شعائر الحج هي أكثر العبادات التي يظهر فيها إخبات العبد لربه، وتواضعه له، وتسليمه المطلق له سبحانه وتعالى.
الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلقه، أما بعد: فإن الله تعالى يريدك له وحده، ولا يقبل أن تتنازعك المحبوبات والمرغوبات والمرهوبات والمرجوات والمخوفات عنه سبحانه.
لذا فإنك تجد كلَّ عبادة من العبادات تغرس فيك نوعاً من التربية أو تحميك من خلل أو زلل.
ومدار ذلك على مقام التسليم لرب العالمين في قضائه وقدره وحُكْمه وحِكَمه وشرعه، ويصبح نوراً على نور إذا مُنح العبد مقام العلم على مقام التسليم.
فما أجمل أن نعرف لماذا كانت مكة وادياً غير ذي زرع ولم تكن وادياً ذا زرع وغاباتٍ وأنهارٍ، فيتنعم الحاج والمعتمر في أحب البقاع إلى الله!
ولماذا كان من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أن قدميه وجسده الشريفَ لم تلامس أرض عرفة في حجة الوداع؟
ولماذا يختلط الرجال بالنساء على وجه التزاحم الشديد في المطاف وفي الجمرات عند شاخص صغير على غير عادة التشريع الحكيم في سائر العبادات، من الفصل بين الجنسين، والله قادر على التوسيع عليهم؟
ولماذا حينما ننصرف من عرفة لا بد أن نبيت في مزدلفة، مع أن منى قريبة منا، وفُرُشنا وأمتعتنا فيها؟
لقد أمر الله تعالى بإتمام الحج والعمرة له سبحانه زماناً ومكاناً وصفةً، فقال تعالى: { {وَأَتِمُّوا الْـحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} } [البقرة: 196]، ويَفُوت على الحاج من حِكم الحج ومقاصده بقدر ما فَوَّت وانتقص من حجه؛ كمن ترك المبيت في مزدلفة، أو لم يستكمل القدر المشروع منه، أو لم يبت بمنى لياليها، أو لم يرم الجمرات، حتى وإن جبر نقصه هذا بفدية وصَحَّحَ حجه فقهياً؛ إلا أن الحكمة والمقصد قد فاته. ففي حالة هي الأقصى إيغالاً في التفريط والإهمال والتخفف قد يصح – فقهياً – حج من مرَّ بعرفات (طائراً) آخر لحظات الليل ومنها على مزدلفة قبيل الفجر، ثم طاف وسعى ورحل إلى بلده، تاركا خلفه ركاماً من الواجبات جابراً إياها بركام آخر من الفدية؛ إلا أنه لم يَعْلَق بنفسه ولا بقلبه شيء من مقاصد الحج المعتبرة!
لقد ضُيِّقت بعض العبادات زماناً ومكاناً مقارنة بأعداد الحجاج مثل رمي الجمار والطواف وتقبيل الحجر فلم يجعل زمانها على مدى أشهر أو أسابيع ليخف الزحام، ولم تجعل أماكنها واسعة أو كثيرة متناسبة مع أعداد الحجاج على مرِّ السنين ولم يقتصر فعلها على الرجال دون النساء فيقل العدد ولم تجعل على وجه الاستحباب بل مطلوب فعلها من عامة الحجاج رجالاً ونساءً في مكان ضيق، في وقت ضيق، والله عليم حكيم لا يخفى عليه ما سينتج عن هذه الأحكام من تزاحم واختلاط شديدين، وهذا كله لحكم عظيمة أرادها الحكيم الخبير سبحانه وتعالى.
إن مقاصد الحج هي الفوائد والحكم الكبرى التي شُرعت أعمال الحج من أجل تحقيقها وتحصيلها.
فنحن لا نشك أن كل أعمال الحج لها حكم عظيمة ومقاصد دقيقة علمها من علمها وجهلها من جهلها.
وسوف نطوف أرجاء المناسك في رحلة متأنية متبصرة، ونقف على كل مقصد، حسب ما يفتح الله، وهو الفتاح العليم.
وعلى قدر تحقيق الحاج لهذه المقاصد يكون أجره ومنزلته عند الله سبحانه وتعالى، ويكون استمتاعه بأعمال الحج وإقباله عليها بصدر منشرح.
