أسهمت «الثقافة الزوجية الوافدة» في خلق تصورات خاطئة، وشجّعت على ممارسات خطيرة في هذه المسألة؛ كالتعجل في الطلاق أو الخلع، أو الخلط بين شعور الغضب وشعور الكراهية، ونحو ذلك. وواجب التربية اليوم تنقيح التصورات وإبطال الخاطئة منها فيما يتعلق بالمشكلات الزوجية.
الأصل في الحياة الزوجية الاستقرار والسكن والطمأنينة والهدوء، وأنْ يكون الزوج مصدر الأمان النفسي والدفء العاطفي، وأنْ تكون الزوجة عنوان الجمال في نفسها وبيتها، تنشر البهجة وتؤنس من الوحشة؛ قال الله -تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21] ؛ فينتج عن كل ذلك انسجام وتآلف وتعاون على البر والتقوى، وتسير الحياة نحو المقصود الأعظم: عبادة الله -عز وجل-.
قال أبو عثمان النهدي: «تضيَّفتُ أبا هريرة سبعًا، فكان هو وامرأته وخادمه يَعتقبون الليل أثلاثًا؛ يُصلّي هذا، ثم يُوقظ هذا، ويصلي هذا، ثم يُوقظ هذا»[1]؛ فتأمل هذا التعاون على الطاعة بين الرجل وزوجته، إنها صورة جميلة لما يَحْسُن أنْ تكون عليه الحياة الزوجية.
وأم الدرداء الصغرى، التابعية الفقيهة، عَرضت القرآن على زوجها أبي الدرداء -رضي الله عنه-، وتلقَّت عنه العلم والأدب، ويروي عنها جبير بن نفير أنها قالت لأبي الدرداء عند موته: «إنك خطبتني إلى أبويَّ في الدنيا، فأنكحوك، وأنا أخطبك إلى نفسك في الآخرة. قال: فلا تنكحي بعدي»[2]. وكانت -حين تُحدِّث عنه- تقول: «حدثني سيدي»[3]. فكانت حياتهما لوحة حُبّ كثيفة اللون، في إطارٍ من التقوى والصلاح.
ومواقف الصحابية الجليلة أم سليم مع زوجها أبي طلحة -رضي الله عنهما- تدل على رجاحة عقلها وبُعْد نظرها وذكائها العاطفي الرائع؛ فهي في حال الخطبة تقول: «إنْ تُسْلِم فذلك مَهْري، لا أسألك غيره»[4]. ومواقفها الكثيرة -هي وزوجها معًا- لا تسعها إشارة بين السطور.
وتزوّج جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- ثيبًا بالرغم من كونه لا يزال شابًّا يافعًا، فلمّا سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب ذلك؟ قال: «يا رسول الله: توفي والدي، أو استُشهد، ولي أخوات صغار، فكرهت أنْ أتزوج مثلهن فلا تؤدبهن ولا تقوم عليهن، فتزوجت ثيبًا لتقوم عليهن وتؤدبهن»[5]. فهو يوازن المصالح، وزوجته تُعينه على واجباته الاجتماعية.
لم يكن هذا التناغم والانسجام نشازًا في التاريخ الاجتماعي، بل هو الأصل، قديمًا وحديثًا، فكثير من بيوت المسلمين نالت جائزة الوعي بمقصود الحياة، فمن مقلٍّ ومستكثر، فهذا الإمام أحمد لما ماتت زوجته عباسة أم صالح يذكر حُسْن عِشْرتها؛ فيقول: «أقامت ُأُمّ صالح معي ثلاثين سنة، فما اختلفت أنا وهي في كلمة»[6].
ومن المعاصرين مؤلف كتاب «الأعلام الشرقية في المئة الرابعة عشرة الهجرية»، زكي محمَّد مجاهد (ت: 1401هـ) لما ماتت زوجته «حكمت هانم» رثاها بكتابٍ ألَّفه لها، وقال في إهدائه: «إلى تلك التي عشتُ في ظلال وفائها الوارف، وحنانها السابغ، وبقيتُ بعدها أتنسم عبير ذِكراها العاطرة، كلما رفّت على روحها الطاهرة العلوية من سماء الجنان؛ زوجتي المرحومة: «السيدة حكمت»؛ أُهدي هذا الكتاب الذي هو ثمرة فضلها ووحي إلهامها، وصورة للحياة السعيدة التي عشتها معها… باقة وفاء لها ما بقي لي بعدها من أيام في هذه الحياة»[7].
ولا يكفّ الزمان عن إظهار نماذج من هذا الزكاء والنُّبْل والرُّقي الأُسريّ.
