كيف يسيطر أصحابُ الأفكار الضالَّة على الشباب الصِّغار، ويُضلِّلون أفكارَهم، ويجتذبونهم إليهم بالأسلوب الجذَّاب المثير المشوق.
دُعِيتْ إحدى الداعيات إلى أحد المراكزِ؛ لتلقيَ محاضرةً عن الصلاة، تُذكِّر بها الغافلات، وتُحمِّس الصغيراتِ للحفاظ على هذا الرُّكن العظيم، الذي كثُر فيه التهاون والتقصير.
استهلَّتْ محاضرتها بأسلوب جذَّاب منمَّق، واسترسلتْ به تُثير حماسَ الحاضرات، وأوضحتُ لاحقًا بأنَّها تمتلك دوراتٍ في طرُق الدعوة وأساليبها، والحقُّ أنها كانت تمتلك أسلوبًا مميزًا، شائقًا مثيرًا جدًّا، مما شدَّ انتباهَ جميع من حضَر، وألْزمهم الصمت إصغاءً لها، لكن المدهش حقًّا في الأمر: أنَّها كانت تُلقِي معلوماتٍ مغلوطةً، بعيدةً كلَّ البعد عن الصواب، وشروحًا غير صحيحة للآيات والأحاديث، ممَّا أوقف انبهارَنا بكلِّ ما بدأتْ به من تشويق، وأحْبط تأملاتنا، وأرْخى اهتمامنا بما تُلقِي.
إلا أنَّ مَن يجهل خطأَ ما تُلقيه تلك الداعية مِن معلومات استمرَّ في الاستماع لها حتى النهاية، دون أن يُدرِكَ خطورةَ ما تتكلَّم به.
لا تزال تلك الحادثةُ حاضرةً في ذِهني، كلما تذكرتها أَعْجب؛ كيف لا يأبه إنسانٌ أن يتحمَّل وِزرَ كلِّ مَن يضلله (ولو جهلاً) من الخلْق، خصوصًا غيرَ المتعلِّمين، وقليلي العلم، وإنْ كنا جميعًا قليلي العلم، فمهما علمنا فما بلَغْنا منه إلا قليلاً.
كان ممَّن حضر الكثيرُ من الأمَّهات الكبيرات غير المتعلِّمات، والكثير جدًّا من الأطفال والشابَّات الصغيرات اللاتي يجهلْنَ خطأ ما ورد من معلومات، والتي لا شكَّ أنها أثَّرت فيهنَّ، خصوصًا وأنَّ الأسلوب الملائِم للعرْض كان كفيلاً بإعطائها كاملَ انتباههن واهتمامهنَّ.
أدْركتُ كيف يسيطر أصحابُ الأفكار الضالَّة على الشباب الصِّغار، ويُضلِّلون أفكارَهم، ويجتذبونهم إليهم بالأسلوب الجذَّاب المثير المشوق.
إنَّ ما فعلتْه تلك الداعيةُ – هدانا الله وإياها للصواب – كان بدافعِ الخير، والحثِّ على التمسُّكِ بالدِّين، والخوف مِن الله، والبُعد عن الآثام، ولكنَّها أخطأتِ الوسيلة، ففيما ورد في القرآن الكريم، وفيما صحَّ من أحاديث الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – كفايةٌ، فلا حاجةَ للتخويف بما لم يُخوِّفْ به اللهُ عبادَه، ولا للترغيب بما لم يُرغِّبْهم فيه الله.
ومِن المعلوم: أنَّه لا يُقبل العمل ما لم يكن موافقًا لما أتَتْ به الشريعة، ولو كان في ظاهرِه الخير والصلاح، فالرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – لم يقبلْ مِن الذي يصوم ولا يُفطر، والذي يقوم ولا ينام الليل – أعمالَهم، وأرْشدَهم إلى ترْكها؛ لأنَّها وإن كانتْ في ظاهرها أفعالَ خير، إلا أنَّها مخالِفة لما شرَعه الله، وهو أدْرى بخلْقه، وبما يصلُح لهم.
وتستوي هذه الأفكار الضالَّة – والتي ظاهرُها الصِّحَّة – بتلك الأفكار الإلْحادية في تغييبها للفِكر والرشد، وزيْغها عن جادَّة الصواب، ومخالفتها للمنهج السليم، فهؤلاء انحرفوا يمينًا وهؤلاء يسارًا، ودِين الله هو دينُ الاستقامة والوسطية، لا غلوَّ ولا تقصير، ولا إفراطَ ولا تفريط؛ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
وهذه السُّبُل المتفرِّقة هي التي تسعَى لتقويض كيان الأمَّة وتشتيتها، وزرْع الفِتن في أرجائها، فكلٌّ منها يرى أنَّه على صواب، بتتبعه غيرَ نهْج الله وشرْعه، وما قادَهم لذلك إلاَّ الجهلُ، وقلَّةُ العِلم.
قال سماحة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ: “إنَّ تخدير العقول بالأفكار الإلْحادية، والآراء الضالَّة المضللِّة مثلُ المخدِّرات والمسكِرات، وما تفعله من تخدير للعقول، وإنَّ خطر تخدير عقول الأُمَّة بالأفكار الإلْحادية، والآراء الضالَّة، ومحاولة مهاجمة آدابِ الإسلام، والسعي في نشر المنكَرات، والدعوة لتعطيل شرْع الله، ونشْر الفساد الأخلاقي، والآراء المنحلَّة، والدعوة لتحرير المرأة المسلِمة من الْتِزامها ودِينها وعفَّتها – يُعدُّ من الإفساد في الأرْض”[1].
والتجاوز مرفوضٌ في أيِّ اتجاه كان، فالأفكار الضالَّةُ التي تستغلُّ الشبابَ، سواء الملحدة أو المغالية المتطرِّفة، لا تؤدِّي بالفرْد إلا إلى الضياع والتخبُّط، وهي تيَّاراتٌ تستغلُّ مشاعرَ وعواطفَ الشباب واندفاعَهم، فتوجِّهها كيف تشاء.
وهنا يأتي دَوْر الرقابة والمسؤولية، فكلُّ راع مسؤول عن رعيَّتِه، وعن حمايتهم وحِفْظهم من الانحراف، فالمحاضِرة التي ألْقَتْ بتلك الضلالات مُنعَتْ من الحضور مرَّةً أخرى، وإنْ كان الواجب التنبُّه إلى ذلك قبلَ استدعائها.
ومِن الجميل أنْ تقوم المدارسُ بالتوعية، والتعريف بالأفكار الضالَّة، وتمييزها عن الفِكْر الرشيد السليم، ويتوجَّب على الأُسرة في منازلها، والمجتمع بوسائله التعريفُ بشكل دقيق للفِكر الدِّيني الصحيح، والتحذير مِن الابتداع، والواجِب على كلِّ راعٍ أن يعمل في مجاله، فالمدارس تنبِّهُ وتوجِّه، والمنابر تُحذِّر وتنفِّر، والأسر تَرْعَى وتتابع، وتحصِّن الأبناء؛ فالوقاية خيرٌ من العلاج.
اللهمَّ إنا نعوذ بك من مضلاَّت الفِتن، ما ظهَر منها وما بطَن.
[1] المصدر جريدة المدينة.
______________________________________________
الكاتب: شريفة الغامدي
Source link