فالمقصد الأكبر: تحقيق العبودية لله عز وجل، ومنه تتفرع بقية المقاصد، ومنها:
المقصد الأول: تحقيق محبة الله سبحانه وتعالى، وتمحيضها له سبحانه، قال سبحانه: { {قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} } [التوبة: 24].
فلا يستطيع الحاج أداء نسكه حتى يتخلى عن محبوبات كبرى في حياته، فيترك الوطن والزوجة والذرية والبيت والقرية والوظيفة والمزرعة والسيارة والقبيلة وحتى زينة الملابس، ثم لا يدري هل يعود إلى هذه المتع أم لا.
وحين يترك هذه المحبوبات ظِهْريّاً فإن البديل ليس الاتجاه إلى وادٍ ذي زروعٍ وحدائق غنَّاء، أو غاباتٍ وساسَب خضراء، أو اعتدالٍ في المناخ والأجواء، أو فسحة في الرحبة والأرجاء.
ولو كان الأمر كذلك لربما اختلطت النيات عند بعض الحجاج: هل قصدوا من الحج العبادة الخالصة، أم قصدوا الاستمتاع بهذه المظاهر؟
أَمَّا والبديلُ وادٍ غيرُ ذي زرع، شديدُ الحر، كظيظُ الزحام فإن النية إلى الخلوص أقرب.
وثمَّة حكمة أخرى والله أعلم، فلو اجتمع لمكة المكرمة خاصية هوي الأفئدة إليها – تحقيقاً لدعوة إبراهيم عليه السلام – إلى جانب جمال طبيعتها فلربما تكدس الناس فيها وتكاثروا، ولم يجد غيرهم فرصة لأداء نسكه.
ولكن من رحمة الله أنها قلوب تهوي ثم تأتي فتجد وادياً غير ذي زرع، فتقضي عبادتها، ثم ترحل وتُفسح المجال لغيرها.
وربما وصل الحاج إلى هناك ومعه شيء من محبوباته الفطرية؛ فمطلوب منه أن يتركه عند عتبات المواقيت على مسافة من الحج زمنية وجغرافية حتى تتمحض المحبة العظمى لله عز وجل وحدَه، خالصة له سبحانه.
فإنْ صَحِبَته الزوجة الودود والملابس الفاخرة والعطور الزكية حرمت عليه هناك في المواقيت، بمجرد الإحرام.
ومن المحبوبات الكبرى العظيمة في مكة ما سيتركه الحاج، كالمسجد الحرام نفسه، والكعبة المشرفة ذاتها، والحجر الأسود عينه، وأرض الحرم بِرُمَّتها، سيتركها الحاج وجوباً إلى ما هو دونها، اختباراً وامتحاناً من الله للعبد، هل يقدم محبوبات الله، فيخرج من محبوباته التي اعتادها (الموجودة في أرض الحرم) في أعظم أيام الحج يوم عرفة إلى خارج الحرم (أرض عرفة) حيث تخلو أرضها من أي محبوب؟
ولم تكن قريش تجاوز حدود الحرم في حجها الجاهلي، قال جابر رضي الله عنه: «أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبة من شعر تضرب له بنمرة فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشكُّ قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام – كما كانت قريش تصنع في الجاهلية – فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها»[1].
وتحكي لنا أمُّنا عائشة رضي الله عنها ما كانت قريش تفعله في جاهليتها، فتقول: «كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحُمْسَ[2] وكان سائر العرب يقفون بعرفة، فلما جاء الإسلام أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات فيقف بها ثم يُفيض منها فذلك قوله عز وجل: { {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} } [البقرة: 199]»[3].
ولعلك تسأل: كيف تخْلو أرض عرفات من المحبوبات وهي التي وقف فيها النبي صلى الله عليه وسلم نصف نهار كامل؟
والجواب: أن الله تعالى لم يتح لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يلامس شيءٌ من جسده أرضَ عرفات في حجته عليه الصلاة والسلام.