بهار الحياة:
لكنّ الحياة الزوجية كغيرها من الحيوات، تتفاعل مع المواقف والأحداث والمعطيات، فيتولّد من ذلك -في بعض الأحايين- عدد من المشكلات والتقاطعات، كما أنَّ البشر يختلفون في تصوراتهم وطرائق تفكيرهم وأنماط سلوكهم؛ فكذلك الزوجان يكون منهم هذا الاختلاف الذي قد يؤدي إلى إشكالات صغيرة أو كبيرة، وهذا يحدث في أحسن البيوت، كما يحدث في أسوئها، ويحدث في أشرف البيوت وأحقرها.
ولقد حدث مثل ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك اختلف عليّ بن أبي طالب وفاطمة -رضي الله عنهما- في مسألة الخدمة، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بينهما[8]. وجاءت زوجة صفوان بن المعطل -رضي الله عنهما- إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي زوجها في بعض الأمور؛ فأجابها صلى الله عليه وسلم [9]. ولما انصرف عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- إلى العبادة؛ وقد شُكِيَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: «عبد الله! ألم أُخبَر أنك تصوم النهار وتقوم الليل» ؟». فقال: بلى يا رسول الله. قال: «فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإنَّ لجسدك عليك حقًّا، وإنَّ لعينك عليك حقًّا، وإنَّ لزوجك عليك حقًّا، وإنَّ لزَوْرك عليك حقًّا، وإنَّ بحسبك أنْ تصوم كل شهر ثلاثة أيام، فإنَّ لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإنَّ ذلك صيام الدهر كله» »[10].
وغير ذلك من المواقف التي تحصل فيها بعض المشكلات؛ فيتم إصلاحها وإعادة بوصلة الحياة الزوجية إلى مسارها الصحيح.
وتُمثّل المشكلات الزوجية إحدى الظواهر الموجودة في الحياة، شئنا أمْ أبينا؛ إذ تتكرر في كثير من البيوت، ولو سلم منها بيتٌ لسلم منها بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وقصة الإيلاء مشهورة معروفة، وبالتالي فهي «عارض» يلزمه فِقْهٌ وتدريب وثقافة. وهي بهذا التوصيف لا تُمثِّل خطرًا أو مهددًا لكيان الزوجية؛ لكونها في السياق الطبيعي.
وإنما تكمن خطورة المشكلات الزوجية في الثقافة التي تُؤسِّس للممارسات الخاطئة أثناء حدوث هذه المشكلات أولاً، وفي الخلاف الذي انبعثت منه هذه المشكلات ثانيًا.
كما أسهمت «الثقافة الزوجية الوافدة» في خلق تصورات خاطئة، وشجّعت على ممارسات خطيرة في هذه المسألة؛ كالتعجل في الطلاق أو الخلع، أو الخلط بين شعور الغضب وشعور الكراهية، ونحو ذلك.
وواجب التربية اليوم تنقيح التصورات وإبطال الخاطئة منها فيما يتعلق بالمشكلات الزوجية، ثم الاهتداء بالقدوات العملية لهذه التصورات، فإنَّ سلفنا الصالح استطاعوا -رغم وجود المُهدِّدات- أنْ يحافظوا على كياناتهم الزوجية، وأنْ يجعلوا منها نماذج اقتداء واهتداء، وهذا واضح معلوم منثور في كتب التفسير والحديث والتراجم والطبقات.
والإسلام يدعو إلى تجاوز المشكلات سريعًا، وإلى تدعيم الاستقرار، وإلى مدافعة أسباب التصدع والشقاق، قال الله -تعالى-: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْـمَعْرُوفِ فَإن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]؛ فأمر سبحانه أولاً بأنْ تُبنَى العِشْرة بين الزوجين على المعروف، فإنْ حدث مُوجب لكراهية الرجل لزوجته، لأيّ سبب غير الفاحشة المبينة، فإنَّ الرجل يُوصَى بالصبر واحتمال ذلك، وألا يسارع إلى فراق زوجته، فإذا صبر واحتمل رغم كراهيته فإن الله -تعالى- سيُثيبه في الدنيا قبل الآخرة بأن يجعل عاقبة صبره خيرًا ومحمدةً، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: «والخير الكثير: أن يعطف عليها، فيُرزَق الرجل ولدها، ويجعل الله في ولدها خيرًا كثيرًا»[11].
ولن يكون بعد الامتثال لأمر الله بالصبر والاحتمال إلا خير للرجل وزوجته وللبيت، بل خير كثير. وهذا من حرص الإسلام على تماسك البيوت وإصلاح ما تصدَّع منها.
