منذ حوالي ساعة
قد يَكون افتِراقنا على خِلافٍ قائمٍ واضح أقلَّ وَطأةً من افتِراقنا على خِلافٍ وهمي لا حَقيقةَ له في الواقع، ويَزدادُ الأمر سُوءًا بتصعيد الخلاف الوهمي حتى نجعَله معركةً، معركة تَذهَبُ بالأوقات والجُهود، وتصنَع الفُرقة والشِّقاق.
قد يَكون افتِراقنا على خِلافٍ قائمٍ واضح أقلَّ وَطأةً من افتِراقنا على خِلافٍ وهمي لا حَقيقةَ له في الواقع، ويَزدادُ الأمر سُوءًا بتصعيد الخلاف الوهمي حتى نجعَله معركةً، معركة تَذهَبُ بالأوقات والجُهود، وتصنَع الفُرقة والشِّقاق.
وإذا كُنَّا نُهينا عن الاختِلاف وأسبابه؛ لأنَّه مظنَّة الافتِراق، فكيف باصطِناعه المتوهَّم؟
أمثلة من الواقع:
وفي الواقع أمثلةٌ كثيرةٌ على اختِلافاتٍ مُتوهَّمة، أضحَتْ مع الوقت معارك فكريَّة وعمليَّة كبيرة.
• من ذلك اختِلافُ قِطاعَيْن كبيرَيْن على: أيُّهما يبدأ به في الدعوة إلى الله في الواقع المعاصر: البدء بإصلاح الناس وتربيتهم على الدِّين جملةً وتفصيلاً، أم البدء بالسَّعي وَراء الحكم الإسلامي الضامن لحِفظ الشريعة وأَوْبَة الناس طَوْعًا أو كَرْهًا؟
ولو اقتَصَر الخِلاف على المقارنة الواقعة في حيِّز المُفاضَلة، لكان الأمر هيِّنًا، لكنَّ الخِلاف في الواقع أكبر من مجرَّد أيهما أفضل أو أنفَع؛ لقد رفَض كلُّ فريقٍ طريقَ الآخَر، وجعَلَه مُبايِنًا لطَرِيقه، وقامَتْ مناهج دعويَّة وفكريَّة لكلِّ طائفةٍ مُغايِرة لمناهج الطائفة الأخرى، بِناءً على اختِلافهما في أصل الطريق المُختار لتَمكِين الدِّين من العِباد والبِلاد.
فكانَتْ معركة كبرى مُتَوهَّمة؛ إذ ليس بين الطريقتَيْن اختلافُ تَضاد، بل هما وَسِيلَتان في الدَّعوة إلى الله تعالى، نعم، مختلفةٌ ظواهرُهما، لكنْ متَّفقة غايَتُهما، كما أنَّ اختِلاف طبيعتهما من اختِلاف التنوُّع الواجب عدَمُ الإنكار فيه.
وينبَغِي أنْ يُعلَم أنَّني أتكلَّم عن أصل الطريقتَيْن بعيدًا عن جُزئيَّات أُحِيطت بهما ربما لا تُقبَل؛ لأنَّ الخِلاف حولَها من خِلاف التَّضاد، أمَّا أصلُ الطريقتَيْن فلا يَظهَر فيهما تعارُض أو تَضاد؛ فعن تميمٍ الداريِّ – رضي الله عنه – أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «الدِّين النَّصيحة»، قلنا: لِمَن؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمَّة المسلمين، وعامَّتهم»؛ (أخرجه مسلم وغيره).
فجمَع -صلى الله عليه وسلم- بين أئمَّة المسلمين وبين عامَّتهم في النَّصِيحَة، على أنَّ في صَلاح الرَّاعِي أو الرَّعيَّة صَلاح الآخَر، كما تُعلِّل كلُّ طائفةٍ اقتصارَها على طرف الرعيَّة أو طرف الرَّاعي في الدعوة، ومع ذلك جمعهما -صلى الله عليه وسلم- لينتَفِي التَّضاد في نُصحِهما جميعًا وفق التَّفصِيل المُبيَّن في كِتاب الله -تعالى- وفي سُنَّة رسوله – صلَّى الله عليه وسلَّم.
• من الأمثلة في الواقع كذلك على المعارك الوهميَّة، نصْب الخِلاف والتَّضاد بين شِرك العبادة المتمثِّل في عِبادة أصحاب القبور، وبين شِرك الحاكميَّة، المتمثِّل في إحلال القَوانِين الوَضعيَّة البشريَّة مكانَ الشريعة الإسلاميَّة.
ولو كان الخلاف حول أيِّ الشركَيْنِ أعظم وأخطَر، لاحتَمَل، ولما كان لتضادِّهما معنى، ولكنَّ كثيرًا من الدُّعاة وطُلاَّب العِلم يُصرُّون على تَوَهُّمِ مُعارَضتهما؛ فنجد الحديث عن أحد الشركَيْنِ عند طائفةٍ ذا أهميَّة وخُطورة، والآخر ربما من التَّقسِيمات البدعيَّة التي لم يكن عليها أهلُ العلم سابقًا! وهكذا يَرى الطائفة الأخرى أنَّ الحديث عن شِرك العبادة لا أهميَّة له بعد أنْ فقهَه القاصِي والدَّانِي ولم يعد يَخفَى على أحد!
