تعلَّموا العلم؛ فإنَّ تعلُّمه لله خشية، وطلبَه عبادة، ومُذاكَرته تسبيحٌ، والبحث عنه جِهادٌ، وتعليمه لِمَن لا يعلَمُه صدقة، وبذله لأهله قربة؛ لأنَّه معالم الحلال والحرام، ومَنار سبيل أهل الجنة…
اعلَموا عبادَ الله أنَّه لا يتمُّ للمرء الاتِّصافُ بحقيقة التَّقوى والاستِمساكُ التامُّ بالعروة الوثقى إلاَّ بالعلم الشرعي المنزَّل على محمد صلَّى الله عليه وسلَّم فإنه بهذا العلم يَعرِف المرء حقَّ الله على عباده، وما لكلِّ عاملٍ أو عليه عند الله يوم معاده، فمن سعادة المرء أنْ يكون فقيهًا في دينه، عامِلاً بعلمه، وداعيًا إليه ابتِغاءَ وجهِ ربِّه؛ ولذا قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَن يُرِد الله به خيرًا، يُفَقِّهه في الدِّين».
فالفقه في الدِّين والعمل به عن إخلاصٍ لربِّ العالمين من آيات السعادة، ومن أسباب نَيْلِ الحسنى والزِّيادة؛ إذ الفقه في الدِّين سببٌ لمعرفة الحكم والأحكام، والتمييز بين الحلال والحرام، وأداء حقِّ الله على وجهٍ صحيح، والتوبة إلى الله من القبيح؛ ولذا امتنَّ الله تعالى على سليمان عليه السلام بما خصَّه به من الفَهْمِ، وأمر محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يطلب المزيد من العِلم، فكان صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «اللهم علِّمني ما ينفَعُني، وانفَعني بما علَّمتني، وزِدني عِلمًا».
والحمد لله على كلِّ حال، ذلكم يا عبادَ الله لأنَّ العلم النافع والعمل الصالح داخِلان في معنى الحكمة المنصوص عليها في مُحكَم الكتاب: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269].
عباد الله:
تعلَّموا العلم؛ فإنَّ تعلُّمه لله خشية، وطلبَه عبادة، ومُذاكَرته تسبيحٌ، والبحث عنه جِهادٌ، وتعليمه لِمَن لا يعلَمُه صدقة، وبذله لأهله قربة؛ لأنَّه معالم الحلال والحرام، ومَنار سبيل أهل الجنة، وهو الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدِّث في الخلوة، والدليل على السرَّاء والضرَّاء، والسِّلاح على الأعداء، والزَّين عند الأخلاَّء، يرفَعُ الله به أقوامًا فيجعلهم في الخير قادَةً تُقتَفَى آثارهم، ويُقتَدى بفعالهم، ويُنتَهى إلى رأيهم، وترغَبُ الملائكة في مُجالَستهم، وبأجنحتها تحفُّهم، ويستَغفِر لهم كلُّ رطبٍ ويابس، وحِيتان البحر وهوامه، وسِباع البر وأنعامه؛ لأنَّ العلمَ حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، يبلَغُ العبد بالعلم منازل الأخيار والدَّرجات العلى في الدنيا والآخِرة، التفكُّر فيه يعدل الصيام، ودِراسته تعدل القيام، به تُوصَل الأرحام، وبه يُعرَف الحلال من الحرام، وهو إمام العمل والعمل تابعه، يُلهَمه السُّعَداء، ويُحرَمه الأشقياء.
أيها المسلمون:
تعلَّموا كتابَ الله وعلِّموه أولادَكم ونساءَكم؛ فإنَّه أفضَلُ الحديث، وتفقَّهوا فيه؛ فإنَّه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره؛ فإنَّه شفاءٌ لما في الصدور، وأحسِنُوا تلاوته؛ فإنَّه أحسن القصص، وإذا قُرِئ عليكم فاستَمِعوا له لعلَّكم تُرحَمون، وما هُدِيتُم لعِلمِه فاعمَلُوا به لعلَّكم تهتدون.
ألاَ وإنَّ العَالِم العامل بغير علمه، كالجاهل الحائر الذي لا يستَقِيم عن جهله، بل إنَّ الحجَّة أعظَمُ والحسرة أدوَمُ على هذا العَالِم المنسَلِخ من عمله، من ذاك الجاهل المتحيِّر في جهله، وكلاهما مُضلٌّ مثبور، والسعيد مَن علم خيرًا فعمل بِرًّا، وقدَّم ذخرًا، وورث هُدًى ينتَفِع به من بعده، جعلَنِي الله وإيَّاكم من السُّعَداء في الدُّنيا والآخِرة، وأعاذَنا من حال الجاهِلين، ومآل الأشقِياء الخاسرين.
