﴿ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾[1] دعاوى التفلّت من التكاليف الشرعية
بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم: فادي عبد اللطيف
أ- مقدمة:
يرددها العاطلون عن العمل في المقاهي لتبرير ما هم فيه من فقر وحرمان، ويكررها الخطباء على المنابر تعليلاً لعجز الأمة أمام العدوان، ويحاجج بها أهل الحكم تبريراً لسياسات القهر والخذلان … تلك هي المقولة المستوحاة من قوله تعالى {﴿لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾} .
وتعتبر هذه الآية الكريمة من أبرز الآيات التي يُستشهد بها كثير من العامة والعلماء، والمثقفون والخطباء، لتبرير قعودهم عن النهوض بالتكاليف الشرعية الواردة في نصوص الوحي في الكتاب الكريم والسنة الشريفة.
وقد شاع تأويل الآية على كل لسان حتى كادت تتحول إلى نص “مستباح” يفسّره الأميّ والمتعلّم، والمفتي والمتكلّم، والواعظ والعَلماني “المتأسلم”، كلّ حسب رأيه وواقعه وحاله ومبتغاه، ليقنع نفسه ومن حوله، أو جمهوره وأتباعه، بأن ما فيه من عجز ظاهر في الأزمات، وسكون قاهر في النائبات هو أشبه بقضاء الله وقدره، بل منزّل في وحي الله وشرعه، لا قِبَل للمرء بتغييره أو دفعه، أي أن الأمر ليس بتكليف، لأن الله – حسب زعمهم – سلب النفوس وسعها…
ونحن، قياماً بالواجب، سنحاول في هذه السطور تحديد معاني التكليف والوسع، لغة وشرعاً، وإزالة الغشاوات عن المعنى الصحيح المراد في الآية، وذلك من خلال الاستعانة بأهل اللغة والتفسير والتحقيق، عسانا نساهم في تحفيز المسلمين عامة، وذوي الهمم العالية خاصة، لينزعوا عن أنفسهم أغلال العجز والجبن والاستسلام ويعيدوا سيرة من سبقوهم بالإيمان، فينهضوا بعظائم الأمور ويصححوا مسار التاريخ من جديد!
سبب النزول:
يجدر بنا بداية أن نسجّل ما ورد في سبب نزول الآية، فهو كما تقرر في أصول التفسير قاعدة أساسية في فهم مناط الأحكام التي نزل الوحي لمعالجتها أو بيان حكم الله تعالى فيها. بل من شأن سبب النزول أن يعيّن المعنى المراد من اللفظ أو التركيب فلا بد من المصير إليه إن صحت الرواية. قال ابن دقيق العيد: “بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معني القرآن”. وقال الواحدي: “لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها”[2]. ومع أن القاعدة الأصولية تقرر أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، إلا أن العموم محصور في الموضوع المنصوص عليه. وبهذا تتأكد أهمية سبب النزول من هذا الوجه أيضاً، لكونه يجلي موضوع الحكم، أي مناطه، ويسدّد خطى المجتهد ويعينه على دقة الاستنباط، كما ينير السبيل للفقيه، أو القاضي، ويهديه لدقة إنزال الحكم على واقعه الذي جاء له إنزالاً صحيحاً، دون اضطراب في التشريع أو تأويل غير سائغ أو فوضى في الفتيا. ولم يكن المسلمون في تاريخهم أحوج لفهم الأحكام فهماً صحيحاً وتنزيلها على وقائع حياتهم تنزيلاً دقيقاً، مما هم عليه الآن؛ وذلك لما نشهده جميعاً من اضطراب الأفهام وكثرة التأويل وفوضى الفتيا في دين الله تعالى. حتى غدا – في نظر الكثيرين – الحلال حراماً والحرام حلالاً، والمعروف منكراً والمنكر معروفاً.
وعليه، فإن سبب النزول يوضح في أي شأن نزلت الآية، ومن نزلت فيه، ولماذا نزلت، ومناط الحكم الذي نزلت به الآية، ويبين الواقعة أو السؤال الذي جاءت الآية للإجابة عليه، حتى لا يُصرف معنى الآية إلى أشخاص أو مسائل أو جهات بدافع الهوى أو المصلحة أو الخصومة. وكمثال للتقريب، أورد ما روي بهذا الصدد: «إن مروان لما طلب البيعة ليزيد، قال: سُنّة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن (بن أبي بكر): سُنّة هرقل وقيصر، فقال مروان: هذا الذي قال الله فيه: {﴿ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا ﴾} [3] … الآية، فبلغ ذلك عائشة فقالت: كذب مروان، والله ما هو به، ولو شئت أن أسمّي الذي نزلت فيه لسمّيته»[4].
ومن شأن سبب النزول إسقاط ما قد يُتوهّم من تأويلات بعيدة لا علاقة لها بالواقعة أو المسألة التي نزل النص لبيان الحكم فيها.
أما سبب النزول الذي يرويه الصحابي فهو في حكم الحديث المرفوع، وليس رواية واقعة كالمغازي لا شأن لها بالتشريع والوحي، بل هو رواية لواقعة شهدها الصحابي بنفسه أو رواها عن صحابي آخر. قال الحاكم في المستدرك: «ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين (أي البخاري ومسلم) حديثٌ مُسند». وقال في موضع آخر: «هو عندنا في حكم المرفوع».
وننتقل الآن إلى سبب نزول الآية موضع البحث. يقول القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: “وقيل سبب نزولها الآية التي قبلها وهي {{ للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَاواتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }} فإنه لما أنزل هذا على النبيّ صلى الله عليه وسلم اشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بَرَكُوا على الرُّكَب فقالوا: أي رسول الله، كُلِّفنا من الأعمال ما نُطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزل الله عليك هذه الآية ولا نُطيقها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ««أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا، بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» فقالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما ٱقترأها القوم ذَلّت بها ألسنتُهم فأنزل الله في إثرها» : {{ آمَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ }} . فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل الله عز وجل: {{ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا }} « قال: «نعم»» {{ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا }} «قال: «نعم» » {{ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ }} «قال: «نعم»» {{ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ }} «قال: «نعم» » [أخرجه مسلم عن أبي هريرة] . “
وأورد ابن كثير في تفسيره عن ابن عباس قوله: “لـما نزلت ضجّ الـمؤمنون منها ضجة وقالوا: يا رسول الله هذا، نتوب من عمل الـيد والرجل واللسان، كيف نتوب من الوسوسة، كيف نـمتنع منها؟ فجاء جبريـل صلى الله عليه وسلم بهذه الآية: {{ لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا }} إنكم لا تستطيعون أن تـمتنعوا من الوسوسة“.