إما صلاح وإما نشوز:
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِـحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْـمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34] .
هذه الآية المحكمة تقسم الزوجات إلى قسمين؛ صالحة أو ناشز؛ فالزوجة الصالحة هي تلك التي تتّصف بما ينبغي أنْ تكون عليه الزوجة من طاعة ومحافظة، والناشز هي تلك التي أبَت الطاعة واستعلت على زوجها.
والصلاح والنشوز يشبهان كفتي الميزان في التأثر -زيادةً أو نقصًا- بما يثقل كل كفة، فكلما ازدادت الزوجة طاعةً وحفظًا ثقلت كفة الصلاح لديها، وكلما تمادت في العصيان والاستعلاء والنفور ثقلت كفة النشوز لديها.
وكما أنَّ الزوج لا يكون قوّامًا إلا إذا حقّق شروط القوامة؛ وبقدر وفائه بتلك الشروط تتأثر قوامته، فكذلك الزوجة تكون صالحة إذا حقّقت أركان الصلاح، وبقدر وفائها بذلك يتأثر صلاحها. وعلى أيٍّ فإن النظر إلى الصلاح والنشوز يكون في حال تمام واجبات القوامة المفروضة للزوجة، فإذا كان النشوز ناشئًا بسبب التقصير في واجبات القوامة، فلا يتعامل معه وفق هذه الآية، بل يقال للرجل: أدِّ ما عليك، ويقال للمرأة: أصْلِحي شأنك.
معادلات محكمة، وتنظيم إلهي دقيق.
ولكن ما هو النشوز؟
أصل النشز: الارتفاع والنهوض. والأرض الناشز المرتفعة، وفلان نشز أي كان قاعدًا فقام، ومنه قوله تعالى: {وَإذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: ١١]؛ ونشوز الزوجة عصيانها لزوجها وتعاليها عليه وإعراضها عنه، قال ابن عباس: «تستخف بحق زوجها، ولا تطيع أمره»[12]. وقال مجاهد وقتادة ومقاتل وعبد الرحمن بن زيد: «العصيان»[13]. وابن كثير يلخّص مفهوم النشوز بقوله: «المرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها، التاركة لأمره، المُعرضة عنه، المبغضة له»[14].
فالنشوز إذن حالة تستعلي فيها المرأة على زوجها، فلا ترى له حقًّا عليها في طاعته والسير في ركابه، فتعصيه وتتأبَّى على مطاوعته وتمكينه من نفسها، وتنفر من عِشْرته.
والتعبير القرآني {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34] يوحي بأنَّ للنشوز مقدمات ومظاهر، قد تتدرج فيها المرأة حتى تحقّق معنى النشوز. لذلك يُنقَل عن الشافعي قوله: «دلالة النشوز قد تكون قولاً، وقد تكون فعلاً، فالقول: مثل أن تُلبّيه إذا دعاها، وتخضع له بالقول إذا خاطبها؛ ثم تغيرت. والفعل: إن كانت تقوم إليه إذا دخل عليها، أو تسارع إلى أمره، وتبادر إلى فراشه باستبشار إذا التمسها؛ ثم إنها تغيّرت عن كل ذلك. فهذه أمارات دالة على النشوز، فحينئذ ظُنَّ نشوزُها. مقدمات هذه الأحوال تُوجب خوف النشوز»[15]. وينص شيخ الإسلام ابن تيمية على أن مِن صور النشوز: «امتناعها من الفراش وخروجها من البيت بغير إذنه»[16]، وثمة سلوكيات مختلفة تُعبّر عن حالة نفسانية تأبى السير في ركاب الزوج أو السعي في إعطائه حقوقه وما يجب عليها له.
وفي قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} معنى لطيف، وهو أن قوامة الرجل ورئاسته على أهله تُوجب عليه أن يكون سائسًا جيدًا، وأن يكون منتبهًا لسلوك زوجته، فحين يلمس من زوجته مقدمات الإعراض والنفور؛ فعليه أن يبادر في إصلاح هذه الحالة بأرفق ما يمكن، ولذلك بدأ بالوعظ. وألا يترك مقدمات النشوز تتفاقم، لا سيما والشيطان بالمرصاد يُؤجِّج هذه النار، وينفخ فيها حتى تعظم ويصعب إطفاؤها.
