وما الله يريد ظلما للعالمين – خالد سعد النجار

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ

{بسم الله الرحمن الرحيم }

{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) }

{{تِلْكَ}} الإشارة بتلك قيل: إلى القرآن كله، وقيل إشارةٌ إلى الآيات المشتملةِ على تنعيم الأبرارِ وتعذيبِ الكفارِ، ومعنى البُعدِ للإيذان بعلو شأنِها وسُمّو مكانِها في الشرف.

{{آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا}} التلاوة اسم لحكاية كلام لإرادة تبليغه بلفظة، وهي كالقراءة إلا أن القراءة تختص بحكاية كلام مكتوب.

والالتفاتُ إلى التكلم بنون العظمةِ مع كون التلاوةِ على لسان جبريلَ -عليه السلام- لإبراز كمالِ العنايةِ بالتلاوة، ولما في إسناد التلاوة للمعظم ذاته من الفخامة والشرف.

{{عَلَيْكَ}} شرف الله تعالى نبيّه محمداً -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بخطابه والوحي إليه.

{{بِالْحَقِّ}} هو الأمر الثابت الذي لَا مجال للشك فيه، ولا تختلف فيه العقول السليمة، والمدارك القويمة، ولا يوجد أمر ثابت كالحق، وهو ميزان الأفكار ومقياس الأشياء، وعليه قامت السماوات والأرض وما بين الناس.

وقد تكون الباء للمصاحبة يعني أنها مصحوبة بالحق ونازلة بالحق، صدق في الأخبار وعدل في الأحكام، ملتبسةً بالحق والعدل ليس في حكمها شائبةُ جَوْر بنقص ثوابِ المحسنِ أو بزيادة عقابِ المسيءِ، أو بالعقاب من غير جُرْم، بل كلُّ ذلك مُوفًّى لهم حسبَ استحقاقِهم بأعمالهم بموجب الوعدِ والوعيدِ.

وقد تكون الباء للملابسة أنها نزلت من عند الله نزولا حقا لا شبهة فيه ولا باطل ولا شك وهو يشمل المعنيين جميعاً.

والقاعدة في علم التفسير أن الآية إذا تضمنت معنيين لا يتنافيان فالواجب حملها على المعنيين، فإن كانا يتنافيان طلب المرجح، فما ترجح منهما فهو المراد.

{{وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا}} نكرة في سياق النفي لإفادة العموم فلَا يخص نوعا دون نوع، وانتفاء جنس الظلم عن أن تتعلق به إرادة الله، فكل ما يعد ظلما في مجال العقول السليمة منتف أن يكون مراد الله تعالى.

وأصل الظلم: «النقص»، ومن ذلك قوله تعالى: {{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا}} [الكهف:33]، ثم أطلق على نقص الحقوق وهضمها، ومن ذلك قوله تعالى: {{فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا}} [طه:112]، وقوله تعالى: {{وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ}} [النساء:110]، ثم أطلق الظلم على وضع الأمر في غير موضعه، حتى لقد قالوا فيمن حفر الأرض، ولم تكن موضعا للحفر إنه ظَلمها، ويقال عن التراب المظلوم، وعن الأرض المظلومة، وقال الراغب في معنى الظلم: “الظلم عند أهل اللغة وكثير من العلماء: وضع الشيء في غير موضعه المختص به، إما بنقصان أو بزيادة، وإما بعدول عن وقته ومكانه”.

{{لِلْعَالَمِينَ}} هم العقلاء في هذا الكون، لأنهم هم الذين يحسون بوقع الظلم وآلامه، ويشعرون بمتاعبه وآثامه.

يعني أنه لا يعذبهم بغير ذنب. وفيه تنبيه على أن تسويد الوجوه عدل.

أي: ليس بظالم لهم بل هو الحَكَم العدل الذي لا يجور؛ لأنه القادر على كل شيء، العالم بكل شيء، فلا يحتاج مع ذلك إلى أن يظلم أحدا من خلقه فلا يعذب إلا بعد الإِعلام والإِنذار.

فنفي عن نفسه سبحانه وتعالى أن يريد ظلماً للعالمين، فهؤلاء الذين اسودت وجوههم لم يُظلموا.. الذين ابيضت وجوههم نالوا هذا بعملهم أي بسببه، والذين اسودت وجوههم نالوه أيضاً بعملهم، فالأولون عملوا صالحاً فأثيبوا هذا الثواب، والآخرون عملوا سيئاً فأثيبوا هذا العقاب؛ لأن الله تعالى لا يمكن أن يظلمهم.