كما عقّب الإمام النسفي في مدارك التنزيل موضحاً معنى الآية على ضوء الروايات الواردة في سبب النزول فقال: “وفي أكثر التفاسير أنه لما نزلت هذه الآية جزعت الصحابة رضي الله عنهم وقالوا: أنؤاخذ بكل ما حدثت به أنفسنا فنزل قوله «آمن الرسول» إلى قوله «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت» فتعلق ذلك بالكسب دون العزم“.
ويتضح مما سبق أن موضوع الآية هو شكوى الصحابة رضوان الله عليهم من الآية التي سبقت آية التكليف، والتي أخبرهم الله فيها أنه سيحاسبهم عن حديث النفس الخفي، مما ليس بقول أو عمل {{ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ }} . وفي ذلك دلالة على أنهم رضوان تعالى الله عليهم كانوا يتلقون القرآن بتدبر للعمل به، فحزنوا لأنهم سيحاسبون على ما يشق عليهم أو يعجزون عن دفعه، وهو الخواطر والوساوس وحديث النفس وما شابه من أمور خارجة عن الإرادة.
وقبل الانتقال إلى أقوال المفسرين، نلفت النظر إلى أن الآية موضوع البحث، وردت باختلاف يسير في الألفاظ في مواضع أخرى في أكثر من سورة. فقد جاءت في سورة البقرة أيضاً في صيغة المبني للمجهول حيث يقول تعالى في سورة البقرة أيضًا: {(لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا)} [5]، وسورتي الأعراف والأنعام حيث وردت بصيغة ضمير المتكلم في قوله تعالى (لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا)[6]، وكذلك قوله في سورة المؤمنون {(ولاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا)} [7]. وقد تتبعنا أقوال المفسرين فيها جميعها قدر المستطاع كما سيتبيّن معنا في ثنايا البحث بعون الله تعالى.
الوسع لغة:
جاء في اللسان “والوُسْعُ والسَّعةُ: الجِدةُ والطاقةُ“[8]، ومعنى الطاقة لغة كما ورد في القاموس: “القدرة على الشيء”[9]. وبذلك يكون معنى الوسع هو الطاقة، والطاقة هي القدرة.
التكليف لغة:
أما التكليف فهو: الأمر بشيء فيه مشقة. جاء في الصحاح: “وكلَّفه تكليفاً أَي أَمره بما يشق عليه”[10]، ووافقه صاحب القاموس فقال: “والتَّكْليفُ: الأَمْرُ بما يَشُقُّ عليك”[11].
والخلاصة أن الوسع لغة هو القدرة على القيام بالفعل، إلا أنها قدرة تتصف بالسعة عكس الضيق، فهي قدرة واسعة لدى الفاعل تمكنه من مباشرة العمل دون صعوبة أو بذل جهد غير معتاد. أما التكليف فهو الأمر بعمل يقتضي المشقة، والمشقة هي: “الجهد والعناء، ومنه قوله عز وجل: إلا بِشِقّ الأَنْفُس“[12].
التكليف والوسع في الاستعمال الشرعي:
وقبل الانتقال إلى تأويل الآية، سننقل هنا أبرز أقوال أهل التفسير في بيان معاني التكليف والوسع لنرى إن أضاف الشرع لهما معانٍ شرعية خاصة، أم أن اللفظين وردا بمعانيهما اللغوية. ومن شأن هذه الإضاءة أن تحدد المعاني تحديداً يزيل الغموض ويمنع الالتباس، ولا شك أن الدقة في تحديد مدلول المصطلح يبلور المفهوم في أذهان المسلمين، لا سيما إن كان مشفوعاً بالأدلة والبراهين اللغوية والشرعية. وبلورة المفاهيم الإسلامية بأدلتها تساعد في ترسيخها في النفوس وتحولها إلى قناعات ثابتة، فتؤتي ثمرتها الطبيعية في السلوك والعلاقات مجسّدة في معاني التقوى والصلاح، والصبر وصحة التوكل على الله سبحانه.
أما الوسع، فقد أوضح الزمخشري في الكشاف معنى الوسع الوارد في الآية: “الوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه، أي لا يكلّفها إلا ما يتّسع فيه طوقه ويتيسر عليه دون مدى الطاقة والمجهود”.
كما أبان البيضاوي في تفسيره المعنى الدقيق للوسع، وهو ما دون الضيق، فقال: “ {{ لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا }} إلا ما تسعه قدرتها فضلاً ورحمةً، أو ما دون مدى طاقتها بحيث يتسع فيه طوقها ويتيسر عليها.“
وأكد الرازي في مفاتح الغيب أن الوسع دون الجهد والمشقة، فقال: “والوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه، قال الفرّاء: هو اسم كالوجد والجهد، وقال بعضهم: الوسع دون المجهود في المشقة، وهو ما يتسع له قدرة الإنسان”.
وهو ما أكده البغوي في معالم التنزيل فقال: “والوسع: اسم لما يسع الإِنسان ولا يضيق عليه”.
وجاء في محاسن التأويل للقاسمي: “ {{ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا }} أي: لا يحملها إلا ما تسعه وتطيقه ولا تعجز عنه.
أما السيوطي فقد أكد أن الوسع يعني القدرة فقال في الجلالين: “ {{ لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } } أي ما تسعه قدرتها”. وتحديد الوسع بالقدرة أقرب للفهم والعمل لدى عموم المسلمين.
والخلاصة في أقوال المفسرين أعلاه، هي أن الوسع هو:
- ما تتسع له القدرة،
- ما دون مدى الطاقة، والمجهود في المشقة،
- ما يتيسر على المرء ويطيقه، ولا يضيق عليه، ولا يعجزه.
أما التكليف، فبيّنه الشوكاني في فتح القدير موضحًا: قوله {{ لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا }} التكليف هو الأمر بما فيه مشقة، وكُلفة”.
وقال النسفي في مدارك التنزيل: {{ إِلاَّ وُسْعَهَا }} إلا طاقتها وقدرتها لأن التكليف لا يرد إلا بفعل يقدر عليه المكلف”. وقد أضاف النسفي في معرض تفسير الآية المشابهة في سورة الأعراف، الآية 42، فقال: “… والتكليف إلزام ما فيه كلفة أي مشقة.”
ويتبين مما نقل أعلاه أن لفظيْ التكليف والوسع وردتا في القرآن بالمعنى اللغوي لكل منهما، ولم ترد لهما معان شرعية خاصة. وواضح أيضاً مدى التقارب بل والتطابق بين أقوال أهل اللغة وأهل التفسير في معاني اللفظين، وهو ما يؤكده بيان المفسرين في تأويل الآية أدناه.