والأدلة والقرائن تشير إلى أن هذا الحكم مقصود لذاته، وأنه حكم تعبُّدي خاص به صلى الله عليه وسلم دون أمته، ومن هذه القرائن أن الله سبحانه وتعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يتوقف قبيل بداية حدِّ عرفة ببضعة أذرع في وادي عُرَنَة، في مكان مسجد نَمِرَة الآن، ليأكل ويشرب ويستريح ويتوضأ خارج عرفة، ثم إذا زالت الشمس أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه رضوان الله عليهم أن يدخلوا داخل حدِّ عرفة ويقف هو على حدِّها من الخارج ببضعة أذرع، فيخطبهم ويصلي بهم، هو خارج عرفة وهم داخلها، ثم إذا فرغ من خطبته وصلاته ركب ناقته ودخل عرفة راكباً، ووقف بها راكباً، ولم ينزل عن الناقة حتى غابت الشمس، قال جابر رضي الله عنه: «أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبة من شعر تضرب له بنمرة…
فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرُحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس… ثم أذَّن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصلِّ بينهما شيئاً ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حَبْل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم … حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبِّح بينهما شيئاً ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبيَّن له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القِبلة فدعاه وكبره وهلله ووحَّده فلم يزل واقفاً حتى أسفر جِدّاً فدفع قبل أن تطلع الشمس»[4].
وكان صلى الله عليه وسلم بعرفات يدعو رافعاً يديه، فمالت به ناقته، وقد طال عليها الوقوف والمقام، وعليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولاه أسامة بن زيد رضي الله عنه، ويسقط خطامها، فيتناوله بإحدى يديه، وهو رافع يده الأخرى[5].
ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مركوزة في قلب كلِّ مؤمن، وكذلك آثاره صلى الله عليه وسلم ، وقد أراد الله في عرفة ألَّا يكون فيها أي أثر لمحبوب سواه سبحانه حتى ولو كانت آثارَ رسوله صلى الله عليه وسلم ، لئلا تتعلق نفوس بعض الحجاج بها فتشغلهم عن محبة الله تعالى في ذلك اليوم العظيم.
ولِمَ لا وأكثر سبب ضلَّت به البشرية هو الغلو في محبة الصالحين وآثارهم.
ألم يكن أول شرك على وجه الأرض في زمن نوح عليه السلام سببه الغلو في محبة الصالحين وآثارهم؟
وكذلك ألم تضل النصارى بالغلو في محبة عيسى عليه السلام؟
والرافضة ضلت بالغلو في محبة علي والحسين رضوان الله عليهما.
والصوفية أُتوا من قِبَل الغلو في المحبة حتى كان منهم من رفع مقام النبي صلى الله عليه وسلم إلى مقام الألوهية والربوبية، وغلوا في الجيلاني وغيره. أحبوهم حبّاً يضاهي حبهم لله عز وجل، فطافوا على قبورهم ودعوهم وتوسلوا بهم، فهلكوا، قال تعالى: { {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ} } [البقرة: 165].
فهكذا أريد للحجاج في عرفة ألَّا يكون أمامهم محبوب تنشغل به القلوب إلا الله وحدَه سبحانه وتعالى.
والناظر لحال كثير من الحجاج وتهافتهم على جبل عرفات ظنّاً منهم أن له قدسية خاصة يدرك هذا المغزى الرباني من عدم ترك أي أثر للنبي صلى الله عليه وسلم في عرفات، والله أعلم.
وقد يُختبر الإنسانُ في محبته لربه بأن يعرض عليه محبوب في وقت تشتد فيه حاجته إليه، ولكن الله يمنعه منه ويحرِّمه عليه اختباراً وامتحاناً: آلله أحب إليك أم هذا المحبوب؟ فها هم الصحابة رضوان الله عليهم يُحْرمون بالحج في زمن جوع وفقر، وما إن يدخلوا في الإحرام حتى يأمر الله الصيد المحبوب أن يقترب منهم على غير عادته، فيكون بمتناول أيديهم ورماحهم ابتلاءً واختباراً، كما قال سبحانه: { {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ …} } [المائدة: 94] الآية.
فما أعظم تحقيق الصحابة رضي الله عنهم لتوحيد المحبة حينما تركوا هذا الصيد تعبُّداً لله سبحانه رغم حاجتهم الشديدة إليه، من غير رقيب ولا حسيب إلا الله عز وجل!