قال أبو السعود: تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبله على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه، فإن تنكيرَ الظلم وتوجيهَ النفي إلى إرادته بصيغة المضارعِ دون نفسِه وتعليقَ الحكمِ بآحاد الجمعِ المعروفِ، والالتفات إلى الاسم الجليلِ إشعارٌ بعلة الحكمِ وبيانٌ لكمال نزاهتِه عز وجل عن الظلم بما لا مزيدَ عليه أي ما يريد فرداً من أفراد الظلم لفرد من أفراد العالمين في وقت من الأوقات فضلاً عن أن يظلِمَهم، فإن المضارعَ كما يفيد الاستمرارَ في الإثبات يفيده في النفي بحسب المقامِ كما أن الجملةَ الاسميةَ تدلُّ بمعرفة المقامِ على دوام الثبوتِ، وعند دخولِ حرفِ النفي تدل على دوامِ الانتفاءِ لا على انتفاء الدوامِ، وفي سبك الجملةِ نوعُ إيماءٍ إلى التعريض بأن الكفرَةَ هم الظالمون ظلموا أنفسَهم بتعريضها للعذاب الخالد كما في قوله تعالى: {{إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}} [يونس:44]

{{وَلِلَّهِ}} الخبر هنا مقدم لفائدة وهي الحصر، يعني التخصيص؛ لأنك إذا قدمت ما حقه التأخير كان بذلك حصر، سواءً كان خبراً أو مفعولاً به أو جاراً ومجروراً. فمثلاً: {{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}} [الفاتحة:٥] قدم المفعول به لإفادة الحصر، أي لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا إياك، وهنا {{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} } أي: لا لغيره. فقدم الخبر لأجل الحصر.

{{مَا}} اسم موصول يشمل كل ما في السموات والأرض يشمل كل هذا، ما فيها من الملائكة، وما في الأرض من البشر والجن والأشجار والأحجار وكل شيء.

وأتى بـ «ما» تغليباً لغير العاقل؛ لأنهم الأكثر فغلبوا هذا من وجه، ومن وجه آخر أنه إذا أريدت الصفة فإنه يعبر بـ «ما» بدل «من» ولو في العاقل، ومثلوا لذلك بقوله تعالى: {{فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ}} [النساء:3] ولم يقل: “من طاب” لأنه لم يقصد عين الشخص العاقل بل قصد الوصف والجنس والكم.. انكح ما طاب من جميل وقبيح وواحد ومتعدد من النساء.

{{فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}} أي له تعالى وحده من غير شِرْكةٍ أصلاً، ما فيهما من المخلوقات الفائتةِ للحصر مُلكاً وخلقاً إحياءً وإماتةً وإثابةً وتعذيباً، وإيرادُ كلمةِ {مَا} إما لتغليب غيرِ العقلاءِ وإما لتنزيلهم منزلةَ غيرِهم إظهاراً لحقارتهم في مقام بيانِ عظمتِه تعالى.

ووجه اتصال هذا بما قبله أنه لما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين وأنه لا يريد ظلما للعالمين، وصله بذكر اتساع قدرته وغناه عن الظلم لكون ما في السموات وما في الأرض في قبضته، ولأنه إذا كان له ما في السماوات وما في الأرض فهو يريد صلاح حالهم، ولا حاجة له بإضرارهم إلا للجزاء على أفعالهم. فلا يريد ظلمهم، واليه ترجع الأشياء كلها فلا يفوته ثواب محسن ولا جزاء مسيء.

وقيل: هو ابتداء كلام، بين لعباده أن جميع ما في السموات وما في الأرض له حتى يسألوه ويعبدوه ولا يعبدوا غيره.

{{وَإِلَى اللَّهِ}} أي إلى حُكمه وقضائِه لا إلى غيره شِرْكةً أو استقلالاً. وهذه الآية مفيدة للحصر بتقديم الجار والمجرور على المتعلق وهي {{ترجع}}

وتكرير اسم الجلالة ثلاث مرات في الجمل الثلاث التي بعد الأولى بدون إضمار للقصد إلى أن تكون كل جملة مستقلة الدلالة بنفسها، غير متوقفة على غيرها، حتى تصلح لأن يتمثل بها، وتستحضرها النفوس وتحفظها الأسماع.

{{تُرْجَعُ الْأُمُورُ}} أي الشئون.. فيجازي كلاً منهم بما وَعد له وأوعده من غير دخلٍ في ذلك لأحد قطُّ فيقضي فيها بما يشاء ويحكم ما يريد فضلاً وعدلاً.

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

(مالكم لا ترجون لله وقارا) من أعظم التوقير إحسان الشكر

ومَن تأمَّل حاله وتدبَّر شأنه، وجد أنَّه مغمورٌ بنِعَمٍ لله تعالى لا يُحصيها؛ فالعافيةُ نعمةٌ، والأمن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *