الدعاء هو روضة القلوب، وهو أُنْس الأرواح، والدعاء سلاح المؤمن، ونجاة له من الفتن والمحن؛ يقول شيخ الإسلام: “الدعاء السلاح الفَتَّاك، والعسكر الذي لا يغلب”.
الحمد لله مجيب الدعاء، كاشف الضر والبلاء، لا يرد سائلًا، ولا يخيب راجيًا، فهو أهل الفضل والثناء، أحمده على نعمه العظيمة التي لا تُحصى، وأشكره في السر والنجوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث إمام الأتقياء، وسيد الأصفياء، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأعلام، وعلى من تبعهم بإحسان أزكى تحية وأعطر سلام، أما بعد:
أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
عباد الله، روى مسلم في صحيحه: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ» : {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِي بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!».
أيها المسلمون، الدعاء هو روضة القلوب، وهو أُنْس الأرواح، والدعاء سلاح المؤمن، ونجاة له من الفتن والمحن؛ يقول شيخ الإسلام: “الدعاء السلاح الفَتَّاك، والعسكر الذي لا يغلب”. الدعاء هو أصل العبادة ولُبُّها، ففي سنن الترمذي قال صلى الله عليه وسلم: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»، وفي رواية «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ»، وإذا كان للدعاء هذه المكانة العظيمة، وتلك المنزلة الرفيعة من الدين، فينبغي على العبد المؤمن أن يأتي بالأسباب التي تجعل الدعاء مقبولًا عند الله تعالى، ومن جملة تلك الأسباب: الحرص على الحلال في الغذاء، واللباس، وهذا ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، حينما تلا قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172].
ففي هذا الحديث يبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قد يجتهد العبد في الدعاء ويبذل كل الأسباب التي تحقق الإجابة؛ ولكن لا يكون ذلك، فما هذه الأسباب التي حققها هذا الداعي، وما المانع الذي ارتكبه فحرمه إجابة الدعوة يا ترى؟ فاسمع هداك الله لهذه الأسباب.
أولًا: (يُطِيلُ السَّفَرَ)، والسفر بمجرَّده من أسباب إجابة الدعاء، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «ثَلاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ»؛ (رواه الترمذي وغيره)، والمسافر يحصل له في الغالب انكسار نفس نتيجة المشاق التي تعتريه في سفره، وهذا يجعله أقرب لإجابة دعائه.
ثانيًا: (أَشْعَثَ أَغْبَرَ)، وهذا يدل على تذلُّـلِه وافتقاره، بحصول التبذُّل في هيئته وملابسه، ومن كانت هذه حاله كان أدعى للإجابة؛ إذ إن فيه معنى الخضوع لله تعالى، والحاجة إليه.
ثالثًا: (يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ)، والله سبحانه وتعالى كريم لا يرد من سأله، روى الترمذي وغيره، (عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ».
رابعًا: ما ورد من إلحاحه في الدعاء ومناجاته لربه: (يَا رَبِّ، يَا رَبِّ)، وهذا من أعظم أسباب إجابة الدعاء؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرر ما يدعو به ثلاثًا، ففي مسند أحمد (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ – قَالَ: “كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُعْجِبُهُ أَنْ يَدْعُوَ ثَلاثًا وَيَسْتَغْفِرَ ثَلاثًا“.
فهذه أربعة أسباب لإجابة الدعاء، وقد أتى بها هذا الرجل كلها؛ ولكنه مع الأسف، فقد أتى بمانع واحد، فهدم هذه الأسباب الأربعة كلها وهو الكسب الحرام، فقال صلى الله عليه وسلم: «وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِي بِالْحَرَامِ»، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكسب الحرام، فقال صلى الله عليه وسلم: «يَا كَعْب بْنَ عُجْرَةَ، إِنَّهُ لا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ»؛ (رواه الترمذي وحسنه)، وفي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لا يُبَالِي الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ أَمِنَ الْحَلالِ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ»، ثم قال صلى الله عليه وسلم مستفهمًا، ومستنكرًا ومستبعدًا: «فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ»؟!؛ أي: كيف يستجيب الله دعاءه؟! وهل تنتظرون أن يكون من هذا حاله أن يكون مستجاب الدعاء؟
أيها المسلمون، من أهم الدروس والعبر التي نستلهمها ونستخلصها من هذا الحديث النبوي الكريم: أنه يستنبط من الحديث حقيقة مهمة؛ وهي: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ»، والمعنى: أنه سبحانه وتعالى منزه عن كل نقص وعيب، فهو الطيب الطاهر المقدس، المتصف بصفات الكمال، ونعوت الجمال، وما دام هو سبحانه كذلك، فإنه تعالى: «لا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا»، فهو سبحانه إنما يتقبل من الأعمال ما كان صالحًا طيبًا مطهرًا، خالصًا من شوائب الشرك والرياء، كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
ويستنبط أيضًا: الأمر في التعامل المالي بالحلال، والحذر من التعامل بالحرام، وهو تحذير لكل عامل في هذه الحياة سواء كان معلمًا أن يخلص في عمله، أو بناءً أو نجَّارًا، أو حدَّادًا أو سبَّاكًا أو أي مهنة كانت أن يتقي الله في مهنته فلا يغش في مهنته، ولا يكذب فيها، ولا يختلس من الأدوات والأموال التي اؤتمن عليها بغير إذن صاحبها، أو لا يتم عمله على حسب الشروط التي بينه وبين صاحبه، وعلى من استأجر عاملًا أن يوفيه حقَّه بعد التمام، ولا ينقص منه شيئًا أو يظلمه.
فلا تُدخِل بيتك طعامًا أو شرابًا أو ملابسَ من كسب خبيث، فتكون سببًا في حرمانك إجابة الدعاء أو بلاءً على أهلك وولدك، وهذه عقوبة من الله، بل حتى الصدقة من الحرام لا تقبل، فالله طيِّب لا يقبل إلا طيِّبًا.
فاتقوا الله عباد الله، وصلوا وسلموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
____________________________________________________
الكاتب: يحيى بن إبراهيم الشيخي
Source link