قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101، 100].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 100] صدَّر الخطاب بنداء المؤمنين؛ تنبيهًا لخطر ما يدعوهم إليه، ولتحريك عناصر الإيمان في قلوبهم، فيكون منهم الحذرُ واليقظة، فإن الإيمان فِطنةٌ، ولا يُلدغ المؤمنُ من جُحر مرتين، ولأن علة الإجابة للطلب هي الإيمان.
وقيل: تنبيهًا على تباين ما بينهم وبين الكفار، ولم يأتِ بلفظ «قل» ليكون ذلك خطابًا منه تعالى لهم، تأنيسًا وتفضُّلًا عليهم.
وأبرز نهيَه عن موافقتهم وطواعيتهم في صورة شرطية؛ لأنه لم تقع طاعتهم لهم.
قال ابن عثيمين: هذا الحكم مصدَّر بالنداء، وتصدير الحكم بالنداء يدل على الاهتمام به، والعناية به؛ وذلك لأن النداء يتضمن تنبيه المخاطب، والتنبيه لا يكون إلا لأمر هامٍّ، تجب العناية به، ثم صار النداء موجَّهًا للذين آمنوا من باب الإغراء لقبول ما يأتي؛ تصديقًا به إن كان خبرًا، وامتثالًا له إن كان طلبًا؛ أمرًا ونهيًا، لأن وَصْفَهم بالإيمان يقتضي أن يقوموا بمقتضى هذا الخطاب الموجَّه لهم… ويقتضي أيضًا أن مخالفته نقص في الإيمان؛ لأن المؤمن يقتضي إيمانه أن يقوم بما أُمِرَ به، وأن يَدَعَ ما نُهِيَ عنه.
{إِنْ} [آل عمران: 100] عبَّر في الشرط بـ«إن» للإشارة إلى بُعْدِ وقوع الطاعة منهم لهؤلاء مع إيمانهم؛ لأن «إن» الشرطية تفيد الشك في وقوع الشرط، وبالتالي ترتُّب الجواب عليه، بخلاف «إذا» فإنها تفيد وقوع الشرط، أو تُؤذِن بوقوعه، وترتُّب الجواب عليه؛ كقوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]، وقوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} [الانفطار: 1، 2]، وقوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8، 9].
{تُطِيعُوا فَرِيقًا} [آل عمران: 100]: طائفة من الحاقدين على الإسلام، العاملين على الكيد له، والمكر به وبأهله، وسمَّاهم فريقًا؛ لأنهم لم يكونوا كلهم، ولأنه يُرجى الإيمان من بعضهم.
{مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: 100]، ووصفهم سبحانه وتعالى بأنهم أُوتوا الكتاب للإشارة إلى أن تضليلهم مقصودٌ، وأنهم أهلُ معرفة، ولكنهم استخدموها للضلال والتضليل، فصاروا بهذا كالأنعام، بل أضل سبيلًا؛ لأن المعرفة إن لم تكن لنصرة الحق، كان الجهل خيرًا منها؛ لأنه أدنى إلى المعذرة.
والآية تلوين للخطاب، وتوجيه له إلى المؤمنين؛ تحذيرًا لهم عن طاعة أهل الكتاب، والافتتان بفتنتهم، إِثْرَ توبيخهم بالإغواء والإضلال؛ ردعًا لهم عن ذلك.
فسِيقَ النداء لتحذيرهم من ذلك العدوِّ الذي اختلط بهم، وأخذ ينفُث سموم الشر، وسموم التفرقة بينهم، وأنهم يعودون إلى الكفر إذا استجابوا لدعوته، ومكَّنوا لسمومه من أن تصل إلى قلوبهم.
{يَرُدُّوكُمْ} [آل عمران: 100] ولم يقل: (ترتدوا)، والمعنى متلاقٍ، ولكن الأول في بيان تسلُّط الكفار على قلوب أهل الإيمان في حال تلك الطاعة، فهو نوع آخر من التحذير منهم؛ لأنهم كالشياطين، فعلى كل مؤمن أن يحذرهم، أما الارتداد، فإنه يكون انبعاثًا من نفس المرتد، بضلاله هو لا بتأثير من غيره.
{بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران: 100] تأكيدًا لِما أفاده قوله: {يَرُدُّوكُمْ} [آل عمران: 100]، والقصد من التصريح توضيح فوات نعمة عظيمة كانوا فيها لو يكفرون.
{كَافِرِينَ} [آل عمران: 100]؛ كما قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109]، وقال: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} [آل عمران: 69]، ومن وَدَّ شيئًا، سعى في تحصيله.
والرِّدَّة بعد الإيمان أعظم من عدم الإيمان من أصله؛ لأنها إخراج من الإيمان إلى الكفر، ومن المعلوم أن الإنسان لن يخرج من الإيمان إلى الكفر إلا بمحاولات شديدة؛ إذ إن إبعاد من لم يدخل في الشيء أهونُ ممن دخل فيه وآمن به.
والمراد به الكفر الْمُخرِج عن الملة، لكنهم قد لا يستطيعون أن يُخرجونا من الإيمان بالكلية، لكن بالتدريج مما يُلقُونه أمامنا من معوِّقات كمال الإيمان، حتى ينحلَّ الإيمان شيئًا فشيئًا، ولا يبقى في القلوب شيء، وحينئذٍ يكون الكفرُ المحض.
وقد يُراد الكفر بالاقتتال فيما بينكم، وقد رُوِيَ أن نفرًا من الأوس والخزرج كانوا جلوسًا يتحدثون، فمرَّ بهم شاس بن قيس اليهودي، وكان عظيم الكفر، شديد الحسد للمسلمين، فغاظه ما رأى منهم من تآلُفِ القلوب، واتحاد الكلمة، واجتماع الرأي، بعدما كان بينهم ما كان من العداوة والشنآن، فأمر شابًّا يهوديًّا كان معه بأن يجلس إليهم، ويُذكِّرهم يوم بُعاث، وكان ذلك يومًا عظيمًا اقتتل فيه الحَيَّان، وكان الظَّفَرُ فيه للأوس، ويُنشدهم ما قيل فيه من الأشعار، ففعل، فتفاخر القوم وتغاضبوا، حتى تواثبوا وقالوا: السلاحَ السلاح، فاجتمع من القبيلتين خَلْقٌ عظيم، فعند ذلك جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال: «أتدعون الجاهلية، وأنا بين أظْهُرِكم، بعد أن أكرمكم الله تعالى بالإسلام، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، وألَّف بينكم»؟، فعلموا أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فألقَوا السلاح، واستغفروا، وعانق بعضهم بعضًا، وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيه: أن الكفار – ولو كانوا أهل كتاب – يحاولون غاية المحاولة أن يردُّوا المؤمنين عن إيمانهم إلى الكفر، وأن هؤلاء الفريق من أهل الكتاب لا يرضَون منا بما دون الكفر، إلا أن يكون وسيلة إلى الكفر.
وقائل هذا الله عز وجل العالم بما في صدورهم، قد يتظاهرون لنا بالمسالمة والمداهنة، وأنهم أولياء، وأنهم أصدقاء، ولكنَّ في قلوبهم الحقد والغل، ومحبةَ أن نرتدَّ على أعقابنا كافرين، من أين نعلم هذا الذي في قلوبهم، وهم يُبدون لنا الود والصداقة والمحبة؟ نعلم هذا من القرآن الكريم.
فإن قال قائل: إن الله يقول: {فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: 100]، والفريق مبهم، ما ندري ربما بعضهم على خلاف ذلك، وإذا وُجِد الاحتمال بطل الاستدلال، فلا يمكن أن تُعيَّن طائفة من أهل الكتاب، نقول: هؤلاء يحبون أن نرتد على أعقابنا كافرين، لا يمكن أن تُعيَّن ما دام الله يقول: {فَرِيقًا} [آل عمران: 100]، فإذا قلت: إنهم هؤلاء، قلنا لك: بل هؤلاء، بل أولئك، فما هو الميزان إذًا؟
وهنا جوابان:
الجواب الأول: أن الله ذَكَرَ في آيات أخرى أن جميع الكفار يودُّون منا أن نكفر، وهو شامل لأهل الكتاب وغيرهم: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89]، وقال: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2].
وتارة يصرح في موطن آخر بالكثرة: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109].
الجواب الثاني: أن نقول: هذا الفريق المبهم يُبيِّنه الواقع، وهو أن من أهل الكتاب من آمن، ومن آمن لا يمكن أن يحب من غيره أن يكفُرَ، وحينئذٍ نقول: المراد بالفريق هنا من لم يؤمن منهم، فكل من لم يؤمن، فهو داخل في هذا الفريق.
قال ابن عثيمين: وأساليب أهل الكتاب في إضلال المسلمين كثيرة جدًّا ومتنوعة؛ منها: أن يفتحوا عليهم باب الشهوات، فإن باب الشهوات باب واسع، والضيق من أبواب الشهوات يتسع بسرعة؛ ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنةً أضرَّ على الرجال من النساء»؛ (البخاري)، ولهذا هم – قبحهم الله، ولعنة الله على اليهود والنصارى جميعًا – يسعَون جادِّين في أن يُعطُوا المرأة ما يسمى بالحرية، وهي في الحقيقة الرِّقُّ وليست حرية؛ لأن المرأة – ومثلها الرجل – إذا خرجت عن حدود الله، خرجت من رِقِّ الدين إلى رِقِّ الشيطان، تخرج من رِقِّ الدين وهو الرِّقُّ الحقيقي؛ لأنه عبودية الله، إلى رِقِّ الشيطان، وإذا خرجت إلى رِقِّ الشيطان، واسترقَّها الشيطان، صارت عبدًا له، هلكت وأهلكت؛ قال ابن القيم رحمه الله في نونيته: “فرُّوا من الرق الذي خُلقوا له، وبُلوا برقِّ النفس والشيطان”.
(الرِّقُّ) الذي خُلقنا له هو: عبادة الله عز وجل، (وبُلوا): يعني ابتلاهم الله برق النفس والشيطان؛ ولهذا تجدهم يركزون على المرأة على أن تتدهور، وتتحرر من عبودية الله؛ لتقع في عبودية الشيطان، لأنهم يعلمون أن أشد فتنة على الرجال هي المرأة، فيسعَون بكل جهدهم أن تختلط بالرجال، وتشاركهم في الأعمال، ويلصق مَنْكِبها بمنكبه، وساقها بساقه، ويشَمَّ رائحتها، وتشَم رائحته وتصافحه، وربما تعانقه؛ لأنهم يعلمون أن الإنسان إذا وصل إلى هذه الدرجة، بقِيَ حيوانيًّا بهيميًّا ليس له أي غرض إلا أن يشبع غريزته – والعياذ بالله – وحينئذٍ ينسى الدين وما وراء الدين، ويرجع بعد ذلك إلى الكفر.
ثانيًا: يُلقُون الأفكار الرديئة الإلحادية الكفرية بين المسلمين باسم: الناس أحرار… دعوا كل أحد يعتنق ما شاء، دعوا كل أحد يقول ما شاء، لا تستعبدوا الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا، وما أشبه ذلك من الكلمات الرنَّانة التي إذا سمعها الإنسان قال: هذا هو الدين، ثم تحلَّل الناس، وصار كلٌّ يعمل على ما يريد، ولكن ما هي الطريق التي يتوصلون بها إلى هذا؟ الطريق: أن يضربوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ويجعلوا الناس لا يأمرون بمعروف، ولا ينهَون عن منكر؛ لأنهم يعرفون أنه إذا أُمِرَ بالمعروف، قام المعروف، وإذا نُهِيَ عن المنكر، غاب المنكر، فيحاولون أن يُقلِّلوا ويُضعفوا هذه الناحية؛ حتى يبقى الناس لا آمرَ ولا ناهيَ، كلٌّ يركب ما شاء.
وهناك شيء آخر يضربون عليه؛ وهو مسألة الحدود والتعزيرات، يشوِّهون الإسلام بأنه يقطع اليد – يد السارق – ويرجم الزاني، يشوِّهون هذا حتى يُضعفوا هذه الناحية، ومن المعلوم أنه إذا ضعف الإيمان، فلا بد من رادع السلطان، فإن ضعُف الإيمان وعُدم رادع السلطان، صارت المسألة فوضى، كلٌّ يفعل ما شاء؛ يكفر، يزني، يسرق، يشرب الخمر؛ لأنه لا توجد حدود رادعة، والإيمان ضعيف، بِناء على أنهم يقولون: اجعلوا كل إنسان حرًّا في نفسه، ويتحلل الناس من الدين بمثل هذه الطرق من إلقاء الأفكار الرديئة في المسلمين؛ هذه من أساليب اليهود والنصارى التي يضللون بها الناس، ويردونهم بعد إيمانهم كافرين.