ويشتد الاختبار في المحبة عند الطواف، ورمي الجمرات، فبعد أن تخلَّى الحاج عن المحبوبات التي هي حلال في الأصل كالزوجة والطيب والصيد، يأتي الاختبار في المحبوبات المحرمة أصلاً، وهو ابتلاء الرجال بالنساء والنساء بالرجال.
فرغم أنه يمكن قسمة الجمرات بعض للنساء وبعض للرجال، أو يوم للنساء ويوم للرجال والطواف كذلك، أو تُعفى النساء من الطواف والرمي مراعاة لمزاحمة الرجال، أو يكون الرمي إلى شاخص كبير، يرميه الناس من كل مكان… إلا أن شيئاً من ذلك لم يكن، بل جاءت أحكام الطواف والرمي على صورتها المعهودة، مع علم الله تعالى بالزحام وبما يؤدي إليه من اقتراب النساء من الرجال في مكان ضيِّق، ليحصل الاختبار والابتلاء: آلله أحبُّ إليكم أم هؤلاء النساء؟ ولعل في هذا إخمادا لدندنة دعاة الاختلاط حول هذه المواقف بالذات.
إن المؤمن الصادق الذي شغل حبُّ الله قلبه، رغم الزحام الشديد، وعدم الرقيب من البشر، يتورع ويحذر ويتقي قدْر ما يستطيع، لا لشيء سوى أن الله أحبُّ إليه مما سواه؛ خصوصاً وهو يتذكر أن إبراهيم عليه السلام لم يُعطَ درجة الخلة إلا وقد اختُبر في مكان الجمرات في ولده إسماعيل عليه السلام، فبعد أن اختُبر بالعقم سنين طويلة ثم اختُبر بعد أن جاءه الولد بأن يتركَه وأمَّه في وادٍ غير ذي زرع ويرحل إلى الشام، ثم يُشدِّد عليه الاختبار ويؤمَر بالرجوع إليهم ثم بعد فرحته بلقاء ولده الوحيد يؤمر بذبحه فيأتي إلى مكان هذه الجمرات لتنفيذ الأمر فيأتيه الشيطان ثلاث مرات يوسوس له ليردَّه عن تنفيذ أمر ربه فما يجد من إبراهيم إلا الرد الحاسم بالمضي قُدُماً للتنفيذ والإصرار عليه ورجم الشيطان بالحجر في كل مرة يظهر له فيها، مردداً أن الله أكبر من كل محبوب… الله أكبر الله أكبر الله أكبر.
إن الله سبحانه وتعالى لا يقبل أن تزاحِم محبتَه في قلب العبد أيُّ محبة أخرى، { {قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} } [التوبة: 24]، { {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ} } [البقرة: 165].
المقصد الثاني: تحقيق التعظيم لله عز وجل والضعف بين يديه، قال تعالى: { {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} } [الحج: 32]، وقال سبحانه: { {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} } [الحج: 30]. ويؤخذ هذا من قوله تعالى: { {فَإذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْـمَشْعَرِ الْـحَرَامِ} } [البقرة: 198]، فالمشعر: كلُّ ما أشعر بعظمة الله وغناه وذُلِّ المخلوق وفقره، وقد تجلى هذا بوضوح في أرض مزدلفة؛ فسبحان من خضعت لعظمته الرقاب { {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْـحَمِيدُ} } [فاطر: 15].
إن من يقارن وضع الحجاج في منى وعرفة من جهة، ووضعهم في مزدلفة من جهة أخرى، يلحظ فرقاً دقيقاً بينهما، وهو أن الحجاج في منى وعرفة يتضح بينهم تفاوت طبقاتهم في الغنى والفقر بصورة واضحة، في خيامهم وطعامهم ومراكبهم.
ففي منى وعرفة تجد على قارعة الطريق الفقير الذي قد بات طاوياً، وتجد الغني الملفت للانتباه في خيامه ومظهره ومتاعه.
حتى لربما انشغل الحجاج هناك بمظاهر غنى المخلوقين عن غنى الخالق سبحانه، وبتعاظم المخلوقين عن عظمة الخالق سبحانه، حتى توشك بعض القلوب الغافلة أن تنسى حينها من العظيم!
