فريمان دوافع غضب الأمريكيين بعد حرب غزة، والذي بدأت تعبر عنه قطاعات من النخبة الأمريكية بقوله في حديث متلفز: إن إسرائيل تُجسد قيم “كو كلوكس كلان” (وهي منظمة إرهابية أمريكية عنصرية)، وأنا لا أتشارك معها هذه القيم، كل ما تفعله إسرائيل إيقاعنا في المشاكل، إن ما يحدث في غزة هو عقاب جماعي. ثم طرح فريمان الأسئلة التالية في نهاية المقابلة التلفزيونية: يتساءل جزء كبير من العالم الآن: هل تستحق إسرائيل الوجود؟ هل يمكن الحفاظ على علاقات طبيعية مع دولة تتصرف بشكل غير إنساني وتتجاهل القانون الدولي؟ هكذا بدا الكيان الصهيوني في عيون أكبر داعميه.
خطورة تلك المظاهرات ويتبقى السؤال الأهم عن قدرة ذلك الحراك الشبابي على إحداث تغيير عميق في السياسة الأمريكية؟ على المدى القريب من المفترض أن من قاموا بتلك المظاهرات وأسرهم كانوا من الداعمين لبايدن وسيكون لهم تأثير على نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وبايدن بالتالي أكبر الخاسرين من ذلك الحراك.
أما على المدى البعيد، هؤلاء الطلاب هم أساسا من النخبة السياسية الأمريكية، وسيصبحون مؤثرين في القرار الأمريكي خلال سنوات معدودة، فسيصبح منهم أعضاء مجلس النواب أو الشيوخ أو وزراء، وسيلمس الناس أثرهم على توجهات السياسة الأمريكية وخاصة ما يتعلق منها بالتعامل مع الكيان الصهيوني كضحية أو طفل مدلل خلال عقد من الزمان أو أكثر قليلا، ولكنه لن يطول.
______________________________________________________
الكاتب: حسن الرشيدي
Source link