كذلك أيضًا من أساليبهم التي يردون بها الناس عن الإيمان، أن يُزيِّنوا للناس محبة المال، وجباية المال، بكل ما يكون بحلال أو حرام، فيزينوا لهم المكاسب الربوية بشتى أنواعها، والمكاسب الميسرية بشتى أنواعها، التي تتمثل في التأمينات وما أشبهها، فإن التأمينات لا شكَّ أنها من الْمَيسر؛ لأن المؤمِّن والمؤمَّن له عقدهما دائرٌ بين الغُنم والغُرم، وهذا هو الميسر تمامًا، والنفس إذا اعتادت ذلك، نسِيَت كل شيء، صار أكبر همها أن تكتسب هذا المال بالربا؛ لأن الربا يُوجِب زيادة المال باطراد، وزيادة الظلم باطراد، زيادة المال لأخذ الربا، والظلم لموكل الربا، فتأخذ النفس على الجشع والشح، وحب المال، وتنسى ما خُلِقت له.
كذلك الميسر وعلى رأسه القمار، يجلس المتقامران في مجلس، كل واحد عنده خمسة ملايين من الأموال مثلًا، فتحصل لعبة القمار، فإذا بأحدهما يكتسح مال الآخر كله، خمسة ملايين، فيصبح هذا عنده عشرة ملايين، والثاني ما عنده إلا ثيابه، يخرج من قاعة المقامرة ليس عليه إلا ثيابه.
يجب على المسلمين أن يستمدوا حياتهم ومنهاجهم من كتاب الله وسنة رسوله، وأنا واثق كل الثقة، أنهم إذا اعتمدوا في ذلك على الكتاب والسنة، فسيطؤون أعناق هؤلاء الكفار؛ لأن الله يقول: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]، هذا كلام الله عز وجل، كلام الله الذي يقدر على كل شيء، هو وعد من الله، من قادر صادق في وعده، فإذا كان كذلك، فلماذا لا نتمسك بدينه؟!
لماذا لا نتمسك تمسُّكًا تامًّا، وتظهر الأمة الإسلامية من جديد؟ تتمسك بدينها نصًّا وروحًا، لا نصًّا فقط؛ لأن التمسك بالدين نصًّا فقط لا روحًا، ليس بشيء، هو تمسك ظاهري يتلاشى عند حدوث النوازل، وأما التمسك نصًّا وروحًا، فهو الذي ينتفع به الإنسان في دنياه وآخرته.
{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 101] الاستفهام لاستنكار وقوع الكفر، فهو إما نفي للوقوع؛ أي إنه لا يمكن أن يقع منكم الكفر، ورسول الله بينكم، وآيات الله تُتلى عليكم؛ لذلك كانت الردة في حياته صلى الله عليه وسلم قليلة جدًّا.
وإما أنه نفيٌ للواقع، فيكون للعتب، والمعنى: كيف سوَّغتم لأنفسكم أن تفتحوا قلوبكم لأسباب الكفر التي ابتغاها اليهود، بالاستماع إلى كلماتهم المفرِّقة؟ فيكون الإنكار لِما وقع باعتباره كان يؤدي إلى الكفر، فيعودون إلى ما كانوا عليه في الجاهلية يضرب بعضهم رقابَ بعضٍ.
وقد يكون الاستفهام للتعجب، ومعنى التعجب فيه هو أنه لا يُتصوَّر أن يكون منكم كفر، ولو تصور لكان موضعًا للعجب والاستغراب.
والمقصود أن الكفر بعيد منكم وحاشاكم منه؛ كما في قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} [التوبة: 7]، لا بمعنى إنكار الواقع؛ كما في قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} [البقرة: 28].
{وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ} [آل عمران: 101] صباحَ مساء في الصلوات وغيرها، وهي جملة مؤكدة للإنكار والاستبعاد، بما فيها من الشؤون الداعية إلى الثبات على الإيمان، الرادعة عن الكفر.
{وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} [آل عمران: 101] معطوف عليها داخل في حكمها، فإن تلاوة آيات الله تعالى عليهم، وكون رسوله عليه الصلاة والسلام بين أظْهُرِهم يعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم بتحقيق الحق، وإزاحة الشُّبَهِ، من أقوى الزواجر عن الكفر، وعدم إسناد التلاوة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للإيذان باستقلال كل منهما في الباب.
والخطاب في الآية: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ} [آل عمران: 101] كما يبدو من عبارات الزمخشري وغيره – خاصٌّ بالمؤمنين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الذين شاهدوا النور المحمديَّ، وشافهوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن ساعة في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم تغني عن اجتهاد سنين؛ كما قال أبو حنيفة رضي الله عنه.
قال ابن عاشور: والظرفية في قوله: {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} [آل عمران: 101] حقيقية ومؤذِنة بمنقبة عظيمة، ومنَّةٍ جليلة، وهي وجود هذا الرسول العظيم بينهم، تلك المزِيَّة التي فاز بها أصحابه المخاطبون، وبها يظهر معنى قوله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسُبُّوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهبًا، ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفه»؛ النصيف: نصف مُدٍّ.
وفي الآية دلالة على عظم قدر الصحابة، وأن لهم وازعَينِ عن مواقعة الضلال: سماع القرآن، ومشاهدة أنوار الرسول عليه السلام، فإن وجوده عصمة من ضلالهم؛ قال قتادة: أما الرسول فقد مضى إلى رحمة الله، وأما الكتاب فباقٍ على وجه الدهر.
ويصح أن يكون الخطاب لكافة المؤمنين، وتكون الآيات تُتلى على لسان القراء والعلماء من بعده، وهي ستُتلى إلى يوم القيامة: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وأما وجود الرسول في الأخلاف، فإنه يكون بوجود سنته النبوية الشريفة، وإنه إن كان الاحتياط يكون أشد، لا يخلو من فضل ثواب، إن سلم القلب، واهتدى العقل، وتحصنت النفس.
وكما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومًا لأصحابه: «أي المؤمنين أعجب إليكم إيمانًا»؟ قالوا: الملائكة، قال: «وكيف لا يؤمنون وهم عند ربهم»؟ وذكروا الأنبياء، قال: «وكيف لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم»؟ قالوا: فنحن، قال: «وكيف لا تؤمنون وأنا بين أظْهُرِكم»؟ قالوا: فأي الناس أعجب إيمانًا؟ قال: «قوم يجيئون من بعدكم، يجدون صُحُفًا يؤمنون بما فيها»؛ (الطبراني في المعجم الكبير).
وهذا فيه ما يومئ إلى إلقاء اليأس في قلوب اليهود من أن يصلوا إلى ما يبتغون، من إيجاد الفرقة والانقسام بأمر جاهلي.
وفيه: أن كتاب الله وسنة رسوله، والإقبال عليهما أعظم مانع يمنع من الكفر؛ يُؤخَذ من قوله: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 101] يعني: بعيد منكم الكفر إذا كانت تُتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله، آيات الله تُتلى علينا الآن، ورسوله ليس فينا، ولكن فينا سنته، فنأخذ من هذا أنه كلما تمسكنا بكتاب الله وسنة رسوله، فإن ذلك سيكون حصنًا منيعًا دون الكفر.
{وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ} [آل عمران: 101] الاعتصام معناه: الامتناع والالتجاء والاستمساك، وهو من عصم بمعنى: منع، يُقال: عصمه الطعام أي: منع عنه الجوع، وعصمته النبوة أي: منعته من أن يقع في إثم قط، والمعنى: ومن يعتصم بالله؛ أي: يجعل الله تعالى عاصمًا له ومانعًا وملجأً، يستنصح بكتابه، ويلجأ إلى كلام رسوله إذا ادلهمَّتِ الظلمات، وقيل: الاعتصام به توكلًا عليه، والاعتصام به تعبدًا له؛ لأن في كلٍّ منهما عصمة.