وهنا – والله أعلم – شُرِعت أحكام مزدلفة، لتزيل كلَّ فوارق الغنى والعظمة بين الحجاج كيلا يبقى في مزدلفة مظهر لأي عظمة وغنى قط إلا عظمة الله سبحانه وتعالى وغناه وحده.
فلو تأملت أحكام مزدلفة لوجدتها شُرعت بطريقة تحول بين الحجاج وبين مظاهر غناهم وتعاظمهم.
فالوقوف فيها ليلاً فقط فلا يحتاج الحاج إلى الاستظلال بالخيام التي يتفاوتون في مظاهرها.
ومدة الوقوف ساعات قليلة متجردين فيها من ملابس الزينة فلا يحتاجون إلى أمتعتهم وحقائبهم المظهرة لغناهم وتعاظمهم.
وتراهم كلَّهم ينامون في مزدلفة نومة الفقراء على الأرض العارية، ويأكلون أكل الفقراء.
وتراهم يرتادون المرافق العامة دون تميُّز بين طبقة وأخرى غالباً، فها هم قد اصطفوا في طوابير طويلة أمام دورات المياه العامة، الفقير مع الغني، والوجيه مع الوضيع، متلبسين بمظاهر الفقر والضعف بعيداً عن مظاهر الغِنى – وهم الذين يتميزون في منى وعرفات بدورات المياه الخاصة النظيفة – لكي يدرك الجميع وهم يرون هذه المناظر في مزدلفة ألَّا عظيم عظمة مطلقة إلا الله وحده سبحانه.
المقصد الثالث: تحقيق الرجاء لله عز وجل. لقد أدت طريقة تشريع أعمال الحج إلى اختلاطٍ أو تقاربٍ في السكن خاصة في الخيام، بين أنواع من الراجين والمرجوين من الخلق، بين الأغنياء والفقراء، بين الوجهاء والضعفاء، بين الآمر والمأمور، بطريقة يندر حصول مثلها في الحياة العامة، التي تحيط بالكبراء فيها الأسوار، وتحفظهم دوائر الحُجَّاب.
ويتضح هذا التقارب أكثر في عرفة، وأكثر منه وأشد في مزدلفة.
ولكن المتأمل لحال الحجاج في هذين المشعرين يجد أن الجميع قد انشغلوا عن رجاء المخلوقين، واتجهوا كلُّهم إلى رجاء من لا تفنى خزائنه ولا تُحصى نِعمه، ولا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
رافعين إليه أكف الضراعة بمظهر واحد وحالٍ واحدة؛ مظهرين له الذل والافتقار والحاجة والانكسار، بين يدي العزيز الجبار، الكريم الغفار، ليعترف الجميع ألَّا مرجوَّ إلا الله وحده سبحانه وتعالى، وهذا من توحيد الرجاء، قال تعالى: { {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْـحَمِيدُ} } [فاطر: 15].
المقصد الرابع: تحقيق الخوف من الله سبحانه، فهناك ارتباط وثيق بين شعيرة الحج ومقصد تحقيق الخوف من الله سبحانه، يتبين هذا من خلال تأمُّل الكتاب والسنة والواقع.
فسورة الحج تفتتح بصورةِ خوف فظيعة، من أشد صور الخوف التي تمُرُّ على البشرية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ 2} [الحج: ١، ٢] هذه هي افتتاحية السورة التي ستتكلم عن مقاصد الحج وفي ثناياها كثير من آيات الرعب المزلزلة؛ فما العلاقة بين الحج والخوف؟
سمَّى النبي صلى الله عليه وسلم الحج جهاداً، فقد بوَّب البخاري في صحيحه: «باب جهاد النساء» وساق تحته حديثين عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: الأول أنها استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد فقال: «جهادكن الحج». والثاني أنه صلى الله عليه وسلم سأله نساؤه عن الجهاد فقال: «نعم الجهاد الحج»[6].
وهل الجهاد إلا قرين المخاوف؟
ثم تأمَّل كيف ارتبط الخوف بمحاولة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام الوصول إلى أرض الحرم عام الحديبية. فقد تصدت لهم قريش بالقوة ومنعتهم من العمرة، وتداعى الناس للحرب، وبايع المؤمنون تحت الشجرة على القتال، ثم وقع الصلح على عمرةٍ في العام القادم، واشترط المسلمون أن تكون السيوف معهم؛ خوفاً من غدر قريش. فكانت عمرةً مع الخوف.