أقوال المفسرين في تأويل الآية جملة:
قال القرطبي في أحكام القرآن: “ {{ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا }} يعني طاقتها”. ثم أورد كعادته أقوال المفسرين في الآية ننقل بعضها لأهميته: “الرابعة ـ قوله تعالى: {{ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا }} التكليف هو الأمر بما يشق عليه. وتكلَّفت الأمر تجشَّمْته حكاه الجوهريّ. والوُسْع: الطاقة والجِدَة. وهذا خَبَرٌ جَزْمٌ. نصّ الله تعالى على أنه لا يكلّف العباد من وقت نزول الآية عبادة، من أعمال القلب أو الجوارح، إلا وهي في وُسع المكلَّف وفي مقتضى إدراكه وبِنْيَته وبهذا انكشفت الكُرْبَةَ عن المسلمين في تأوّلهم أمر الخواطر. الخامسة: اختلف الناس في جَواز تكليف ما لا يطاق في الأحكام التي هي في الدنيا، بعد اتفاقهم على أنه ليس واقعاً في الشرع، وأن هذه الآية آذنت بعدمه. فالله سبحانه بلطفه وإنعامه علينا، وإن كان قد كلّفنا بما يشق ويثقل كثبوت الواحد للعشرة، وهجرة الإنسان وخروجه من وطنه ومفارقة أهله ووطنه وعادته، لكنه لم يكلِّفنا بالمشقات المثقّلة ولا بالأُمور المؤلمة كما كلّف مَن قَبلَنا بقتل أنفسهم وفرض موضع البول من ثيابهم وجلودهم، بل سهّل ورَفَق ووضع عنا الإصْرَ والأغْلال التي وضعها على من كان قبلَنا. فللَّه الحمد والمنّة، والفضلُ والنّعمة.”
وجاء في تفسير ابن كثير: “وقوله {{ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا }} أي لا يكلف أحداً فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى بخلقه، ورأفته بهم، وإحسانه إليهم، وهذه هي الناسخة الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة في قوله ( وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ ) البقرة 284، أي هو وإن حاسب وسأل، لكن لا يعذّب إلا بما يملك الشخص دفعه، فأما مالا يملك دفعه من وسوسة النفس وحديثها، فهذا لا يكلّف به الإنسان، وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان، وقوله {{ لَهَا مَا كَسَبَتْ }} أي من خير { { وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ }} أي من شر، وذلك في الأعمال التي تدخل تحت التكليف.“
ونقل ابن كثير عن السدي قوله: “ {{ لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } } وسعها: طاقتها، وكان حديث النفس مـما لا يطيقون“.
ثم أورد قول ابن عبـاس: “ {{ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ }} عمل الـيد والرجل واللسان. فتأويـل الآية إذا: لا يكلّف الله نفساً إلا ما يسعها، فلا يجهدها، ولا يضيق علـيها فـي أمر دينها، فـيؤاخذها بهمة إن همت، ولا بوسوسة إن عرضت لها، ولا بخطرة إن خطرت بقلبها.” وكما هو واضح فإن ابن كثير، على ضوء تحديد ابن عباس الكسب بأنه أعمال الجوارح واللسان، أوضح أن التكليف بالوسع يفيد عدم المؤاخذة بالهمّ والوسوسة والخواطر، وهو أدق ما قيل في تفسير الآية، يؤكده سياق الآيات السابقة واللاحقة، ويطابق واقع الإنسان وقدرته وكسبه فيما يملك من الأقوال والأفعال، وما لا يملك من طوارئ الخواطر وعوارض الأفكار. ففي حين أن الهمّ هو عبارة عن ميل للفعل غير مستقر، خلافاً للعزيمة، فإن الوسوسة والخواطر ترد على الأذهان عن غير إرادة أو قصد، ولذا كان من رحمة الله تعالى ولطفه ورأفته بعباده أن يُخرجها من التكليف، أي الثواب والعقاب.
ولا بد هنا من تسجيل الرأي في نسخ الآية لما قبلها، إتماماً للبيان. يقول الخازن في لباب التأويل: ” قال ابن عباس وأكثر المفسرين إن هذه الآية نسخت حديث النفس والوسوسة، وذلك أنه لما نزل {(وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه)} ضجّ المؤمنون منها وقالوا: يا رسول الله، نتوب من عمل اليد والرجل واللسان، فكيف نتوب من الوسوسة وحديث النفس؟ فنزلت هذا الآية. والمعنى: أنكم لا تستطيعون أن تمتنعوا من الوسوسة وحديث النفس، كان ذلك ما لم تطيقوه. وقال ابن عباس في رواية عنه: هم المؤمنون خاصة، وسّع الله عليهم أمر دينهم ولم يكلفهم ما لا يستطيعون.“
وقال البغوي في معالم التنزيل: “ {{ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ * لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَها }} ظاهر الآية قضاء الحاجة، وفيها إضمار السؤال كأنه قال: وقالوا لا تكلفنا إلا وسعنا، وأجاب أي لا يكلف الله نفساً إلا وسعها أي طاقتها، … واختلفوا في تأويله فذهب ابن عباس رضي الله عنه وعطاء وأكثر المفسرين إلى أنه أراد به حديث النفس الذي ذكر في قوله تعالى: {{ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ }} “.
وقد نقل الشوكاني في فتح القدير مذاهب الصحابة والتابعين في النسخ: قوله {{ لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا }} … وهذه جملة مستقلة جاءت عقب قوله سبحانه { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ } الآية لكشف كربة المسلمين، ودفع المشقة عليهم في التكليف بما في الأنفس … والقول الرابع: أن هذه الآية منسوخة، قاله ابن مسعود، وعائشة، وأبو هريرة، والشعبي، وعطاء، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن كعب، وموسى بن عبيدة، وهو مرويّ عن ابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين، وهذا هو الحق لما سيأتي من التصريح بنسخها، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: ” إن الله غفر لهذه الأمة ما حدّثت به أنفسها “”، إشارة لحديث الرسول عليه السلام عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «“إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ.”» [13]
والخلاصة، أن الله تعالى لما اختبر المؤمنين بما يشق عليهم من تكليف ومؤاخذة بحديث النفس، أصابهم الغمّ والحزَن، وأتوْا النبي يشكون له ما بهم من غمّ لتكليفهم ما لا يطيقون. فلما أقرّوا بالسمع والطاعة، رفع الله تعالى عنهم ما لا يقدرون عليه ويعجزون عنه.
ولمزيد من البيان والاستئناس وتثبيت المعاني، نستعرض أبرز ما أورده المفسرون في تفسير الآيات المشابهة للآية موضع البحث، حيث وردت ألفاظ التكليف والوسع ذاتها في سياقات متقاربة. ومع أن في الأمر شيئًا من الاستطراد والتكرار، إلا أنه فائدته وضرورته في حصر المعاني وتأكيدها، لغة وشرهًا، ونفي التأويل والشبهات، لا سيما أن هذه الآيات، كما بيّنا في مقدمة البحث، من أكثر الآيات التي يتعرض مدلولها للتأويل، والتعميم، للتبرير حينًا، وللتضليل أحيانًا، وللتشويش تارة أخرى. وعلى أي حال، فإننا سنكتفي بما فيه إضافة وإضاءة لم يوردها المفسرون فيما نقلناه أعلاه.
ونبدأ بقوله تعالى في سورة البقرة { ( وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا )} [14]. روى الطبري عن سفيان: { لا تُكَلّفُ نَفْسٌ إلاَّ وُسْعَهَا إلا ما أطاقت. والوُسْع: الفُعل من قول القائل: وسعني هذا الأمر، فهو يسعني سعة، ويقال: هذا الذي أعطيتك وسعي، أي ما يتسع لي أن أعطيك فلا يضيق عليّ إعطاؤكه، وأعطيتك من جهدي، إذا أعطيته ما يجهدك فيضيق عليك إعطاؤه. فمعنى قوله {{ لا تُكَلّفُ إلا وُسْعَها }} هو ما وصفت من أنها لا تكلف إلا ما يتسع لها بذل ما كلفت بذله، فلا يضيق عليها، ولا يجهدها.”[15] بينما أوضح الرازي، في تفسيره، الحد الفاصل بين الوسع والطاقة فقال: “التكليف: الإلزام … والوسع ما يسع الإنسان فيطيقه أخذه، من سعة الملك أي العرض، ولو ضاق لعجز عنه، والسعة بمنزلة القدرة، فلهذا قيل: الوسع فوق الطاقة...” ثم أضاف: “الوسع في اللغة ما تتسع له القدرة، ولا يبلغ استغراقها.” أما البيضاوي، فقد قرر في أنوار التنزيل، أن الآية {{ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا }} “… دليل على أنه سبحانه وتعالى لا يكلّف العبد بما لا يطيقه”.
أما قوله تعالى في سورة الأنعام: {( وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا )} [16]، فقد أورد ابن كثير مفسراً: “ {{ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا }} أي من اجتهد في أداء الحق وأخذه، فإن أخطأ بعد استفراغ وسعه وبذل جهده، فلا حرج عليه“[17]. وأنت ترى كيف وُفّق رحمه الله في إزالة الإبهام عن حدود القدرة بقوله “بعد استفراغ وسعه وبذل جهده”، وهو قيد وحدّ أمكن تقديرهما لمن أخلص لله النية وصدقه في العمل. وأجاد القرطبي في تعريف القاعدة في تكاليف الشرع حيث قال: “… أي طاقتها في إيفاء الكيل والوزن، وهذا يقتضي أن هذه الأوامر إنما هي فيما يقع تحت قدرة البشر من التحفظ والتحرّر. وما لا يمكن الاحتراز عنه من تفاوت ما بين الَكْيلين، ولا يدخل تحت قُدرة البشر فمعفوٌ عنه.”[18] أما الزمخشري، فقد بيّن أن العجز نقيض الوسع: “… إلاّ ما يسعها ولا تعجز عنه.”[19] بينما جعل الآلوسي الوسع مقابلاً للعسر فقال: “… إلا ما يسعها ولا يعسر عليها. والجملة مستأنفة جيء بها عقيب الأمر بإيفاء الكيل والميزان بالعدل للترخيص فيما خرج عن الطاقة لما أن في مراعاة ذلك كما هو حرجاً مع كثرة وقوعه فكأنه قيل: عليكم بما في وسعكم في هذا الأمر وما وراءه معفو عنكم. وجوز أن يكون جيء بها لتهوين أمر ما تقدم من التكليفات ليقبلوا عليها كأنه قيل: جميع ما كلفناكم به ممكن غير شاق ونحن لا نكلف ما لا يطاق.“[20] والحاصل فيما نقلنا أعلاه أن التكليف بالوسع يقضي برفع الحرج والترخيص والعفو فيما زاد عن القدرة والطاقة والجهد.
أما قوله تعالى في سورة الأعراف {(وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)} [21]، فقد جاء خلافاً لما أوردناه سابقاً من ذكر التكليف والوسع في سياقات التشريع والفروض التعبدية وحقوق العباد، إذ امتازت آية الأعراف بسياق الإيمان ودعوة الكفار ومآل الجنة في الآخرة. وهو ما يحتاج الناس، سلمين وغير المسلمين، لبيانه في واقعنا الحاضر، من أن العمل بالإسلام هو أمر ممكن، بل سهل ميسور، للفرد والجماعة والمجتمع، مع تحقق الشروط المطلوبة طبعاً، الذاتية والموضوعية، للجهة التي أُنيط بها التكليف. يقول الرازي في تفسيره: “…لأنه لما ذكر عملهم الصالح، ذكر أن ذلك العمل في وسعهم غير خارج عن قدرتهم، وفيه تنبيه للكفار على أن الجنة مع عظم محلها يوصل إليها بالعمل السهل من غير تحمل الصعب.” ثم عرّف معنى الوسع بأنه ” … ما يقدر الإنسان عليه في حال السعة والسهولة لا في حال الضيق والشدة؛ والدليل عليه: أن معاذ بن جبل قال في هذه الآية: إلا يسرها لا عسرها.” وهو ما أكّد عليه ابن كثير في تفسيره للآية حيث قال: “وينبّه تعالى على أن الإيمان والعمل به سهل.”
أما قوله تعالى في سورة المؤمنون {( وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِٱلْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ )} [22]، فقد أورد الرازي[23] رأيين في معنى الوسع: “قوله: {{ وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا }} وفي الوسع قولان: أحدهما: أنه الطاقة على المفضّل والثاني: أنه دون الطاقة … واحتجوا عليه بأن الوسع إنما سمّي وسعاً لأنه يتسع عليه فعله ولا يصعب ولا يضيق.” وأبان ابن كثير أن من عدل الله ألا يكلّفهم إلا بما يطيقون القيام به: “يقول تعالى مخبراً عن عدله في شرعه على عباده في الدنيا أنه لا يكلّف نفساً إلا وسعها، أي إلا ما تطيق حمله والقيام به”[24]. وأضاف الآلوسي في تفسيره[25] أن الآية: “جملة مستأنفة سِيقت للتحريض على ما وصف به أولئك المشار إليهم من فعل الطاعات ببيان سهولته وكونه غير خارج عن حد الوسع والطاقة؛ أي: عادتنا جارية على أن لا نكلّف نفساً من النفوس إلا ما في وسعها وقدر طاقتها … أو للترخيص فيما هو قاصر عن درجة أعمال أولئك [الصالحين] ببيان أنه تعالى لا يكلّف عباده إلا ما في وسعهم، فإن لم يبلغوا في فعل الطاعات مراتب السابقين فلا عليهم بعد أن يبذلوا طاقتهم ويستفرغوا وسعهم. قال مقاتل: من لم يستطع القيام فليصل قاعداً ومن لم يستطع القعود فليوم إيماء.” وذكر جمال الدين القاسمي نحوه في تفسيره.
