1- العِلمانية – بكسر العين – نِسبة إلى العِلم. 2- العَلمانية – بفتح العين – نِسبة إلى العَلم بمعنى العالَم
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيِّنا محمدٍ، وآله وصحبه، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إنَّ من القضايا التي مارَس فيه الفكر الغربي كلَّ أشكال الخداع، وضروب المكْر، وأنواع التضليل، قضايا تمثِّل العنصر الأساس في مناهج البحث وقواميس المصطلحات، هي حقائق “لا يجب أن تَغيب عن بالِنا…، قامتْ على الخداع الذي مارسَه الفكر الغربي طويلاً في مناهج بحثه، وفي مصطلحاته، تلك هي تسمية طريقة الحياة التي دعا إليها الغربيون بـ(العلمانية Secularism).
إن هذا الاصطلاح يوحي للوهلة الأولى بصواب الدعوة، واستقامة الطريق، فمن ذا يرفض أنْ يحيا حياة تعتمد في مقوماتها أسسَ العلم الصحيح، إلاَّ أن يكون ساذجًا أو مجنونًا؟! …، وزادَ في الأمر مكرًا وتضليلاً وضعُهم الدينَ – أي دين – في الجهة المقابلة لهذه الدعوة (المنطقية)، وقولهم للناس: إمَّا هذا أو ذاك”[1]، وهل بالفعل (العلمانية Secularism) وطريقة الحياة التي اختارها الغرب، قائمة على أُسس العلم الصحيح؟!
لا بد ها هنا أن نعرض ونستعين – لبيان مفهوم هذه الكلمة – بآراء الباحثين والمفكِّرين الأكثر تخصُّصًا، وحسبنا ما ذكَره الأستاذ عبدالوهاب المسيري – رحمه الله – في كتابه: “العلمانية الجزئيَّة، والعلمانية الشاملة”، قال: “وتعريف العلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة، وحسب العبارة الإنجليزية: (Separation of church and state) هو أكثر التعريفات شيوعًا للعلمانية في العالم؛ سواء في الغرب أو في الشرق، والعبارة تعني حرفيًّا: “فصْل المؤسسات الدينية (الكنيسة) عن المؤسسات السياسية (الدولة)”[2].
وهاته العلمانية التي تعني إبعاد الكنيسة عن الدولة، ضُبِطَت بالفتح “العَلمانية”، وضُبِطَت بالكسر “العِلمانية”، وبين الكلمتين – باعتبار حركاتهما – فرْقٌ كبير، وبون شاسع، فهي “توجد في المعجم العربي بترجمات مختلفة:
1- العِلمانية – بكسر العين – نِسبة إلى العِلم.
2- العَلمانية – بفتح العين – نِسبة إلى العَلم بمعنى العالَم”[3].
العلمانية بمعناها العام: فصْل الدين عن الدولة، نجدها قد استهلكت استهلاكًا واسعًا من طرف المختصين، فهي عندهم لا تَعني أكثر مِن هذا.
أو بمعنًى آخر: ضيَّقوا دائرتها؛ لتقتصرَ فقط على النظرية القائمة بإبعاد المقدَّس الديني عن الممارسات السياسية، غير أنَّ الأستاذ الدكتور عبدالوهَّاب المسيري أعطى تفسيرًا آخرَ للظاهرة، وقسَّمها إلى قسمين، حصَر في القسم الأول التعريف المتداول على ألْسِنة أكثر الباحثين، ووسَّع القسم الثاني ليشمل القِيَم الإنسانية، والأخلاق، والطبيعة، فقال: “ويوجد في تصوُّرنا علمانيَّتان، لا علمانيَّة واحدة، الأولى جزئيَّة، ونعني بها: العلمانية باعتبارها فصْل الدين عن الدولة، والثانية شاملة، ولا تعني فصل الدين عن الدولة وحسب، وإنما فصْل كلِّ القِيَم الإنسانية والأخلاقية والدينيَّة، لا عن الدولة وحسب، وإنما عن الطبيعة وعن حياة الإنسان في جانِبَيها العام والخاص، بحيث تنزع القَداسة عن العالم، ويتحوَّل إلى مادة استعماليَّة يُمكن توظيفها لصالح الأقوى”[4].
ومن القضايا الأخرى التي مارَس فيها الفكر الغربي كلَّ أشكال المكر والخديعة، قضية العلم وفلسفة العلم، بحيث داخَل بينهما وشابَك هذا بذاك، فأصبح “من الضروري التفريق بين العلم وفلسفة العلم، بين العلم بما أنه وسيلة تكنيكيَّة للتحضُّر، وبين فلسفة العلم بما أنها حجرٌ لطاقات الإنسان، وقصْرٌ لليقين على الملموس الملاصِق، ومِن ثَمَّ فعلى الإنسان – كي يصلَ إلى إنسانيَّته الكاملة – أن يرفضَ فلسفة العلم، دون أن يتخلَّى أبدًا عن مكتسبات العلم التقني في شتَّى المجالات”[5].