ومن يتأمل الحج منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، يجد أنه لم ينفك عن الخوف على مرِّ السنين والقرون.
فبعد أن انتهى الخوف من قريش، ما لبثت الأمة قليلاً حتى انتشر قُطَّاع الطرق في أغلب الفجاج المؤدية إلى مكة المكرمة مدة ثلاثة عشر قرناً، وكأن الذاهب إلى مكة مفقود والقادم منها مولود.
وما إن انحل هذا الخوف مؤخراً وكثر الحجاج حتى انفتح عليهم خوف حرائق الخيام، فصارت قرينةَ الحج سنينَ طويلة.
وما إن انتهت مشكلة الحرائق حتى برزت مخاوف المظاهرات، ثم التفجيرات وإطلاق الغازات، ثم السيول والرياح والأعاصير، وما سقوط الرافعة وسط المسجد الحرام، وجوار الكعبة المشرفة وقتلها وإصابتها العشرات عنَّا ببعيد، ثم الأمراض والأوبئة.
أما مخاوف الجمرات فقد صاحبت الحج والحجاج عقوداً طويلة.
ولم يجتهد الناس إلى اليوم في غلق باب خوفٍ إلا انفتح باب خوف جديد، حتى إنك إلى الآن لتجد مَن عزم على الحج لا يخلو قلبه من شعورٍ بالخوف من بداية أمره وحتى الرجوع إلى أهله.
فيا ترى إن كان هناك تلازم بين الحج والخوف؛ فما الحكمة منه؟
لعل المقصد من ذلك – والله أعلم – الارتقاء بعبادة الخوف من الله من الزعم باللسان إلى التحقيق بالجوارح والجنان.
فالحاج يعلم عن هذه الحوادث المخيفة وعن احتمال حدوثها مجدداً، ومع ذلك يستميت في صنع فرصة الحج لنفسه، لأن خوفه من وعيد الله لمن لم يحج وهو قادر قد طغى على هذه المخاوف كلها.
المقصد الخامس: تحقيق التوكل على الله عز وجل، فإذا كنت في بلدك وبين أقاربك، وفي بيتك الآمن وعندك سيارتك ورصيدك البنكي؛ فما أسهل أن تزعم أنك متوكل على الله ولكن الحقيقة أنه لا يُدرى أأنت متوكل على الله حقا أم على هذه الأسباب؟
فالحج يقدم دليلاً واضحاً على أن الحاج متوكل على الله وحدَه… فكيف ذلك؟
حينما تتأمل موقع مِنَى وأنها في وادٍ بين جبال، وتتأمل حال ملايين الحجاج وهم في خيامهم متزاحمين، وعلى جوانب الطرقات متناثرين، وهم يعلمون احتمال حدوث أنواع من المخاطر كالسيول الجارفة التي يُحتَمَل أن تُزيل هذه الخيام وتُغرق مَن فيها، أو الصواعق الشديدة والبَرَد الشديد؛ فهل يكفي سقف الخيام للحماية منها، ولو تسارع انتشار مرضٍ معدٍ فهل الإمكانات كافية لتداركه وطرح العلاج؟ ولو أراد المفسدون الإضرار بالحجاج بطرقٍ مدروسة؛ فهل مع عامة الحجاج ما يكفي أن يدفعوا به عن أنفسهم؟ إضافة لِـمَا يكتنف طريق القدوم والعودة من أنواع المخاطر كسقوط الطائرات وغرق السفن وحوادث السيارات، ومع ذلك كله تتلاشى هذه المخاوف كلها في جنب صدق توكله على الله عز وجل وإيمانه بقضائه وقدره.
المقصد السادس: تحقيق الإنابة لله عز وجل، فلما كان من شروط الحج القدرة والاستطاعة، أدى هذا إلى أن يكون أغلب الحجاج من الأقوياء في أموالهم وأبدانهم.