وبناء على ما تقدم، نخلص إلى أن أقوال المفسرين بمجملها لا تخرج في تبيان مدلول التكليف والوسع عما يلي:
- التكليف يعني الأمر بما فيه مشقة (الشوكاني، والنسفي)، والإلزام (الرازي).
- الوسع يعني الطاقة، والقدرة (النسفي، البيضاوي، الرازي، السيوطي)، أو
هو ما دون الضيق، ودون الجهد والمشقة والطاقة (الزمخشري، الرازي، البيضاوي، البغوي)، أو
ما يتحقق فيه استفراغ الوسع، وبذل الجهد (ابن كثير، والآلوسي).
وعليه يمكننا القول إن التكليف بالمعنى اللغوي والاستعمال الشرعي يعني المشقة، قولاً واحداً لا خلاف فيه ولا غموض.
أما الوسع فهو أيضاً يعني – لغة وشرعاً – الطاقة والقدرة بلا خلاف ولا غموض، فمعظم المفسرين على أنه ما كان دون الضيق والمشقة، أي أن أداء التكاليف يتأتى بيسر وسهولة لأنه دون الوسع، أي لا يستفرغه ويبلغ أقصاه بما يشق على المكلف ويجهده؛ وإن كان بعضهم يراه من استفراغ الوسع بأقصى طاقة. إلا أن المقطوع به هو أن الوسع ضمن القدرة والطاقة، وهو نقيض العجز.
هذا من جهة دلالة الألفاظ لغة وشرعًا. أما من جهة المدلول ومناط الأحكام، فإن الآية الرئيسية موضوع البحث في سورة البقرة {(وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ)} [26]، موضوعها وسبب نزولها – كما بيّنا في أعلاه – هو حديث النفس والوساوس مما هو من أعمال القلوب، وتداعي الأفكار والخواطر العرَضية. بينما الآيات الأخرى فقد جاءت في سياق ومناط مختلف، فآية سورة البقرة {(لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا)} [27] موضوعها الرزق والكسوة، أي النفقة الواجبة على الأب، فهي في باب الكسب والأفعال والتصرفات والحقوق المالية ضمن العلاقات الاجتماعية، وأما الآية في سورة الأنعام (لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا)[28]، فهي في سياق الأخذ من مال اليتيم بالتي هي أحسن والوفاء بالكيل والميزان بالقسط، وهي جميعها تحت باب الكسب والمعاملات وأداء الحقوق المالية.
وأما الآية في سورة الأعراف {(لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا)} [29]، فهي في سياق مختلف عما سبقها إذ جاءت في معرض مخاطبة الكفار بالإيمان والعمل الصالح وأن ذلك تكليف لهم بالوسع ومآله جنة الخلد، أي هو سياق دعوة وتنبيه بأن الجنة يوصل إليها بالعمل السهل (كما ذكر الرازي)، وأن الإيمان والعمل به سهل (كما أشار ابن كثير). فهي من هذه الناحية تتحدث عن جنس التكليف وعمومه، ويشمل الإيمان والأعمال بأنواعها.
وتوضيحًا لما سبق نقول: إن نفي التكليف بما هو خارج عن الوسع والقدرة يشمل حديث النفس والخواطر والعزم من أعمال القلوب، كما يشمل الحقوق المالية والتصرفات والمعاملات من أعمال الجوارح، ويشمل أيضًا كافة أمور الدين من تكاليف الإيمان والأعمال وكل أنواع التكليف بأحكام الشريعة من حيث المبدأ.
ونختم هذه الفقرة بقوله تعالى في سورة المؤمنون { (ولاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا)} [30]، حيث جاءت في سياق كتاب الأعمال والحساب، عقب التحريض على فعل الطاعات والمسارعة فيه وبيان سهولته لسعته وقدرة الناس عليه.
ويجدر بنا هنا نقل تعليق الشيخ محمد متولي الشعراوي في تفسير هذه الآية من سورة المؤمنون، لدقته وروعة بيانه: “بعد أن تكلم الحق سبحانه عن المسارعة والمنافسة بيَّن أنها على قَدْر الوُسْع والطاقة، وأنه سبحانه ما كلّفك إلا بعد عِلْمه بقدرتك، وأنك تسع هذا التكليف، فإياك أنْ تنظر إلى الحكم فتقول: أنا أسعه أو لا أسعه، لكن انظر إلى التكليف: ما دام ربك قد كلّفك فاعلم أنه في وُسْعك، وحين يعلم منك ربك عدم القدرة يُخفِّف عنك التكليف دون أنْ تطلب أنت ذلك. والأمثلة على تخفيف التكاليف واضحة في الصلاة والصوم والحج.. الخ. والآن نسمع مَنْ يقول: لم تَعُد الطاقة في هذا العصر تسع هذه التكاليف، فالزمن تغيّر، والأعمال والمسئوليات كثرت، إلى غير ذلك من هذه الأقوال التي يريد أصحابها التنصّل من شرع الله. ونقول: ما دام التكليف باقياً فالوُسْع بَاقٍ، والحق – سبحانه وتعالى – أعلم بوُسْع خَلْقه وطاقاتهم. إذن: أنا أنظر أولاً إلى التكليف، ثم أحكم على الوُسْع من التكليف، ولا أحكم على التكليف من الوُسْع”.[31]
التكليف والقدرة والرّخَص الشرعية:
وهنا مسألتان ينبغي بيانهما لكونهما تختلطان أو تغيبان عمن يتصدون للقضايا المعاصرة، لا سيما الصعوبات والعقبات التي تواجه المسلمين عند التقيد بالأحكام الشرعية. المسألتان هما علاقة التكليف بقدرة المكلَّف، وبالرّخص الشرعية.
- القدرة: من المقرر في أصول الفقه أن القدرة شرط من شروط التكليف، تمامًا كالعقل والبلوغ، وهو من المسائل الثابتة في كتب أصول الفقه تحت مباحث الحاكم والمحكوم فيه والمحكوم عليه …، فالقدرة على الأداء شرط في وقوع التكليف كالقدرة على فهم الخطاب.
- الرخص الشرعية: أن ما نزل من أحكام وتشريعات تكليفية من التحليل والوجوب والتحريم، لا بدّ أنها تقع ضمن قدرة الإنسان وطاقته العادية، بتفاوت بين اليسر والمشقة غير العادية، وهي لا تخرج عن ذلك إلا في حالات وأسباب شُرعت لها رُخَص وأحكام خصصت الحكم التكليفي العام، من مثل العجز المقعد، والاضطرار الملجئ {(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)} [32]، والإكراه « (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه)» [33].