أيها المؤمنون:
رُوِي عن أمير المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه أنَّه قال: “الناس ثلاثة: فعالِمٌ رباني، ومتعلِّم على سبيل نَجاة، وهمج رعاع أتباع كلِّ ناعق، يَمِيلون مع كلِّ ريح، لم يستَضِيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى رُكنٍ وَثِيقٍ، العلم خيرٌ من المال؛ العلم يحرُسك وأنت تحرُس المال، والعِلم يَزكُو مع الإنفاق والمال تنقصه النَّفَقة، العلم حاكمٌ والمال محكومٌ عليه، ومحبَّة العلم دين يُدان لله بها، والعلم يكسب العالم الطاعة في حَياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، وضيعة المال تزول بزَواله، مات خُزَّان الأموال وهم أحياء، والعُلَماء باقون ما بقي الدَّهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة”.
أيها المؤمنون:
مَن أورَثَه الله علمَ الكتاب والسنَّة فقد اصطَفاه، ومَن استَشهَد به على تَوحِيده وصدق وعده فقد عدَّله وزكَّاه وارتَضاه، ومَن شهد الله له بكمال الخشية منه فقد أحبَّه وأدناه، وما أعظم ما أعدَّ له من النَّعِيم وألوان التَّكرِيم والرِّضوان في أخراه، وكيف لا وقد جعَلَه الله في الدارَيْن في درجةٍ تَلِي درجة النبيِّين؟ وكلُّ ذلك ممَّا اختَصَّ الله به العُلَماء العاملين، وذلك هو الفضل المبين.
يقول تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32]، وقال عزَّ وجلَّ: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49]، وقال سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18]، وقال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28].
وقال – جل ذكره -: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52]، وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].
وفي الصحيح عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «مَن سلَك طريقًا يلتَمِس فيه عِلمًا، سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة».
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنَّ العُلَماء ورَثَة الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يورثوا دِينارًا ولا دِرهمًا؛ إنما ورثوا العلم، فمَن أخَذَه أخَذَ بحظٍّ وافر»، وجاء عنه صلَّى الله عليه وسلَّم في الشَّفاعة: أنَّ أوَّل مَن يَشفَع الأنبياء، ثم العُلَماء، ثم الشُّهَداء.
ففي هذه النُّصوص الكريمة ما يُحفِّز العاقل ذا الهمَّة العالية على طلب العلم والاشتِغال به، فإنْ أدرَكَ ذلك فازَ بتلك الكَرامات، وإنْ مات قبل بُلوغ الغاية فحسبُه أنَّه مات في طريق الجنَّة والأعمال بالنيَّات، فتعلَّموا العلم عبادَ الله صِغارًا وكِبارًا، ورجالاً ونساءً، تعرفوا أحكام دينكم، وتفوزوا بما وعَدَكم ربكم من الخير في العاجل والآجل، جعلني الله وإياكم من العُلَماء العاملين المخلصين، وجنَّبنا طريق المغضوب عليهم والضالين، وحشَرَنا في زُمرة الأئمَّة المتَّقين.
عباد الله:
إنَّ كثيرًا من الناس اليوم أعرَضُوا عن العلم الشرعي النافع المبارَك؛ لأنَّه – في نظرهم – لا يخدمهم في أمور الحياة، فشغلوا أوقاتهم بغيره، وصدُّوا عن طاعة الله وذكره، وضيَّعوا أوقاتهم في العكوف على الملاهي، وصارَ الواحد يُجاهِر بمعصية الله ويُباهِي، ويتنافَسُون في معرفة اللغات الأجنبيَّة، والمسالك الكفريَّة؛ من أجل التجارات، وتحقيق المباهاة، ويبذلون جُهدهم في ذلك، ويخسرون كثيرًا من أموالهم في سبيل ذلك، وكم يتعرَّضون له من أجلها من أنواع الضلال وأسباب المهالك، وغاية ما هم عليه أنْ ينال أحدُهم شيئًا من عرض الدنيا، وماذا يُغنِيه لو حصَّله وقد عرَّض نفسه للخسارة في الأخرى؟
Source link