شرح حديث جابر:إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا
عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «((إن من أحبِّكم إليَّ، وأقربِكم مني مجلسًا يوم القيامة، أحاسنَكم أخلاقًا، وإنَّ أبغضَكم إليَّ، وأبعدكم مني يوم القيامة، الثرثارون والمتشدِّقون والمتفيهقون))، قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: ((المتكبِّرون))» [رواه الترمذي وقال: حديث حسن] .
(الثرثار): هو كثير الكلام تكلفًا. (والمتشدق): المتطاول على الناس بكلامه، ويتكلم بملء فيه تفاصحًا وتعظيمًا لكلامه. و(المتفيهق): أصله من الفهق وهو الامتلاء، وهو الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسع فيه، ويغرب به تكبُّرًا وارتفاعًا، وإظهارًا للفضيلة على غيره.
وروى الترمذي عن عبدالله بن المبارك رحمه الله في تفسير حُسنِ الخلق قال: هو طلاقة الوجه، وبذلُ المعروف، وكفُّ الأذى.
قَالَ سَماحةُ العلَّامةِ الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله -:
ذكر المؤلِّف رحمه الله أحاديثَ متعددة في بيان حسن الخلق، وأن مِن أقربِ الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاسنَهم أخلاقًا، فكلما كنتَ أحسَنَ خلُقًا، كنت أقرب إلى الله ورسوله من غيرك، وأبعدُ الناسِ منزلةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون.
الثرثارون الذين يُكثرون الكلام ويأخذون المجالس عن الناس، فإذا جلس في المجلس أخذ الكلام عن غيره، وصار كأن لم يكن في المجلس إلا هو؛ يتكلم ولا يدع غيره يتكلم، وهذا لا شك أنه نوع من الكبرياء.
لكن لو فرضنا أن أهل المجلس فوَّضوه وقالوا: أَعطِنا نصيحة، أعطنا موعظة، فتكلَّم، فلا حرج، إنما الكلام العادي كونك تملك المجلس ولا تدع أحدًا يتكلم، حتى إن بعض الناس يحب أن يتكلم لكن لا يستطيع أن يتكلم، يخشى من مقاطعة هذا الرجلِ الذي ملَكَ المجلس بكلامه.
كذلك أيضًا المتشدقون، والمتشدق هو الذي يتكلَّم بملء شِدْقَيْه، تجده يتكلم وكأنه أفصحُ العرب تكبُّرًا وتبخترًا، ومن ذلك من يتكلم باللغة العربية أمام العامة، فإن العامة لا يعرفون اللغة العربية، لو تكلَّمت بينهم باللغة العربية لَعَدُّوا ذلك من باب التشدق في الكلام والتنطع، أما إذا كنت تدرِّس لطلبة، فينبغي أن تتكلم باللغة العربية؛ لأجل أن تمرنهم على اللغة العربية وعلى النطق بها، أما العامة الذين لا يعرفون، فلا ينبغي أن تتكلم بينهم باللغة العربية، بل تكلَّم معهم بلغتهم التي يعرفون، ولا تُغرِب في الكلمات، يعني لا تأتي بكلمات غريبة تشكل عليهم؛ فإن ذلك من التشدُّقِ في الكلام.
أما المتفيهقون، فقد وصفهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالمتكبرين، المتكبِّر الذي يتكبر على الناس ويَتَفَيْهَق، وإذا قام يمشي كأنه يمشي على ورق من تكبُّره وغطرسته، فإن هذا لا شك خلُقٌ ذميم، ويجب على الإنسان أن يحذر منه؛ لأن الإنسان بشرٌ، فينبغي أن يعرف قدر نفسه، حتى لو أنعم الله عليه بمال، أو أنعم الله عليه بعلم، أو أنعم الله عليه بجاه، فينبغي أن يتواضع، وتواضُعُ هؤلاء الذين أنعم الله عليهم بالمال والعلم والجاه أفضلُ من تواضعِ غيرهم، ممن لا يكون كذلك.
ولهذا جاء في الحديث من الذين لا يكلِّمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكِّيهم: (عائل مستكبر)؛ لأن العائل لا داعي لاستكباره، والعائلُ هو الفقير، فهؤلاء الذين منَّ الله عليهم بالعلم والمال والجاه كلما تواضعوا صاروا أفضلَ ممن تواضَعَ من غيرهم الذين لم يمنَّ اللهُ عليهم بذلك.
فينبغي لكل من أعطاه الله نعمة أن يزداد شكرًا لله، وتواضعًا للحق، وتواضعًا للخلق، وفَّقني الله وإياكم لأحاسن الأخلاق والأعمال، وجنَّبَنا وإياكم سيئات الأخلاق والأعمال، إنه جواد كريم.
المصدر: «شرح رياض الصالحين» (3/ 570- 572)
محمد بن صالح العثيمين
كان رحمه الله عضواً في هيئة كبار العلماء وأستاذا بجامعة الإمام محمد
بن سعود الإسلامية
Source link