ومن أراد الاستزادة، فعليه مراجعة هذين المبحثين في مظانهما من كتب أصول الفقه. إلا أنه يجدر بنا هنا التأكيد على أن تحقيق حصول القدرة من عدمه لدى المكلف، أو تحقّق الرخص الشرعية بشروطها، يتطلب غالبًا التحرّي من قبل فقيه واع أو مجتهد نبيه، لأن ذلك يندر أو يصعب، أو يستحيل على الفرد بسبب فقدانه للأدوات والمعارف، أو لعدم تجرده عن الهوى!
التكاليف في منظومة المفاهيم الشرعية:
وقبل الختام، يتعين علينا وضع مفهوم التكليف في سياقه الصحيح في دين الإسلام وشريعته من حيث العبودية لصاحب الشريعة ومُصدِر التكليف، وهو الله سبحانه وتعالى:
- التكليف والمنفعة: لقد سيطر مفهوم النفعية والمصلحة الشخصية والظواهر المادية على كثير من المسلمين، حتى المتدينين، بل وسيطرت هذه المفاهيم المناقضة لنصوص القرآن والسنة على خطاب الكثير من الوعاظ وما يُطلق عليه “الدعاة الجدد” الذين يتوسّلون في مقارباتهم بربط التكاليف الشرعية بالفوائد والمصالح والمنافع كوسيلة للجذب والإقناع، ليس في أحكام المعاملات فحسب، بل حتى في أحكام العبادات والأخلاق. وهو ما جعل طاعة الله في أوامره ونواهيه، وحلاله وحرامه وقفًا على ما يراه الفرد، رجلاً أو امرأة، الشاب أو الفتاة، من منافع وفوائد يحققها لهم الحكم الشرعي، وأدى إلى تغييب المفاهيم الشرعية الأساسية من تسليم وطاعة ورضى وانقياد لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم. ونتج عن ذلك أن تركز في أذهاب عامة المسلمين أن الشرع لا يتعارض مع مصلحة الشخص، طبعًا كما يراها هو، لا كما شرعها علام الغيوب، الحكيم العليم، اللطيف الخبير!
- تحديد التكليف عمليًا: من المعلوم أن استنباط الأحكام الشرعية بما فيها التكاليف، منوط بالمجتهدين ممن توفرت لديهم أدوات الاجتهاد وعلومه اللغوية والشرعية، كما أن تنزيل الأحكام على واقع المسائل والمكلفين منوط بالفقهاء، وبمن تولى القضاء من المجتهدين والفقهاء. وذلك لأن جلّ الأحكام تستنبط بالدلالات والقرائن اللغوية الشرعية، ويكاد يلزم فيها كلها الجمع بين نصوص المسألة الواحدة في الكتاب والسنة، وإعمال قواعد التفسير وعلوم الحديث وعلوم اللغة، وعلوم الأصول كالإجماع والقياس. وكل ذلك لا يتأتى للمسلم العادي، أي من ينطبق عليه وصف المقلد العامي.
- التكليف ودار العمل: في خضم هذه الحياة يغيب عنا، في الفكر والهم والعمل والمكابدة، أن الحياة هي عرض زائل مؤقت، بأزمانها ومتاعها وهمومها وأفراحها وسكانها وكل ما فيها، والسبب بسيط وعميق: أن الحياة الدنيا دار عمل وهي في حقيقتها منزل عارض ومتاع ومعبر وممر، وأن الآخرة هي دار الجزاء والنعيم الدائم والمستقر {(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ. سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)} [34]، إلا أننا نغتر بطول الأمل فنفقد البوصلة، وتنقلب الوسائل عندنا إلى غايات، ويختلط الجوهر بالمظهر، فنؤخّر المُقدَّم ونقدّم المؤخّر. وهذا المفهوم هو أمر عقدي أساسي في إيماننا وليس أمرًا جزئيًا أو ثانويًا. بل هو عماد الإيمان بالدار الآخرة الذي هو أسّ العقيدة! ومن شأن الاستحضار الدائم لهذا الأمر الإيماني أن يجعل كل تكليف مهما بلغت مشقته وآلامه وتكلفته – النفسية والبدنية والمالية – أمرًا زائلاً ومؤقتًا، ومقدورًا عليه.
- التكليف والكدح: أكد القرآن حقيقة حسية إنسانية، يدركها المسلم وحتى غير المسلم، مفادها أن الكدح أساس بديهي في الحياة الدنيا، حيث يقول سبحانه وتعالى {(يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)} [35]. يقول الرازي في تفسيره: (أما قوله: {{إِنَّكَ كَادِحٌ}} فاعلم أن الكدح جهد الناس في العمل والكدح فيه حتى يؤثر فيها، من كدح جلده إذا خدشه، أما قوله: { { إِلَىٰ رَبّكَ } } ففيه ثلاثة أوجه أحدها: إنك كادح إلى لقاء ربك وهو الموت! أي هذا الكدح يستمر ويبقى إلى هذا الزمان، وأقول في هذا التفسير نكتة لطيفة، وذلك لأنها تقتضي أن الإنسان لا ينفك في هذه الحياة الدنيوية من أولها إلى آخرها عن الكدح والمشقة والتعب، ولما كانت كلمة إلى لانتهاء الغاية، فهي تدل على وجوب انتهاء الكدح والمشقة بانتهاء هذه الحياة، وأن يكون الحاصل بعد هذه الدنيا محض السعادة والرحمة). فهل لمن أدرك هذه الحقيقة القرآنية أن يفترض الدعة والاستمتاع والسهولة، الدائمة والشاملة، في كافة الأحوال والأزمان، وفي كافة التكاليف الشرعية، ثم يستحق بعدها ان يفوز بجنان الخلد عرضها السماوات والأرض؟
- التكليف والصبر: التكليف، كما مرّ معنا أعلاه، فيه شيء من المشقة والعناء والجهد. ولذلك كان طبيعيًا أن يشدد القرآن في مواضع كثيرة على الصبر[36]، وهو حبس النفس على ما تكره أو عما تحب، لما له من أهمية مركزية في حياة الإنسان لكي يواظب على تحمل التكاليف، وإن كانت في نطاق الوسع أصلاً، إلا أن تنوعها وتغير أوضاع الحياة وأحوال المكلَّف قد يتطلب مشقة فوق العادة، ويستدعي من المكلَّف سلاحًا عقديًا ونفسيًا وجلادة بدنية عمادها التربية والرياضة والتدريب. ويكفي أن نتلو قوله تعالى (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[37]، وقوله تعالى {(وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)} [38]، لنعلم أهمية الصبر ومكانته في ترسيخ الإيمان وتثبيت العمل، سواء في العبادات كالصوم والحج والجهاد، أو في المعاملات كالتجارة والمظالم والخصومات. على أن الصبر تأكد في القرآن بالتكاليف الشاقة والخطرة كالجهاد من جهة، وبالعقيدة كدخول الجنة والفلاح في الآخرة من ناحية أخرى؛ قال تعالى في سورة آل عمران { (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)} [39]. والصبر والجلادة هو من القيم والخصال الأساسية في حياة الناس، وهو في الإسلام ولدى المسلم له شأن كبير لا يصح ولا يجوز فصله عن الحياة اليومية العملية. بل هو منبع للطاقة الروحية والمعنوية التي مكنت الرعيل الأول من المسلمين من الثبات والتضحية ومهدت لانتصار الإسلام في مهده، وإلا فما معنى قول النبي عليه السلام، المؤيد بوحي ربه، لآل ياسر وهم يتألمون تحت التعذيب بسبب التكليف الأول وهو الأيمان: “صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة”[40]!؟
