«إنَّ هذا الخير والشرَّ خزائن، ولهذه الخزائنُ مفاتيح، فطُوبى لِمَن كان مِفتاحًا للخير مِغلاقًا للشر، وويلٌ لمن كان مِغلاقًا للخير مِفتاحًا للشَّر»
الحمد لله الفتاح العليم، الملك العظيم، الرب الحكيم، جل جلاله، وتقدست أسماؤه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، البر الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي قال الله جل وعلا في شأنه مادحًا له ومعظمًا لشأنه: { ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾} [القلم: 4]، اللهم صلِّ وسلم على محمد وآله وصحبه، ومن تبعهم في هديهم القويم.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام، أوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا؛ بفعل الخير وترك العصيان، والتعاون على البر والتقوى، والبعد عن كل إثمٍ أو تعاونٍ عليه.
أيها الإخوة الكرام:
قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الإمام ابنُ ماجه، والإمام ابن أبي عاصمٍ في كتاب “السُّنة” والحافظ أبو يعلى، عن سهل بن سعد رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ هذا الخير والشرَّ خزائن، ولهذه الخزائنُ مفاتيح، فطُوبى لِمَن كان مِفتاحًا للخير مِغلاقًا للشر، وويلٌ لمن كان مِغلاقًا للخير مِفتاحًا للشَّر» .
أيها الإخوة الكرام:
هذا النص النبوي الكريم قاعدة عُظمى، وحكمة كبرى، يَنبغي أن يتأمَّلها الإنسان، وأن يَزِن نفسه بها؛ فإن الرجال يوزَنون بذلك، فيُعرَف بهذا أهل النقص من أهل الكمال، نعم، إن الله جل وعلا قدَّر في هذه الحياة الدنيا دروبَ الخير ويَسَّرها، وبيَّن دروب الشَّر وحذَّر منها، وهي أنواع منوَّعة، كلُّ مَن تطلَّب شيئًا منها وجَده.
ولكنَّ المؤمن الحقَّ هو الذي يتطلَّب دروبَ الخير، ويعلم أن الله تعالى يحبها، وأنه سبحانه عنده خزائنُ هذا الخير، بما لا يمكن أن يُحيط به عدد، ولا يَصِل تصورٌ إلى حدِّه وإدراك كُنهِه وما وراءَه؛ فإن الله تعالى بيده ملكوت السموات والأرض، وبيده مفاتيح كلِّ خير جل وعلا، والمؤمن يَسعى إلى هذا الخير الذي يحبُّه الله.
والذي ينبغي على المؤمن أن يكون مهيِّئًا لنفسه؛ ليصير مفتاحًا للخير مغلاقًا لكل شرٍّ وآفة، فمن كان ناصحًا لله جل وعلا، ناصحًا لعباده، ساعيًا في الخير بحسب إمكانه؛ فهذا مفتاحٌ للخير حائزٌ للسعادة، ومَن كان بخلاف ذلك فهو مِغلاق للخير، وقد تحقَّقت له الشَّقاوة.
وتأمَّلوا في ترغيب النبي صلى الله عليه وسلم وخبَرِه عن مآلات كلٍّ من الفريقين؛ مَن جعل نفسه مفتاحًا للخير، ومن جعل نفسه مفتاحًا للشر، فيقول عليه الصلاة والسلام: ((طوبى لمن كان مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر)).
((طوبى))؛ قال أهل العلم: إنَّ فيها البشارة بكل خير، طوبى طِيبٌ في الحياة؛ حياة طيبة في الدنيا والآخرة، وقال بعض أهل العلم: “طوبى” جنةٌ من الجنان التي وعد الله تعالى بها عباده.
(( «وويل لمن كان مغلاقًا للخير مفتاحًا للشر» ))؛ ويل: هذا وعيدٌ بالويل والثبور وسوء العاقبة، وقيل إنه وادٍ من أودية جهنم.
وإنَّ هذا الوعدَ وهذا الوعيدَ متناسبٌ مع ما يَصدر من هؤلاء، وتأمل ذلك الإنسانَ؛ مفتاحٌ للخير، مغلاق للشر، فكلما نبتَت نابتةُ خير وبُذِرت بذرة الفضل والحسن والخلق الجميل، كان مبادرًا إليها؛ يَسقيها ويَرويها حتى تَنتشر في المجتمع ويعمَّ أثرُها لكلِّ أحد، بينما الشرُّ مبادر لإغلاقه مبادرٌ لاجتثاثه، حتى لو ترتب عليه هو ضررٌ بنفسه.
بينما ذلك الفريق الآخَر الذي تجسَّد فيه الشر وظهَر فيه الضر، حتى إنه لا يَكتفي فقط بأن يَمنع الخير ويُغلق أبوابه، ولكنه ينمِّي الشر، ويهيِّئ له الأبواب؛ نعوذ بالله من تلك الحال.