ونشوز الزوجة -إذا لم يكن بسبب نقص القوامة- إثم وخطيئة ومعصية لله تعالى، وانتقاص من الميثاق الغليظ المعقود بين الزوجين، وظلم للزوج بنقص -أو عدم- الوفاء له بحقه عليها. وبعض مظاهره قد يدخل في كبائر الذنوب، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إ «ذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان عليها؛ لعنتها الملائكة حتى تصبح»[17]. وفي رواية: «إذا باتت المرأة مهاجرةً فراش زوجها، لعنتها الملائكة حتى ترجع»[18]. وعن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اثنان لا تجاوز صلاتهما رؤوسهما: عبدٌ أَبق من مواليه حتى يرجع، وامرأة عصت زوجها حتى ترجع»[19].
إعادة الاتزان:
لا جرم أن نشوز الزوجة مؤذن بزلزال في بيت الزوجية، وهذا ما جعل الشريعة ترسم لنا طريقة الإنقاذ وخطة العلاج؛ تشوُّفًا منها إلى عودة الحياة الزوجية إلى الطمأنينة والسكن والمودة والرحمة، وجعلت الزوج مسؤولاً عن تنفيذ هذه الخطة، تحت عنوان «التأديب»، وجعلت هذه المهمة أحد ركائز القوامة التي هي له عليها، أي أنه كما يجب عليه لها المهر والنفقة والسكنى والمطعم والملبس، فكذلك يجب عليه القيام بالإصلاح والتقويم.
قال الله -تعالى-: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْـمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء: 34]؛ فخطة الإصلاح تكون بثلاثة أمور، على الترتيب، ولا ينتقل إلى التالي منها إلا في حال لم ينفع الذي قبله، وهي:
أولاً: الوعظ.
وهو تذكيرها بأمور أربعة:
الأمر الأول: تخويفها بعقاب الله -تعالى- لها على معصيتها لزوجها في غير معصية الله -تعالى-. ومن ذلك الأحاديث التي سبق ذِكْرها.
الأمر الثاني: تذكيرها بحق زوجها عليها، وأن هذا الحق واجب بعقد النكاح، وأنه حقّ مُعظَّم عند الله، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو كنت آمِرًا أحدًا أن يسجد لغير الله؛ لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمد بيده، لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها، وهي على قتب، لم تمنعه»[20].
الأمر الثالث: تذكيرها بمغبة ما يؤول إليه نشوزها ونفورها، من تصدُّع بيت الزوجية، والتسبُّب في الفراق الذي يُشتّت أهل البيت وأولادهم، ويهدم العِشرة السابقة.
الأمر الرابع: تذكيرها بأن الشيطان يُذْكِي هذا النشوز؛ لأنه يسعى في تخريب بيوت الزوجية، وأن النشوز طاعة له وتسهيل لمقصوده، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئًا، قال ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرَّقت بينه وبين امرأته، قال: فيُدْنيه منه، ويقول: نِعْم أنت»[21].
فيَعظها ويُذكّرها ويجتهد في إقناعها والتأثير عليها؛ فلعل الله أن يهديها ويفتح على قلبها.
ثانيًا: الهجران في المضاجع.
وفي تفسير الهجران أربعة أقوال[22]:
1- ترك جماعها ويُوليها ظهره في الفراش. وهو مرويّ عن ابن عباس وغيره.
2- ترك فراشها وترك مضاجعتها. وهو مرويّ عن ابن عباس أيضًا.
3- ترك الكلام معها ومخاطبتها. وهو مرويّ عن مجاهد والضحاك وعكرمة وقتادة والسدي، قال عكرمة: «الكلام والحديث وليس الجماع». وقال قتادة: «ضاجِعها ولا تكلمها». وقال السدي: «يطؤها ولا يُكلّمها».
4- الهجر باللسان وهو القول الشديد والإغلاظ لها بالكلام. وهو مرويّ عن سفيان الثوري والكلبي.
وهذا التنوع في الأقوال يعطي الزوج مساحةً أوسع في تنويع الهجر، بحسب ما يصلح للحال التي هو فيها وزوجته، فقد يكون الأصلح تأديبًا هجر الجماع مع البقاء في الفراش والكلام معها، وقد يكون الأصلح هجر الكلام مع بقاء الجماع والفراش، وقد يكون الأصلح الإغلاظ لها بالقول مع بقاء الجماع والفراش، وقد يكون الأصلح هجر فراشها والمبيت منفصلاً عنها. فيفعل الزوج الأصلح أو يُنوّع بين الأساليب بغية إصلاح الزوجة وعودتها إلى ما كانت عليه.
ومع ذلك فينبغي أن يكون هجر الزوج تأديبًا لا انتقامًا، يُقصَد منه التأديب والإصلاح.
ثالثًا: الضرب.