ومع توفر صفة القوة المالية والجسدية وغيرها من الصفات الموحية باستغناء صاحبها، مع ذلك كلِّه تجد الحُجاج في جميع مواطن الحج خصوصاً في عرفة، والمطاف، وفوق الصفا والمروة، قد وقفوا وقوف الخائف الذليل المعترف بذنبه، المعلن لتقصيره، النادم على تفريطه المتبرئ من حوله وقوَّته إلى حول الله وقوَّته، الراجي عفو ربه وأن يصفح ويستر ما سلف وكان من الغفلة والتفريط والعصيان.
لقد أنابت هذه القلوب لله عز وجل وحده، لا لأمر من أقوياء البشر دعاها، ولا لوعدٍ من أغنيائهم أغراها، حتى تلين القلوب بهذه الطريقة وتسكب دموعها خوفاً منهم وطمعاً بما في أيديهم؟ ولكنها الإنابة إلى الله عز وجل، والله أعلم.
المقصد السابع: تحقيق الإخبات لله تعالى، وهو التواضع لله عز وجل، وقد ورد لفظ الإخبات في ثلاثة مواضع في القرآن الكريم، أحدها في سورة هود، قال تعالى: { {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ وَأَخْبَتُوا إلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْـجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} } [هود: 23]، واثنان منها في سورة الحج، وهما قوله تعالى: { {وَبَشِّرِ الْـمُخْبِتِينَ 34 الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْـمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} } [الحج: 34 – 35]، وقوله تعالى: { {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْـحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} } [الحج: 54].
فلماذا كان اثنان من هذه المواضع الثلاثة في سورة الحج بالذات؟
ربما – والله أعلم – لأن شعائر الحج هي أكثر العبادات التي يظهر فيها إخبات العبد لربه، وتواضعه له، وتسليمه المطلق له سبحانه وتعالى. فإنك – مثلاً – لو سألت أكثر الحجاج عن الحكمة فيما يفعلونه من شعائر الحج، كالذهاب إلى عرفة، أو المبيت في مزدلفة، أو رمي الجمرات، أو غيرها من أعمال الحج التي يفعلونها بكل حرص ودقة. لو سألتهم: لماذا شُرعَت هذه الأعمال، وما المقصد منها، ولماذا تفعلها؟ لوجدت الجواب: إنه التعبد لله عز وجل وحسب.
وهذا من الإخبات لله سبحانه وتعالى والتسليم له، وهو أن يجتهد العبد في العمل لأن الله أمره فقط، دون النظر لأي شيء آخر، فهو يؤديه بإقبال وحرص وانشراح صدر، وهو لا يعرف تفاصيل الحكمة من ذلك؛ وإنما يكفيه أن هذا تعبُّد لله عز وجل يوصله إلى مرضاة ربه سبحانه.
في حين لو أمره مخلوق لربما سأل وناقش: لماذا؟ أو قال: الأحسن كذا أو: لم اقتنع!
فسبحان من أخبتت له القلوب، فهذا عابس بن ربيعة يروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبَّله فقال: «إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبَّلتك»[7]. فالحجر لا يضر بذاته ولا ينفع؛ وإنما النفع المرجوُّ بالثواب الذي يحصل بامتثال أمر الله تعالى في تقبيله.
ومن الحجاج من يعيش في بلده، حياةً مترفة، مبتعداً عن الفقراء والمساكين والضعفاء، وربما عن العامة من الناس، يعيش في قصره حياةً ملؤها النعيم والهدوء.
وحينما يُدعى إلى الحج يأتي ويخالط الضعفاء والمساكين، وربما أكل أكلهم، ونام نومتهم، خصوصاً في مزدلفة، ووقف معهم في زحام رمي الجمرات، والطواف والسعي، صابراً على الروائح الكريهة والتدافع والزحام والحَرِّ والعرق، إخباتاً لله رب العالمين، وتواضعاً له سبحانه.
[1] أخرجه مسلم (1218).
[2] سموا حمسا لأنهم تحمسوا في دينهم أي تشددوا. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (8/198).
[3] أخرجه البخاري (4248)، ومسلم (1219).
[4] أخرجه مسلم (1218).
[5] أخرجه الإمام أحمد (21821)، والنسائي، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي (3011).
[6] صحيح البخاري (2720)، (2721).
[7] أخرجه البخاري (1520)، ومسلم (1270).
_________________________________________________________
الكاتب: خالد بن صالح السلامة
Source link