أيها الإخوة الكرام، إنَّ من الناس مَن إذا اجتمع بهم في مَجالسهم حَرَص على شَغْلِهم بما ينفعهم في دينهم ودنياهم، بل حتى وهو في جوف بيته وداره يُشيع الخير ويبثُّه في الناس، وبخاصة مِن خلال وسائل الإعلام الحديثة، ووسائل التواصل الاجتماعي؛ فقد يُرسل رسالة عبرَ هاتفه أو عبر البريد الإلكتروني، أو من خلال مقالٍ صحفي، أو غير ذلك، فيكون مفتاحًا لأنواعٍ من الخير، تَذهب هذه الكلمة، فتُشرِّق وتغرِّب وهو لا يَدري أثرَها الذي بارك الله فيه، وهذا يوضِّحه قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: (( «وإن الرجل ليتكلَّم بالكلمة من رضوان الله لا يُلقي لها بالًا، يَكتب الله له بها رضوانَه حتى يلقاه» )).
مِن الناس مَن يَشغل غيرَه بما يَضرُّ وبما لا يُغني، فهؤلاء قد حرَمَهم اللهُ الخيرَ وأشقاهم، منهم من يسعى في تقريب القلوب، وجمع الكلمة والائتلاف، ونشر الخير فيما بينهم، ومن الناس مَن يسعى في إثارة الفتن والشقاق، والتنافرِ والاختلاف، ومنهم مَن يجتهد في قلع ما في قلوبهم من البغضاء.
ولذلك تجد أنه ربما تحمَّل الحملات في الأموال أو في الجهد والوقت؛ لأجل أن يؤلف بين القلوب ويقرِّب فيما بينها، ومثل هذا تجد أن الشريعة أيَّدته، حتى إنها فتحت له بابًا من الأبواب مغلقًا، لا يُسمح بولوجه إلا له ولِمَن هو على شاكلته، وهو باب الكذب، فالكذب ممنوع، محرَّم في شريعة الإسلام، لكن مَن دخل هذا البابَ لإصلاحٍ بين الناس، ولأجلِ أن يقرِّب القلوب المتنافرة، ويَجمع الأنفس المتباعدة فإن الشريعة تعطيه الضوء الأخضر لأجل هذه المهمة الكريمة الغالية الجليلة، قال صلى الله عليه وسلم: (( «ليس الكذَّاب الذي يقول خيرًا فيَنْمي خيرًا» ))؛ أو كما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم.
يكون الاثنانِ متنافرين، يكون بينهما بُعدٌ وشقاق، وخصومة وخلاف، فيَأتي للأول ويقول له كاذبًا: سمعتُ فلانًا يُثني عليك، ويَذكرك بالخير، ويقول: كم أنا مقصِّر في حقه! ثم يذهب إلى الآخر ويقول له مثلَ هذا القول، فتُسَلُّ سخيمة النفوس، ويُذهَب ما فيها من الشقاق والجفاء، فإذا الْتقَيا تتبدَّل حالهما بعد أن كان الشيطان يَؤزُّهما على الشرِّ وقول الإثم صار الوضع مختلفًا بعد هذه الكلمات الكاذبة التي أراد أن يَنمي بها هذا الرجل خيرًا، فلمثل هذا أُبيح الكذب، وفُتح له بابه، وهو بابٌ معلوم لدى أهل الإسلام جميعًا أنَّه مغلقٌ غيرُ مباح لأحد.
من الناس من يُلهِب في قلوبهم الشحناءَ؛ يَجعل البغضاءَ فيما بينهم؛ بالنَّميمة والغيبة وغير ذلك، وأعظمُ هذا أن يوجد مَن يجعل البغضاءَ سارية نحو وُلاة أمرِه؛ فربما ذكَر ممَّا لا ينبغي ذكرُه شيئًا يجعل عداوةَ القلوب تَكبُر، والضغائن تشتدُّ نحو ولاة الأمر، وبخاصة إذا علَّق هذا الأمر على شيءٍ من المعايش التي قد يَكون فيها نوعٌ من التقصير، لكنه يستغلُّه لأجل أن يجعل النفوسَ محتقِنةً نحوهم، فتَزداد الضَّغينة، وتَكثر أنواع الفتن بما يَضُر المجتمعَ بأسره.
من الناس مَن يحثُّ على الجود والكرم والسماحة؛ فطوبى له.
من الناس مَن يدعو إلى البخل والشحِّ والوقاحة؛ فويل له!
منهم من يتنوع في فعل المعروف؛ في بدَنه وقوله وماله، فلا يتصرف ولا يتحول ولا يذهب ولا يجيء ولا يتكلم ويتحدث، إلا بفتحِ أبواب الخير.
من الناس مَن لا يعرف المعروف ولو قلَّ، فلا تسَلْ عن سوءِ حاله، مِنهم مَن مَجالسه مشغولةٌ بالغيبة والنميمة، والوقيعة في الناس، فليس أحد في خاطره على خير؛ كلُّ مَن ذُكر أظهَر فيه عيبًا، وذكَر فيه خللًا، وكأنَّما لم يَكمل في الخليقة إلا هو؛ فويل له!