ولا أدري ما وجهُ التعارُض بين النَّهي عن الشركَيْنِ والعمَل على إزالتهما من المجتمع المسلم؟ ولماذا نتوهَّم تضادَّهما لبعضٍ وهُمَا من جِنسٍ واحد من حيث المسمَّى والحقيقة، ومن حيث المآل والعاقبة؟
والمُلاحَظ في هذين المثَلَيْن أنَّ موضوعَيْهما كانا بمثابة الأصلَيْن المتفرِّع عنهما قَضايا ومسائل كثيرة، جرَّت الدَّعوة والدُّعاة لخِلافات وافتِراقات شتَّى؛ بل وكانا محورَيْنِ في السَّير الدَّعوي مختلفَيْن، ينبَثِقُ عن كلٍّ منهما أفكارٌ وسلوكيَّات مُبايِنة للأُخرَى، وكان هذا كلُّه نتاج مُعارَضة مُتوهَّمة رجعَتْ وَيْلاتها على الدَّعوة وحدَها.
وفي الواقع أمثلة أخرى كثيرة.
أسباب المعارك الوهميَّة:
ولا شَكَّ أنَّ مِن وراء توهُّم خِلاف التَّضاد، سواء في المسائل الدعويَّة، أو العمليَّة، أو العلميَّة، أو التربويَّة، أو الفكريَّة، أو غير ذلك – أسبابًا كثيرةً؛ منها:
• ضعْف التربية الفكريَّة: بحيث ينشَأُ ويتربَّى المتعلِّم أو الدَّاعية على مناهج ذات أصول مُعيَّنة لا يتصوَّر معها غيرها.
ويمكننا تفهُّم هذا إذا نظَرنا لعمَل الذين يَتوهَّمون التَّضاد بين الدَّعوة لدَحْضِ الشِّرك المتمثِّل في شِركِ الدُّعاء على قبور الأموات، وبين الدعوة لِمُنابَذة شِرك الحُكم، المتمثِّل في الاستِغناء بالقَوانِين الوضعيَّة عن التَّشرِيعات الإسلاميَّة، فإنَّ رَفْضَ أحد الدعوتَيْن سببُه الأوَّل النَّشأة التي بُنِيتْ على تصوُّر غير مكتمل لكافَّة أنواع الشِّرك.
والتربية الفكريَّة تقتَضِي أنْ يَنشَأ المسلم على تصوُّر مُكتَمل، يَعِي أنَّ الأصول الرئيسة للمناهج قد يَجِدُّ عليها غيرها في زمان أو مكان مختلف، فلقد قامَتْ دَعوة الشيخ المجدِّد محمد بن عبدالوهَّاب – رحمه الله – على أصْل رفض شِرك الدُّعاء؛ وذلك لأنَّ الناس في عامَّة الأقطار الإسلاميَّة استهوَتْهم البِدَع وتلبَّسوا بهذا النَّوع من الشِّرك، فلمَّا تحقَّق للدَّعوة نجاحٌ ظاهرٌ، استَفحَل شِرك الحاكميَّة في البِلاد، فقامَت الدَّعوة لِمُنابَذته وتَسلِيط الجهود عليه، فظنَّ الظانُّ أنَّ الدَّعوة لنبْذ شِرك الحاكميَّة مُعارضة للدَّعوة لشرك الدُّعاء، أو على الأقلِّ ليس في أولويَّة الدَّعوة لدَحْضِ شِرك العِبادة، فوقَع ما وقَع من الرَّفض والتَّهوِين.
وسبب هذا كلِّه ضعْف التصوُّر الفكري، الذي يَنشَأ عليه المسلم – فضلاً عن الداعِيَة – لتناوُل قَضايا الشرع غير مجتزئة.
• اختِلاف المناهج الدعويَّة: ممَّا ينبَنِي عليه اختلافُ وجهات النَّظَرِ العلميَّة؛ فالدَّعوة التي تتَّخِذ لنفسها طريقًا مُحدَّدًا لا يسَع أصولاً غير أصولها المندرجة في أساليبها، ربما ترفُض أو تصادم في قَضايا غير معنيَّة هي بها، حتى ولو لم تُخالِف أصولها.
فتقع معارك وهميَّة بين طوائف مختلفةٍ أساليبُها وطرقها، متَّفقةٍ مُنطَلَقاتُها ومَقاصِدها، وهو عين التوهُّم في الخِلاف والاختِلاف.
وقد سبَق مِثال رفْض الدَّعوة إلى أسلَمَة الحكم قبلَ الجماهير، أو الدَّعوة إلى تربية الجماهير قبلَ إحكام سُلطة الحكم المُعِينة على إعمال الشَّرع في الناس، وهذا المثال من هذا النَّوع، فإنَّ رفْض أحد الطريقَيْن نِتاج اختلاف المنهج الدَّعوي الذي انطَلقَتْ منه كلُّ طائفة.
• فَساد المقاصد: ومن الأسباب كذلك فَسادُ بعضِ مقاصد المتصدِّرين؛ بحيث يقَع الخِلاف والاختِلاف والتعارُك من أجل مَآرِب أُخرَى، لا علاقة لها بالشَّرع والدَّليل، وإنْ ألبَسَها أصحابُها لِباسَ الشَّرع.
وكثيرًا ما يحمل التشاحُن على تعجل المخالفة، دون أنْ يَلحَظ أحدُنا أنَّ للنَّفس تأثيرًا خفيًّا على وجهاتنا العلميَّة أو الدعويَّة، ثم تكون تلك نواةً لاختِلافات وافتِراقات جديدة، وهي لا شكَّ من عمل الشَّيطان؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ الشيطان أَيِسَ أنْ يعبده المصلُّون في جزيرة العرب، ولكن في التَّحرِيش بينَهم»؛ (أخرجه مسلم وغيره من حديث جابر بن عبدالله).
وعِلاج تلك الآفَة الخطيرة – آفة توهُّم الخِلاف، ثم نصب المعارِك الدعويَّة حولَه – في تجنُّب تلك الأسباب المذكورة وغيرها.
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهمَّ وسلِّم على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصَحبِه ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
Source link