فإذا تمكَّنا من فصْل العنصرين، واستطعنا وضعَ حدودٍ لكل منهما، ورسم المجالات التي يتحرَّك فيها كلٌّ من العلم وفلسفة العلم، نستطيع بذلك تفسير الإنسان بكل أبعاده، وفي كل جوانبه؛ المادية والرُّوحية، الظاهرة والباطنة، الكلية والجزئية، فنكون إذًا قد تجنَّبنا المنهج القائم على “تفسير الإنسان في جوانبه وأبعاده كافة، وفي ماضيه وحاضره ومستقبله، بما هو غير إنساني؛ أي: من خلال القوانين المادية والطبيعية العامة التي تسري على الأشياء والظواهر كافة”[6].
فمنهج البحث والتفكير هذا الذي اختاره الغرب والقائم على عناصر التفسير السابقة، جعلته يزداد كلَّ يوم شكًّا في العقائد الدينية كنتيجة، “فهُم لَم يجحدوا بالله إلى زمن طويل، ولَم يكاشفوا الدين العداء، ولَم يجحدوا به كلهم، ولكن منهج التفكير الذي اختاروه، والموقف الذي اتخذوه في البحث والنظر، لَم يكنْ ليَتَّفق والدين الذي يقوم على الإيمان بالغيب، وأساسه الوحي والنبوَّة، ودعوته ولَهْجه بالحياة الأخروية، ولا شيء من ذلك يدخل تحت الحس والاختبار، ويصدقه الوزن والعَد والمساحة، فلم يزالوا يزدادون كلَّ يوم شكًّا في العقائد الدينية”[7].
ففي بعض الأحيان قد يبدو أن العلمانية أو الفكر العَلماني، لا يُنكر وجود الخالق، أو القِيَم الإنسانية والأخلاقية، أو الدينية مجرَّد وجود، ولكن “على المستوى النماذجي الفعَّال، ومستوى المرجعيَّة النهائيَّة، يُستبعد الإله وأيَّة مطلقات من عملية الحصول على المعرفة، ومن عملية صياغة المنظومات الأخلاقيَّة”[8].
وهذا الاعتِراف في حقيقة أمره اعترافٌ مجاني، خارج عن نطاق حقيقة الاعتراف؛ إذ لا معنى لإثبات وجود الله دون أن يكون هذا الإثبات مرجعًا للأحكام المطلقة، وللحقائق العلمية والمعرفيَّة الثابتة، ولا حتى مرتكزًا لصياغة منظومات الأخلاق، وهذا ما يفسِّر الرُّوح المادية للحركات الرُّوحية في أوربا، فتجد هذه الروح المادية “في جميع نُظم أوربا السياسية والاجتماعية والخُلقية التي ابتكرتْها أو جَدَّدتها شعوبها لهذا العهد، حتى إن الحركة الرُّوحية التي شغَلت الناس كثيرًا في أوربا في الزمن الأخير، إنما رُوحها المادية، فقد أصبحتْ صناعةً وفنًّا كسائر الصناعات والفنون في أوربا، غايتها مشاهدة عجائب إقليم الرُّوح والاطلاع على أسرارها، والتحدُّث إلى أرواح الموتى، وترويح النفس والتلهِّي، وليستْ من تزكية النفس وتصفية القلب، والخشوع لله والعمل الصالح، والاستعداد للموت والصبر على مكاره الحياة، وهضْم النفس في شيء، خلافًا للحركة الروحية … في الشرق الإسلامي”[9].
ومن هنا نستطيع أن نفهمَ الفرقَ الشاسع بين الرُّوح بمعناها المادي في المجتمعات الغربية، وبين الروح بمعناها الإيماني المعنوي في المجتمعات المسلمة.
إنَّ هذه الرؤية تزيد من يَقِيننا في قصورها على التعامُل مع الواقع، فهي “رؤية جزئيَّة للواقع…، لا تتعامل مع أبعاده الكلية والنهائية (المعرفية)، ومِن ثَمَّ لا تتَّسِم بالشمول”[10].
وإنما تتعامل مع أبعاده الجزئيَّة والمحددة، ومِن ثَمَّ تتسِم باللاشمول، الأمر الذي جعل الإنسان في الغرب العَلماني يعيش حالة الجسد فقط، عندما عزلوه عن الجانب الرُّوحي؛ ولذلك كان في مفهومهم بمثابة الشيء الذي لا يحيا إلا لإشباع غرائز المادة فقط، ومِن ثَمَّ كانت النتيجة الحتمية لهذه المجتمعات هي الاتجاه نحو الزوال والانقراض والأفول.
فمَن أدرَكَ ذلك وعاه، ومَن فَهِمه استرضاه، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحْبه أجمعين.
[1]- تهافُت العلمانية، ص36 – 37. [2]- ج1، ص 17. [3]- العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ج1، ص61. [4]- العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ج1، ص16. [5]- تهافت العلمانية، ص24. [6]- العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ج2، ص121. [7]- ماذا خسر العالم؟ ص192. [8]- العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ج2، ص118. [9]- ماذا خسر العالم؟ ص201 – 202. [10]- العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ج1، ص220.
____________________________________________________________
الكاتب: حسن فاضلي أبوالفضل
Source link