قال في زهرة التفاسير: والاعتصام بدين الله قول أكثر المفسرين، وإني أرى الاعتصام بالله هو الاعتصام بذاته سبحانه، وإن كان الاعتصام بالذات العلية يستلزم حتمًا الاعتصام بدينه الحق الخالد إلى يوم القيامة، ولكني اخترت الاعتصام بالله، وأن يكون الإسناد إلى ذاته سبحانه من غير تقدير مضاف؛ لأن الاعتصام بالله يقتضي ألَّا يحب أحدًا إلا الله، ويقتضي أن يكون الشخص ربانيًّا لا ينظر إلى عصبية جاهلية، ولا لهوًى ولا لعَرَضٍ من أعراض الدنيا، فيلجأ إلى الله، ويحب الشيء لذات الله، ويقتضي أن يتجه إلى الله ويتذكره، عندما ينزغ في النفس نازغٌ؛ كما قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200].
ويقتضي الاعتصام بالله أن يتوكل على الله حق توكله، فيدبر الأمور ويعتزمها، ثم يفوِّض أمر مصايرها إليه سبحانه وتعالى، ويقتضي الاعتصام بالله أن يبتعد عن مواطن الريب، ولا يتبع الشبهات؛ كما قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 7، 8].
ذلك بعض مظاهر الاعتصام بالذات العلية؛ ولذا نجد أنه لا حاجة إلى تقدير مضاف هو لفظ «دين»، وفوق ذلك فإن هذا التقدير لا يستقيم معه نسق القول في نظري؛ لأن الصراط المستقيم هو دين الله القويم، فكيف يكون دين الله هو الذي يهدي إلى دين الله؟ إنما الذي يهدي إلى دين الله هو الاعتصام بذات الله العلية.
{فَقَدْ} [آل عمران: 101] (قد) تفيد معنى التحقيق، كأن الهدى قد حصل، فهو يخبر عنه حاصلًا.
{هُدِيَ} [آل عمران: 101] عبَّر فيه بالماضي للإشارة إلى التحقُّق والتأكد والثبوت، فقد ثبت له الهدى سابقًا وواقعًا، سابقًا في اللوح المحفوظ، وفي الكتابة حينما تنفخ فيه الروح في بطن أمه، وواقعًا؛ لأنه اعتصم بالله.
وحذف الفاعل وذلك لتعدُّد طرق الهداية، فأعلى الهداة الله عز وجل، ثم الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم ورثة الرسول الله وهم العلماء، فهنا حذف الفاعل؛ ليشمل كل الهداة، وأولهم الله عز وجل: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142]، ثم الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، ثم ورثة الرسول وهم العلماء: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].
لكن هداية التوفيق خاصة بالله عز وجل، لو اجتمع جميع الخلق على أن يهدوا أحدًا هداية توفيق، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، ولكنهم يدُلُّون ويحثُّون ويرغبون.
قال أهل العلم: ومع هذا، فالاعتصام بالله، والتوكل عليه هو العمدة في الهداية، والعُدَّة في مباعدة الغواية، والوسيلة إلى الرشاد، وطريق السداد، وحصول المراد.
{إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101] أي: غيرَ مُعوَّج، بل هو مستقيم، وهو يشمل الاستقامة نزولًا وارتفاعًا، والاستقامة انحرافًا واعتدالًا، إذًا هو معتدل، وليس فيه نزول ولا ارتفاع؛ لأن الصراط – وهو الطريق – إذا كان فيه انحراف واعتدال لم يكن مستقيمًا، ويبطئ الوصول إلى الغاية، كذلك إذا كان مختلفًا نزولًا وارتفاعًا، فإنه ليس بمستقيم؛ لأنه تطول المسافة، ويحصل مشقة عند الارتفاع وعند النزول.
وفيه: أن دين الله عز وجل دين مستقيم؛ لقوله: {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]، والمراد به صراط الله، وهو مستقيم في كل شيء، إن نظرت إلى الحقوق، وجدته مستقيمًا فيها ليس فيه جَورٌ، فلله علينا حقوق، ولأنفسنا علينا حقوق، ولأهلنا علينا حقوق، ولزائرنا علينا حقوق، ولكل أحد حقٌّ على الآخر؛ كما قال سلمان لأبي الدرداء رضي الله عنهما: ((إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعْطِ كل ذي حق حقه، فأتى أبو الدرداء النبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان))؛ (البخاري).
Source link