- التكليف والابتلاء: الابتلاء هو الاختبار، ولا يتنافى التكليف بالوسع مع الاختبار والتعرض للفتن (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ)[41]. وروي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – في قوله : {ونبلوكم بالشر والخير } حيث قال: “أي نبتليكم بالشر والخير فتنة بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال”. على أن الله جلّ وعلا قد أنزل حقائق قرآنية كانت تتنزل على أوضاع النبي عليه السلام وصحبه الكرام، لتنير الدرب للمسلمين بعدهم في كل زمان ومكان، وتبين السنن في شؤون الحياة المدنية والاقتصادية والمعيشية والحربية وغيرها، ممزوجة ومنسجمة مع التكاليف الشرعية وكيفية التعامل معها ومواجهتها لكي يدرك المسلمون عند تلاوتهم وتدبّرهم للقرآن، وسيرة النبي عليه السلام وصحبه الكرام، أن ما وقع بخير البشر من البديهي أن يقع بهم، وأن ما أصابهم أو يصبهم – أو سيصيبهم – من النوازل وأصناف الابتلاء لا سيما أثناء قيامهم بالتكاليف – كالجهاد مثلاً – ليس بجديد ولا حديث ولا خاص بهم، بل قد جرى لخير البشر من الأنبياء والرسل وأتباعهم، بمن فيهم خاتم النبيين عليه السلام وصحبه الكرام. قال تعالى {( إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)} [42]، فجعل الابتلاء بالقرح متساويًا بين المسلمين وغيرهم، إلا أنه معلول بإظهار حقيقة إيمان المؤمنين، وهي لعمر الله مكرمة أن يُبتلى المؤمن ليري الله من نفسه خيرًا ويترشح لنيل درجة الشهادة أملاً بالفوز فيها! فهو ليس فقط ابتلاء يتسق ويتناسق مع التكليف، بل هو فرصة لتحقيق الإيمان في مواطن التكليف الخطِر، وتصديق إيمان القول بالفعل ظاهرًا يقينيًا لا تردد فيه، ولو ترتب عليه الموت المحقق. ويقول سبحانه أيضًا {(وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)} [43]، وفيه دلالة واضحة على أن الألم ليس مبررًا للضّعف في تكليف الجهاد، وهو من باب أولى ليس مبررًا للتخلّف عن الجهاد بحجة “التكليف بما لا يطاق”. على أن المسلمين لا يختصون بالألم وحدهم، بل إن عدوهم من الكافرين – في الأمس واليوم – يتألمون أيضًا وهم لا يتخلّفون عن قتال أهل الإسلام بحجة “رفع المشقة” و”التيسير”، مع أنهم لا يرجون من الله تعالى حياة أبدية في الآخرة، فهم في نظرتهم المادية للحياة الدنيا وإنكارهم للبعث أولى الفريقين في الابتعاد عن التكاليف الخطرة على أرواحهم ومتاعهم في الحياة الدنيا! وفي المقابل، يبين سبحانه للمؤمنين الرابط بين الجهاد والقتل وبين والابتلاء والصبر {(وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)} [44]، وهذا أروع بيان لموقع الامتحان الخطِر عند القيام بأشرف التكاليف وهو الجهاد في سبيل الله.
- التكاليف الشرعية في ظل النظم الوضعية: إن من أعقد المسائل التي تواجه عامة المسلمين في عصرنا الحاضر، لا سيما العلماء والفقهاء والمفسرين، والدعاة أفرادًا وجماعات، هي وضع مفاهيم الإسلام وتشريعاته في سياق العصر الراهن وتحدياته، أي إنزال الأحكام الشرعية على الوقائع المتجددة والأوضاع المستحدثة، وفي مقدّمة هذه التحديات والمستجدات مسألة: انفصال الحكم وأنظمة المجتمع والدساتير والقوانين عن الإسلام عقيدة وشريعة في جل بلاد المسلمين، منذ قدوم الاستعمار الشرقي والغربي في القرن التاسع عشر والقرن العشرين إلى حين اندلاع الحرب العالمية الأولى. والذي جعل من انفصال الإسلام عن وقائع الحياة تحديًا تاريخيًا سيطرة عوامل الانحطاط لقرون عديدة في أوصال الأمة من تفشي التقليد وندرة الاجتهاد والتعصب للمذاهب، وظهور الفرق الباطنية والطرق الصوفية، ثم الجمعيات التبشيرية وبعثات التغريب وما تلاها من جمعيات سرية وأحزاب علمانية وقومية، وقبلها وبعدها الاستعمار العسكري والتشريعي والثقافي، والسياسي والاقتصادي، وما تلاه من أنظمة غربية. يصعب معها تصوّر الأحكام الشرعية، ناهيك عن تطبيقها، في ظل الوضع القائم المتناقض بين المسلم الذي يريد التقيد بالتكاليف الشرعية وبين الواقع القائم في المجتمع والقانون المتعارض مع الأحكام الشرعية، وما فتاوى القروض الربوية – بذريعة الضرورة والحاجة – إلا مثالاً نموذجيًا متجددًا. والأحكام الشرعية كلها متجانسة ومتناسقة يأخذ بعضها برقاب بعض، ولا يمكن الفصل بينها. فلا يمكن مثلاً الفصل بين أحكام وشروط عمل المرأة بأحكام الخلوة والاختلاط والعورة والتبرج. وكذلك لا يمكن الفصل بين أحكام التجارة والربا والصرف. ولذلك فمن البديهي أن تنشأ صعوبة، أو تعارض أو تناقض بين التكاليف الشرعية وبين الدساتير والقوانين الوضعية، أو النظام الرأسمالي في المعاملات الاقتصادية والمالية مثلاً. أو نظام التعليم الغربي في التربية والتثقيف، أو نظام الحكم الديمقراطي في التشريع. والأمثلة على ذلك باتت لا تحصى من كثرتها في شؤون المسلمين، حتى وصل التعارض إلى البقية الباقية من الأحكام الشرعية التي أبقاها المستعمر سائرة وفق الأحكام الشرعية بعدما فصل بين القضاء الشرعي والقضاء المدني في العديد من البلاد الإسلامية التي انسحب منها عسكريًا خلال القرن العشرين، بعد أن اطمأن إلى استقرار الدساتير الوضعية الغربية والأوضاع والنظم التي أنشأها وفوّضها إلى وكلائه من السياسيين والأحزاب العلمانية. وتلك البقية الباقية هي ما يُطلق عليه في بلاد المسلمين بالأحوال الشخصية، من زواج وطلاق ونفقة وقوامة، والتي باتت في السنوات الأخيرة تتعرض لحملات تقويض تشريعية وإعلامية. وهنا تبرز الحلقة المفقودة لدى عدد من المفتين والدعاة لعدم إدراكهم، أو في إهمالهم أو إغفالهم لسبب صعوبة قيام الفرد المسلم، أو جماعة المسلمين، بالتكاليف الشرعية التي يفترض أن تكون عادية، أو فيها مشقة عادية، أو غير عادية، إلا أنها تصبح شاقة جدًا بل أحيانًا مستحيلة بسبب القيود أو المحرمات التي يفرضها القانون الوضعي، كإنشاء قرض أو رهن غير ربوي مثلاً، سواء لغرض السكن أو الدراسة أو التجارة أو العلاج. وبدلاً من بيان حقيقة أن التكاليف الشرعية ليست هي المشكلة، وليست هي التي تتعارض مع “روح العصر” والزمان والمكان، بل إنها سهلة ميسورة، لكن المشكلة تكمن في تناقض نظام المجتمع، الوضعي الغربي، مع الأحكام الشرعية. فالشرع لا يتناقض مع نظام الحياة، بل نظام المجتمع القائم على فصل الدين – أي الإسلام – عن قوانين الدولة وأنظمة المجتمع هو الذي يتناقض مع الأحكام الشرعية ويجعل من التكاليف الشرعية أمرًا شاقًا وعسيرًا، ثم تفتح أبواب الإعلام مشرعة لدعاة “التيسير” ومفتي “القنوات” ليسقطوا التكاليف الشرعية بحجة أنها خارج الوسع، وبدعوى رفع الحرج ورفع المشقة، وبحجة التيسير والضرورة ..