من الناس مَن يتنزه عن ذلك وينزه الجُلَّاس، فلا يَسمح بغيبة في مجلسه، ولا بنميمة تُنقل إليه؛ بل يردُّ صاحبها خائبًا حسيرًا، وما أحسنَ ما كان مِن بعض السلف حينما ذُكر شيء من ذلك في بعض مجالسهم، فقال: يا هذا، إنَّا لنَضِنُّ على حسناتنا – إنَّا لنحافظ على حسناتنا – أكثرَ من محافظتك على مالك؛ فدَع عنك هذا القول!
من الناس من تُذكِّر رؤيتُه بالله جل وعلا، يُعين العبادَ في مقاله وحاله على طاعة الله جل وعلا، ويأمرهم بالقيام بالحقوق الواجبة والمسنونة، ومنهم – على الضدِّ من ذلك – مَن يثبِّطهم عن الخير، وأحواله غير مأمونة، فتبارك الله وتعالى وتقدَّس، الذي فاوتَ بين العباد هذا التفاوتَ العظيم:
فهذا كريمٌ على الله وعلى خلقِه، الذي كان مفتاحًا للخير، مغلاقًا للشر.
وهذا لئيم، وهو الذي فتح أبواب الشر وأغلق أبواب الخير.
ذاك مبارك على مَن اتصل به، وهذا دلَّ إلى كلِّ خلق ذميم.
هذا مفتاح للبر والتقوى وطُرق الخيرات، وهذا مغلاقٌ لها، ومفتاحٌ للشرور والآفات.
هذا مأمونٌ على النفوس والأعراض والأموال، وهذا خائنٌ لا يوثَق به في حال من الأحوال.
هذا قد سَلِم المسلمون من لسانه ويده، وهذا لم يَسلَم منه أحدٌ، وربما سرَت أذيَّته على أهله وأولاده!
أجارني الله وإياكم من سيئ الأخلاق والأقوال والفِعال، ووفَّقنا لما يحبه جل وعلا مِن كل خلقٍ كريم، وفعل جليل؛ إنَّ ربي سميع مجيب، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرجيم.
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله، نبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاعلموا رحمكم الله أنَّ خير الكلام كلامُ الله، وخير الهدي هدي رسول الله، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل مُحدَثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
واعلموا رحمكم الله أنَّ ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا، وسيتخطَّى غيرنا إلينا؛ فالسعيد من وُعظ بغيره واستعد للقاء ربه.
ألا وإن الآجال لا تفرِّق بين أهلها؛ مِن صاحب مرضٍ أو حُسنِ صحة أو حسنِ حال؛ فهي آجال مقدرة، يعلمها الله جل وعلا، فكم من شيخ كبيرٍ طال به العمر! وكم من شابٍّ سليم صحيح باغَتَه الأجل! وكم من إنسانٍ تطاول به المرض وعُمِّر على حاله! وكم من إنسان صحيح باغتَته ساعتُه ولحظاتُ فراقه لهذه الحياة الدنيا!
فالموفَّق من كان مستعدًّا لهذه النقلة العظمى؛ عملًا بقول الله جل وعلا: {﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾} [آل عمران: 102]، فالمؤمن يهيئ نفسه لهذه الرحلة العظمى؛ بالتخلُّص من الحقوق وردِّها إلى أهلها، والبعدِ عن كل ما يَشغَل ذمتَه، مما يمنعه من الوصول لغايته العظمى؛ جنَّةٍ عَرضُها السموات والأرض.
ألا وصلُّوا وسلموا على الهادي البشير، والسراج المنير، نبينا محمد؛ فقد أمرنا الله بذلك، فقال عز من قائل: {﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾} [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الكفر والكافرين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائرَ بلاد المسلمين، اللهم أصلِح أئمتَنا وولاة أمورنا، اللهم أصلِحهم ووفِّقهم لما فيه خيرُ العباد والبلاد، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، وأبعد عنهم بطانة السوء يا رب العالمين.
اللهم أصلح أحوال إخواننا في سوريا، اللهم احقن دماءهم، اللهم احمِ أعراضهم، اللهم كفَّ عنهم كيدَ الكائدين وبغيَ المعتدين، اللهم اجعل لهم مما هُم فيه مخرجًا، يا حي يا قيوم، اللهم عجِّل بكشف الكربة عنهم، يا أرحم الراحمين، يا قوي يا عزيز.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربَّونا صغارًا.
اللهم بمنِّك وفضلك لا تدَع لنا في مَقامنا هذا ذنبًا إلا غفرتَه، ولا همًّا إلا فرَّجته، ولا كربًا إلا نفَّستَه، ولا دَينًا إلا قضيتَه، ولا مريضًا إلا شفيتَه، ولا سائلًا إلا أعطيتَه، برحمتك يا أرحم الراحمين.
{﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾} [الصافات: 180 – 182].
Source link