وهو ضرب تأديب، لا ضرب قتال وانتقام، وقد قيَّد النبي صلى الله عليه وسلم ضرب التأديب بأن يكون غير مبرح؛ فقال صلى الله عليه وسلم : «فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يُوطِئن فرشكم أحدًا تكرهونه[23]، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح»[24]؛ فلا يؤثّر في الجسد ولا يحدث ضررًا صحيًّا، وإنما بالشيء الخفيف كالسواك ونحوه. والمقصود منه إبداء المغاضبة وإشعار الزوجة بفداحة ما هي عليه من النشوز. قال القرطبي: «اعلم أن الله -عز وجل- لم يأمر في شيء من كتابه بالضرب صُراحًا إلا هنا، وفي الحدود العظام، فساوى معصيتهن أزواجهن بمعصية الكبائر، وولَّى الأزواج ذلك دون الأئمة، وجعله لهم دون القضاة، بغير شهود ولا بينات؛ ائتمانًا من الله -تعالى- للأزواج على النساء»[25].
وفي كل المراحل الثلاثة يتوجب على الزوج أن يسلك مسلك التأديب مستصحبًا الغاية منه، وهي العودة بالحياة الزوجية إلى النظام الذي أمر الله -تعالى- به، فإن تمرّد الزوجة على هذا الوجه انفلات من النظام الرباني الذي جعله الله سبيلاً إلى استقرار البيوت وصحة الحياة الزوجية، وألا يقتصر همّه على النظر في الاستحقاق الذاتي.
فإذا رجعت الزوجة إلى جميل عهدها السابق في أيّ مرحلة، لم يَجُز للزوج الانتقال إلى المرحلة التي تليها، يقول الله تعالى: {فَإنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء: 34]، حتى ولو بقي قلبها على الكراهية والنفور؛ لأن الأصل أن تفي بحق زوجها سلوكًا، وأن تعود إلى طبيعة النظام الرباني للزوجين.
أما إن لم ترجع إلى جميل عهدها، ولم ينفع معها الوعظ والهجران والضرب، فإنها تكون مُخِلّة بحق الزوجية، فتسقط عن زوجها تكاليف القوامة كالنفقة والقسم في المبيت، ونحو ذلك، وفي هذه المرحلة يتوجب أن يكون علاج المشكلة من خارج البيت، من جهة أهله وأهلها؛ لأن الطرق الداخلية انسدت ولم تعد سالكة، قال الله -تعالى-: {وَإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إن يُرِيدَا إصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35].
وفي هذه الحال ستتوتر الحياة وتزداد المشكلة تعقيدًا؛ لوجود الانتقاص من الحقوق لكلا الزوجين، فكان لزامًا وقف الهدر النفسي والعاطفي لكليهما من خلال المصلحين، فإن وفَّق الله بينهما فهو المراد، وإن لم يكن كذلك فلا خيار في أن تُشرَع أبواب الانفصال، على ما فصَّلته الشريعة الغرّاء.
وهكذا تعلم -أيها القارئ- أن الله حين خلقنا لم يتركنا هملاً، بل أرسل إلينا رسوله الكريم، وأنزل عليه كتابه العظيم؛ ليهدينا في حياتنا إلى أقوم الطرق، قال الله -تعالى-: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْـمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِـحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: ٩].
[1] سير أعلام النبلاء 2/609.
[2] سير أعلام النبلاء 4/277.
[3] صحيح مسلم ح2732.
[4] سير أعلام النبلاء 2/29.
[5] أخرجه البخاري ح2967.
[6] تاريخ بغداد 16/626.
[7] الأخبار التاريخية في السيرة الزكية، الإهداء.
[8] زاد المعاد: 5/169.
[9] أخرجه أبو داود ح2459.
[10] أخرجه البخاري ح1975.
[11] جامع البيان 8/123.
[12] موسوعة التفسير المأثور 6/344.
[13] موسوعة التفسير المأثور 6/344.
[14] تفسير القرآن العظيم 3/95.
[15] اللباب في علوم الكتاب 6/363.
[16] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 14/211.
[17] أخرجه البخاري ح3237، ومسلم ح1436.
[18] أخرجه البخاري ح5194.
[19] أخرجه الحاكم ح7330، وصححه الألباني في صحيح الجامع ح59.
[20] أخرجه ابن ماجه ح1853، وحسنه الألباني في صحيح الجامع ح1716.
[21] أخرجه مسلم ح2813.
[22] انظر: موسوعة التفسير المأثور 6/348-352.
[23] من النساء والمحارم.
[24] أخرجه مسلم ح1218.
[25] الجامع لأحكام القرآن 5/114.
_____________________________________________________
الكاتب: فايز بن سعيد الزهراني
Source link