- التكليف في تاريخ المسلمين: وقبل الختام، نورد هنا بعض الأمثلة الظاهرة للتدبر، وإثارة التفكير، وأخذ العِبَر:
- ماذا لو فهم الصحابة “الوسع” بالمفهوم الشائع اليوم؟ فهل كان أبو بكر رضي الله عنه، سيسحق تمرد قبائل العرب من المرتدين ومانعي الزكاة، وينفّذ في الوقت ذاته جيش أسامة لحرب الروم في الشام؟
- ماذا لو فسر سلاطين آل عثمان “الوسع” في سياق الجهاد كما يفسره علماء اليوم، هل كانوا سيفتحون القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية ويجتاحون أوروبا الشرقية ويحاصرون فيينا؟
- ماذا لو تأول قادة الأيوبيون “الوسع” كما يتأوله خطباء اليوم، فهل كانوا سيخوضون معركة حطين بقيادة صلاح الدين، ويحررون بيت المقدس ويطردون الصليبيين من بلاد الشام؟
- وماذا لو فهم قادة المماليك “الوسع” كما يفهمه فقهاء اليوم، فهل كانوا سيسحقون المغول في عين جالوت ويردوا المغول عن بلاد المسلمين خائبين؟
الخاتمة:
وفي الختام نقول: إن التصور لدى بعض المسلمين، بمن فيهم دعاة ووعاظ ومفتون، بأن التكاليف الشرعية – لا سيما الشاقة والمُكلِفة منها – لا تتناسب مع “سماحة الإسلام”، و”مصلحة العباد”، و”يسر الشريعة” و”صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان”، لهو تصور مغلوط وخطير. فهو أولاً يتجاهل أو يُضعِف مفاهيم عقدية وحقائق قرآنية أساسية، يقوم عليها التكليف بالأحكام الشرعية لدى الفرد والجماعة والأمة.
وهو ثانيًا يوطئ لتبرير التفلّت من التكاليف الشرعية بحجة أن التكليف، المتعيّن على الفرد والأمة في الوقائع والنوازل، يتعارض بما يُطلقون عليه “مبادئ الشريعة” و “مقاصد الشريعة”. وهو تناقض متوهّم أو مفتعل يؤدي إلى ضرب نصوص الشرع بعضها ببعض.
وثالثًا، فهو تصور يغفل أن المشرّع ليس مشرعًا وضعيًا، إنسانًا يعتريه النقص والنسيان والقصور ومحدودية الزمان والمكان، بل هو الله العليم الخبير، الذي أحاط بعلمه كل الوجود، الإنسان والزمان والمكان، فلا يخفى عليه حال الإنسان في أي زمان ومكان، فلا يشرّع له ما ليس في وسعه أي طاقته وقدرته، فثبوت التكليف تشريعيًا هو بذاته دليل على وجود الوسع، وقد جاءت أحكام الرخص والتخصيص والاستثناء تأكيدًا على هذه الحقيقة. ومن ناحية أخرى، ففي هذا المنهج إغفال وإهمال لقواعد الفقه وأصوله، حيث ينبغي على الفرد المسلم اكتساب الحد الأدنى من المعارف الشرعية والثقافة الإسلامية، التي تمكّنه من فهم العقائد والأحكام وقواعد العلوم الشرعية – المستنبطة من الكتاب والسنة والعربية – ليتكون لديه اعتقاد صحيح، وفهم سليم، وتطبيق رشيد {(وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)} [45]، وقدرة على مغالبة صعاب الحياة بهدي من نور الوحي مصداقًا لقوله تعالى { (يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)} [46]، صدق الله العظيم.
[1] سورة البقرة آية 286.
[2] مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، ص 80.
[3] سورة الأحقاف، آية 17.
[4] أخرجه النسائي وابن المنذر والحاكم وصححه، والبخاري برواية مختلفة.
[6] الأنعام، 152 والأعراف 42.
[8] مادة وسع، لسان العرب والقاموس المحيط.
[9] مادة طوق، القاموس المحيط ولسان العرب.
[10] مادة كلف، الصحاح في اللغة ولسان العرب.
[11] مادة كلف، القاموس المحيط.
[12] لسان العرب.
[15] جامع البيان.
[18] الجامع لأحكام القرآن.
[20] روح المعاني.
[23] مفاتيح الغيب.
[24] تفسير القرآن العظيم.
[25] روح المعاني.
[26] سورة البقرة 286.
[28] الأنعام، 152.
[30] المؤمنون 62.
[33] حديث حسن رواه ابن ماجة والبيهقي
[36] زادت عن مئة موضع.
[38] آل عمران 146.
[39] آل عمران 142.
[40] حسن صحيح، أخرجه الطبراني والحاكم.
[41] الأنبياء 35.
[42] آل عمران 140.
[44] البقرة 154-155.
Source link